إميل أمين يكتب : مفاجأة ترامب .. رجل دولة في الأمم المتحدة
قبل انطلاق أعمال الدورة الـ 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، تسربت أخبار كثيرة عن المفاجآت التي يعدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي سيفجرها من فوق منصة الهيئة الأممية، خلال الكلمة الأولى له من على هذا المنبر العالمي.
لم تكن علاقة ترامب بالأمم المتحدة خافية على أحد، وهو من وصفها من قبل بأنها “ناد للتسلية وتمضية الوقت”.. وقد كان وصفه أقل حدة من “جون بولتون” صقر المحافظين الجدد، الذي طالب بهدم عشرة أدوار منها دون أن يتأثر بها شئ، بمعنى أنه لا قيمة لها.
لكن لماذا اهتم العالم على هذا النحو بخطاب ترامب؟ وهل جاء الخطاب على المستوى المتوقع؟
ترامب مالئ الدنيا وشاغل الناس
عندما يتحدث ساكن البيت الأبيض، فأنت أمام رجل يملأ الدنيا ويشغل الناس، مهما يكن من شأن شخصه، عقلانيًا، موضوعيًا أو بخلاف ذلك، اذ هو في كل الأحوال قابض على مقدرات أمور دولية عديدة، وصانع قرارات أممية، ومتحكم في تحركات علنية وسرية، عطفا على أنه الرجل الذي تجوب أساطيله البحرية العسكرية مياه المحيطات طوال الأربع وعشرين ساعة على مدار اليوم.
مهما يكن من أمر.. فإن الذين تابعوا خطاب الرجل وقر لديهم أنهم أمام تحسن واضح جدا في مستوى اللغة التي يستخدمها الرئيس قليل إن لم يكن معدوم الخبرة على الصعيد السياسي المحلي، فما بالك بالعالمي؟!.. وهذا مرده ولاشك الى المشيرين من حوله وكبار مستشاريه وكتاب خطبه، وهي دائرة شهدت في واقع الحال تطورات عديدة في الأشهر الماضية، حيث انسحب منها عدد من كبار الذين جاء بهم، أو إن شئت الدقة جاءوا به الى البيت الأبيض، وفي مقدمهم “ستيف بانون”، وحل محلهم جنرالات البنتاجون أصحاب الأربعة نجوم.
اهتمام بالدولة الوطنية القومية
يستلفت النظر في خطاب ترامب عدة نقاط حيوية، أولاها أن لغة الرجل لم تكن استعلائية أو إقصائية كما عودتنا خطابات أمريكية سابقة عديدة، لا سيما في زمن المحافظين الجدد بنوع خاص، أولئك الذين ذهبوا بعيدا في تدمير كثير من دول منطقة الشرق الأوسط، لحساب شعارات زائفة لا علاقة لها بالواقع، مثل نشر الديمقراطية، وإشاعة الحريات، وتحرير الشعوب من الطغاة، كما جرى الحال في العراق وأفغانستان من قبل.
تكلم ترامب بموضوعية شديدة عن وجوب احترام فكرة الدولة الوطنية، وهو أمر يجافي وينافي طروحات سابقة أميركية سعت إلى إسقاط دول وأنظمة، واتهمت البعض الآخر بالفشل تمهيدا لاسقاطها، وتحدث بعض جنرالات البنتاجون في أعقاب غزو العراق عن خطط لغزو 7 دول شرق أوسطية في خمس سنوات، لولا المستنقع العراقي الذي أوقف أحلام وأوهام الامبراطورية الأميركية للمحافظين الجدد في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ترامب والرهان على “أمريكا القوية”
لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن ترامب أظهر للعالم أن أمريكا القوية لا تزال قائمة وقادمة أيضا، وما التصريح برقم موازنة وزارة الدفاع الأمريكية لهذا العام والتي تصل الى 700 مليار دولار إلا ضربًا من ضروب الغشارات التي لا تخطئها العين للاهتمام بإعادة بناء القوة العسكرية الأمريكية من جديد، وذلك لضمان بقاء الهيمنة الأمريكية على العالم طوال العقد الحالي، دون أي مقاربة أو مقارنة مع قوى أخرى بعينها.. لا سيما الصين وروسيا.
هنا يطل علينا سؤال برأسه من نافذة الأحداث..”هل ترامب هو صانع سياسات أم منفذ لها” ؟
الجواب يأخذنا إلى دائرة البنية الهيكلية للمؤسسة الأمريكية «الاستبلشمنت»، وهي مؤسسة عميقة ومتشعبة، وما هو ظاهر منها على السطح أقل بكثير مما هو خاف، ما يعني أن الرئيس ومهما كانت درجة كاريزميته، في نهاية المطاف خاضع لتوجهات تلك القوى، وإن أسبغت عليه رسميًا أشكال الاحترام والسمع والطاعة، لكن يبقى الفعلة الحقيقيون في الكرم الأمريكي هم المؤسسة العسكرية.
كوريا وصراع في المحيط الهادي
استخدم ترامب لغة حاسمة وحازمة.. وربما لأول مرة في تاريخ الرئاسة الأمريكية وفي تاريخ الأمم المتحدة، نرى رئيسًا يعتلي منصة الجمعية العمومية مهددًا ومتوعدًا بتدمير دولة أخرى عضو في المنظمة الأممية وسحقها ومحقها من على وجه خريطة الكون.
الدولة التي يقصدها ترامب معروفة للجميع، فقد كان يقصد كوريا الشمالية ونظام بيونغ يانغ، وزعيم النظام “كيم أونغ”، والسبب هو برنامجه للصواريخ الباليستية، غير أن ترامب ترك الرواية دون خاتمة رغم التهديد، بمعنى أنه قال حال تهديد أمريكا فإنها ستعمد الى «سيناريو يوم القيامة»، لكنه لم يقل ما إذا كان هذا التهديد يعني مجرد امتلاك الصواريخ الباليستية أو القنابل النووية أو المضي قدما في التجارب وتطويرها من أجل حيازة أسلحة بهذه الإمكانيات، أم التهديد يعني مباشرة توجيه صواريخ نحو أهداف أمريكية؟.
حتى تلك الأهداف تبقى غير واضحة المعالم، فهل يقصد الأراضي الأمريكية وراء المحيط الأطلنطي، أم الوجود الأمريكي في المحيط الهادئ، كما جزيرة غوام، وكوريا الجنوبية، والقواعد العسكرية الأمريكية في اليابان؟.. وربما يكون الغموض من النوع المقصود، ليفسح المجال لقراءات وتأويلات عطفا على تفسيرات عديدة، تتيح له الإقدام عندما يريد، والإحجام حال أراد التنصل من أحاديث التهديد لاحقا.
في مواجهة عنف وفوضى إيران
أظهر ترامب إرادة قوية، وفهما واضحا لخطورة إيران في المنطقة، وعلى العالم، وإذا كان الرجل معروفا من قبل برفضه للاتفاق النووي الذي وقعته السداسية الدولية مع طهران، فإنه ومن على المنصة أشار الى كارثية المشهد الإيراني الداعم للفوضى والعنف عربيا وعالميا، ومما ذكره يستشف المرء أن الاستراتيجية القادمة تجاه إيران سوف تكون مزعجة جدًا لآيات الله، وأن الدور التخريبي لطهران على حد وصفه لا ينبغي له أن يستمر طويلا، وبخاصة من قبل الإيرانيين أنفسهم الذين سئموا حكاما أسماهم ترامب «نظام القتلة»، ويكاد يكون المشهد دعوة لثورة داخلية ينتفض فيها الشعب الإيراني من جديد ضد جلاديه الذين أهدروا ثروته المالية والتراثية على أوهام تصدير الثورة الى دول الجوار، والاختباء تحت عباءات دوجمائية دينية طائفية، وإن كان المشروع السياسي واضحًا من خلفها وضوحًا شفافًا ويراه العالم أجمع في ذات الوقت.
يزعج خطاب ترامب نظام الملالي، سيما وأن الرجل يعد لهم استراتيجية قد تكون مكلفة جدا لهم، بعد ما فعله باراك أوباما من تسهيل عقد الصفقة النووية معهم لأسباب ربما تكشف عنها قادم الأيام، وهذا يدلل على أن ترامب ليس بالرئيس «لين العريكة» الذي يمكن أن يستسلم في مواجهة معارك الدول المارقة كما أطلق على بعض الأعضاء في الأمم المتحدة.
ترامب .. عن قطر والإرهاب المستتر
توقف الكثيرون أمام لفتات وايماءات ترامب عن أولئك الذين يدعمون الإرهاب حول العالم، وربما كانت المسألة موجهة لقطر بنوع خاص، والتي حاول أميرها استجداء المجتمع الدولي في كلمته، ولم يتبق أمامه إلا البكاء بين يدي الرئيس الأمريكي كما فعل، غير أنه نسى أو تناسى أن الدول العظمى إنما تقيم وزنا للمصالح لا للمشاعر، وأنه إذا كان الرهان على القاعدة العسكرية، فقد سبق ترامب وصرح أكثر من مرة بأن هناك أكثر من دولة في المنطقة ترحب بهذه القاعدة، وأن المصالح الاستراتيجية الأمريكية مع الدول العمدة في المنطقة تبقى استراتيجيا متقدمة، سيما وأن أحاديث كثيرة تسربت الأيام القليلة الماضية، مفادها أن هناك قاعدة عسكرية أمريكية اسرائيلية في طريق الإنشاء سوف تسحب البساط من تحت أقدام قاعدة “العٍديد” العسكرية، وربما تكون بديلا استباقيا لها، وهو أمر لو فهم جيدا القائمون على الحكم في الجزيرة الصغيرة “قطر” معناه ومغزاه، لما عمقوا الشقاق والفراق مع الأشقاء في الخليج العربي أو مصر، ولعرفوا أن الرهان يجب أن يكون أبدا ودوما على الحصان، لكن الحصان الرابح وليس أي حصان، وبخاصة إذا كان تركيًا أو فارسيًا ، وفيهما الأصل والعرق مختلف. وإن أظهرا مودة سطحية اليوم، فإن ذلك ناتج عن مصالح براجماتية اقتصادية، أو مكايدات سياسية سوف ينتهي أجلها عما قريب.
.
خطة ترامب لاصلاح الامم المتحدة
لا يمكن للمرء في قراءة سريعة مثل هذه أن يحيط علمًا وتحليلاً بكل ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي، غير أن قضية إصلاح أحوال الأمم المتحدة تبقى واحدة من أهم القضايا التي تناولها ترامب، غير أنه لم ينس ولا يبدو أنه سيقدر له أن ينسى ذات يوم أنه صانع صفقات، وأنه سمسار عقارات ناجح، لذا فكل الأمور لديه توزن بحسابات الربح والخسارة، كم سيتكلف وكم سيربح؟.
قال البعض من قبل إن حديثه عن نصيب أمريكا في موازنة الهيئة الأممية إنما يقصد منه مزيد من التحكم في مصائرها وأقدارها، وآخرون ذهبوا إلى أن الرجل ينتوي فعلا إحداث طفرة جذرية في البنية الهيكلية لمؤسسة ربما تجاوزتها صنوف الدهر بعد سبعة عقود ونيف على انشائها، لكن في كل الأحوال أظهر ترامب أهمية الأمم المتحدة كمؤسسة تسعى لحفظ السلم والأمن الدوليين، طالما كانت هناك إرادات دولية لانتشال المؤسسة من البيروقراطية التي تعرقل في رأي ترامب عملها، مشيرا إلى أنه عليها أن تركز بشكل أكبر على الناس وبشكل أقل على البيروقراطية.
ماذا عن روسيا وإشكالية المناخ؟
على أن الملاحظ للخطاب يرى أنه كُتب بعناية فائقة كفلت للرجل الهروب من الحديث باستفاضة في ملفات خلافية دولية على درجة عالية من الأهمية الأممية، وفي المقدمة منها ملف روسيا وملف المناخ العالمي.
الملاحظ في كلمة ترامب إنه لم يتوقف كثيرا عن العلاقة مع روسيا، فقط تماس مع الأزمة الأوكرانية بخفة وسرعة ملحوظتين، وكأنه لا يريد أن ينكأ جرحا خطيرا، يمكن أن يسرع بإدانته، ذلك أن ملف التواصل بين ترامب وحملته الانتخابية، وكذا بعض من أبنائه مع أطراف روسية لا يزال سيفا مسلطا على رقبة الرجل، ويمكن للمحقق موللر متى شاء أن يرفع الأمر إلى الكونجرس وتوجيه اتهام بالخيانة العظمى ومن ثم الإجبار على الاستقالة أو الإقالة.
لم يولي ترامب أي اهتمام لملف التغير البيئ والمناخي، وهو الذي انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، لأسباب اقتصادية تتصل بأحوال الداخل الأمريكي المالية.
وفي كل الأحوال يمكن القول إن الرجل الأمريكي “الرئيس” الذي تحدث من على منصة الأمم المتحدة أمس بدا كرجل دولة قوي قادم، وكثيرا ما حدث ذلك في التاريخ الأمريكي، إذ يعتبر بعض الرؤساء في سنواتهم الأولى ضعفاء، ثم لا يلبثوا أن يغيروا التاريخ، حدث ذلك مع رونالد ريجان أوائل الثمانينات، إذ اتعبره البعض “مشخصاتي” قادما من كاليفورنيا، فإذ به يهزم الاتحاد السوفيتي دون حرب.
من على منصة الأمم المتحدة، كانت المفاجأة الوحيدة، وهي ظهور ترامب كرئيس كاريزماتي إذا قدر له أن يكمل مشواره الرئاسي.