يبدو أن ملفات حرب السويس ما زالت مفتوحة في المنطقة، مع اختلافات “التكتيك” وثبات “الإستراتيجية ” الغربية، بعد مرور 60 عاما على العدوان الثلاثي “البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي” على مصر، في حرب غيرت ميزان القوى في الشرق الأوسط، وقطعت “ذيل الأسد” بحسب تعبير الزعيم السوفيتي “نيكيتا خروشوف” وكان المقصود هو الأسد البريطاني، بينما أنهت الموقعة الكبرى 1956 سلطان ونفوذ الإمبراطورية، بالنسبة للقوتين الأعظم في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا.
العدوان الثلاثي على مصر كان نقطة تحول في تاريخ منطقة الشرق الأوسط، إذ أنهى قبضة الاستعمار الفرنسي البريطاني على المنطقة، وفتح المجال أمام كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي للدخول فيها كقوتين عُظميين، يسعيان إلى أن يرثا المستعمرين السابقين، ويحققا مصالحهما الذاتية في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة، بكنوزها المطمورة في باطن أرضها، وما يحيط بها من مياه دافئة، فضلاً عن توسطها قلب العالم.
وصدرت عن وزارة الخارجية الأمريكية مجموعة مقالات (سياسية – تحليلية وتأريخية) تتعرض لما سمته الخارجية بأحداث تاريخية هامة ذات أبعاد دولية إستراتيجية، مثل أزمة غيرت ميزان القوي في الشرق الأوسط “أزمة السويس”.
ويؤكد بيتر هان، أستاذ التاريخ الدبلوماسي في جامعة ولاية أوهايو، والمدير التنفيذي لجمعية مؤرخي علاقات أمريكا الخارجية، أن أزمة السويس التي انتهت أو حلت بسرعة، كان أثرها الكبير على ميزان القوى في الشرق الأوسط، وقوضت السيطرة التقليدية التي كانت للقوى الأوربية “بريطانيا وفرنسا” على المنطقة، وأن جمال عبد الناصر في المقابل لم يجتز هذه الأزمة فقط، بل ضمن مستوى أعلى من المكانة والشعبية بين الشعوب العربية كقائد قضى على الامبراطوريات الأوربية وصمد أمام غزو عسكري ثلاثي.
ورغم أن عبد الناصر لم يظهر انحيازا سريعا ليكون مواليا للاتحاد السوفيتي، الا أن مسؤولين أمريكيين أبدوا تخوفا من أن التهديدات السوفيتية ضد الحلفاء الأوربيين نجحت في تحسين صورة موسكو لدي الدول العربية، كما بدت إمكانية دفع سلام عربي اسرائيلي معدومة في المستقبل القريب.
وكرد فعل لتداعيات حرب السويس أعلن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ما عرف بـ”عقيدة أيزنهاور”، في بداية عام 1957 من أجل احتواء الشيوعية في الشرق الأوسط. ولتطبيق تلك الخطة قام المبعوث الرئاسي جيمس ريتشاردز بجولة في المنطقة وزع خلالها عشرات الملايين من الدولارات، كمساعدة اقتصادية وعسكرية لكل من تركيا وإيران وباكستان والعراق والسعودية ولبنان وليبيا.
ويرى المؤرخ الأمريكي بيتر هان، أن حرب السويس تعد حدثا هاما وفاصلا في تاريخ سياسة أمريكا الخارجية. وذلك بإسقاط الافتراضات التقليدية في الغرب حول الهيمنة الانجلو الفرنسية في الشرق الأوسط، وباستفحال مشاكل القومية الثورية التي تجسدت في الزعيم المصري “ناصر”، وبإذكاء نار النزاع العربي-الإسرائيلي، وبتهديد السماح للاتحاد السوفيتي بالتسلل داخل المنطقة، ولذلك فان أزمة قناة السويس سحبت الولايات المتحدة نحو انخراط حقيقي وهام وممتد في منطقة الشرق الأوسط.. وهكذا بقيت ملفات السويس مفتوحة!
60 عاما.. على حرب شنتها كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، وكان واضحا توافق أطراف العدوان الثلاثي، على أسباب الحرب وغزو مصر: وهي الدعم المصري لثورة الجزائر بالسلاح والمال والمدربين الأمر الذي هدد التواجد الفرنسي في أفريقيا، وكسر احتكار السلاح، بعد توقيع مصر اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي تقضي بتزويد مصر بالأسلحة المتقدمة والمتطورة بهدف تقوية القوات المسلحة لردع إسرائيل، وتأميم قناة السويس الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر في 26 يوليو 1956، وقيام حركة الضباط الأحرار الأردنيين بطرد قائد الجيش الجنرال غلوب باشا، وتعريب قيادة الجيش الأردني.
البداية كانت في اإحدى ضواحي باريس، حين اتفقوا ليلاً في معاهدة “سيفر” التي وقعت مساء 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1956 على أن تقوم القوات الإسرائيلية بمهاجمةسيناء، وحين يتصدى لها الجيش المصري تقوم بريطانيا وفرنسا بالتدخل وإنزال قواتهما في منطقة قناة السويس ومحاصرة الجيش المصري. نفذت إسرائيل هجومها على سيناء ونشبت الحرب. فأصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذاراً بوقف الحرب وانسحاب الجيش المصري والإسرائيلي لمسافة 10 كم من ضفتي قناة السويس مما يعني فقدان مصر سيطرتها على قناة السويس وحين رفضت مصر نزلت القوات البريطانية والفرنسية في بور سعيد ومنطقة قناة السويس، فأصدر الاتحاد السوفيتي إنذاراً بضرب لندن وباريس وواشنطن وتل أبيب بالصواريخ الذرية، وأمرت أمريكا بريطانيا وفرنسا بالانسحاب الفوري من الأراضي المصرية وانتهت الحرب بفضيحة كبرى، وفشلت طلعات طائرات “الكانبرا” البريطانية والطائرات “F- 84” الفرنسية، في تحقيق أهداف حرب السويس.
وانفردت تلك الحرب أيضا عن سائر الجولات التي سبقتها أو أعقبتها بأنها كانت الوحيدة التي اشتركت فيها قوات مسلحة من خارج منطقة الشرق الأوسط بصورة سافرة، ما أدى إلى تعدد اتجاهات العدوان التي اشتملت أيضاً على كل أوجه المعركة الحديثة للأسلحة المشتركة من تقدم إلى أرض المعارك، وهجوم، ودفاع، وانسحاب منها، فضلاً عن الغزو البحري، والاقتحام الجوي الرأسي، والقتال الجوي والبحري المنفرد، والعمل الفدائي النشط.
ومر سير العمليات بأربع مراحل هي: المرحلة الأولى 29 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول (مرحلة العدوان الإسرائيلي) ..المرحلة الثانية 31 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 4 نوفمبر/ تشرين الثاني (اكتشاف التواطؤ وسحب القوات المصرية من سيناء) .. المرحلة الثالثة 4 ـ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني (تركيز الدفاع المصري غرب قناة السويس) .. المرحلة الرابعة 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 ـ 6 مارس/ آذار 1957 (الضغط السياسي والعسكري وانسحاب العدوان).