في الحلقة الثالثة من مذكرات السيياسي المصري البارز، عمرو موسى، وزير الخارجية والأمين العام الأسبق للجامعة العربية، يكشف تفاصيل الحرب الدبلوماسية التي خاضتها مصر ضد محاولات «جبهة الرفض» التي تشكلت من عدد من الدول العربية – لعزل مصر دولياً بطردها من المنظمات الإقليمية والدولية عقاباً لها على توقيع اتفاقية السلام مع «إسرائيل»، التي استعرضها موسى في الكتاب من وثائقها الرسمية :
المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت في مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي العاشر في فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر المقرر افتتاحه في 8 مايو/أيار 1979. وعندما شرعت القاهرة في التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة. كنت عضواً في الوفد المصري الذي تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامي، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامي يتعامل من دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر في مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان أثناء التحضير للقمة يعطي مواعيده من دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب..»، وهو ما جعلني أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة، وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامي، وكانت الأدبيات السياسية مملوءة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة.
موقعة سريلانكا
نجاح «جبهة الرفض» في تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامي» ـ من دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجهاً لوجه ـ شجعها على المضي قدماً في محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدي له بمنتهى القوة، والحزم، والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتباراً من الاجتماع الوزاري لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذي انعقد في كولومبو بسريلانكا في يونيو/ حزيران 1979 ، وهو اجتماع تحضيري للقمة التي كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد في هافانا خلال شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام. والحقيقة أن وزارة الخارجية، وفي القلب منها إدارة الهيئات الدولية التي كنت أترأسها، قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» في عزل مصر بإخراجها، أو تجميد عضويتها في المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حرباً دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدي لها بشجاعة وبسالة.
وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو/ حزيران ، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعي الجبهة لوقف عضوية مصر في «عدم الانحياز»، انطلاقاً من المعلومات التي وفرتها السفارة المصرية في سريلانكا في هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل في الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلاً من التخندق في مواقع دفاعية.
كانت اللجنة التحضيرية في هذا الاجتماع الوزاري تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات في دول الحركة الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شيء أبداً من دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعاً. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا في الجانب الآخر، وأصبحت وحدي ضدهم في هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع «إسرائيل». كان رئيس الجلسة سفيراً من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبي)، وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالي لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزاً؛ فبحثت عن نقاط الضعف التي يمكن أن أستفيد منها في التراشق الذي أعرف أنه قادم لا محالة.
جاءني في اليوم التالي رئيس الجلسة، وقال لي: سيد موسى سأقول في تقريري الذي سيرفع للوزراء «كان هناك رأي أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفي المقابل كان هناك رأي يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافياً جداً بالنسبة إلي لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم الانحياز» في مهده باللجنة التحضيرية. يمكنني القول: إن صرختي هذه في رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» في إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيداً كتوصية رسمية إلى قمة كوبا.
تجدد الحرب في هافانا
خلال الفترة بين 3 – 9 سبتمبر/ أيلول 1979، انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز في هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية في أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبد المجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقي، ليدعمه باتصالاته الإفريقية. كان الهجوم عنيفاً على مصر في اللجنة السياسية، التي كان يترأسها السفير عصمت كتاني وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة، وهو من الأكراد العراقيين، وكان شخصية جيدة جداً، وعاقلة، بل وراقية، وكان لي معه بالطبع سابق معرفة.
الوفدان السوري والفلسطيني، كانا في غاية القسوة ضد مصر في هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلي مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعاً في هذا الأمر. لكنني أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقي، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لي«لا تؤخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصياً.. وهي السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال في جلسة هادئة للغاية، فالكل نظر إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذي خسر كثيراً جداً من مصداقيته بهذه اللقطة؛ ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى في الجلسة. وربما يسهران معاً. وانتهت المناقشات التاريخية في اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لمصلحة الطرد، والأقلية غير موافقة.
وصلنا جلسة افتتاح القمة على مستوى رؤساء الوفود، والمذاعة على مختلف إذاعات وتلفزيونات العالم. شن حافظ الأسد، وصدام حسين، وعدد من العرب، وبعض الدول الأخرى هجوماً كاسحاً ضد مصر. كان رئيس الجلسة هو الرئيس الكوبي كاسترو، وكان بطرس غالي يترأس وفد مصر وعصمت عبد المجيد وأحمد صدقي، وأنا، وآخرون خلفه. أثناء الهجوم علينا سألني غالي: متى سنتحدث؟ قلت: أمامنا وقت طويل جداً.. ودورنا ليس في الجلسة الافتتاحية. قال: وما العمل إذاً؟ قلت: دعني أجرِ محاولة لاقتناص دقائق في هذه الجلسة الافتتاحية التي تسلط عليها الأضواء. توجهت إلى سكرتير عام المؤتمر، وهو المندوب الدائم لكوبا لدى الأمم المتحدة آنذاك «ريكاردو ألاركون»، وأصبح بعد ذلك رئيساً لمجلس النواب في بلاده، وكانت تربطني به علاقة طيبة.
صعدت إلى المسرح الذي يجلس عليه كاسترو وعلى يمينه وزير الخارجية وعلى يساره ألاركون. القاعة صامتة ورزينة فهي مملوءة بالرؤساء. همست في أذن ألاركون: أنت ترى الهجوم الكاسح على مصر.. نريد أن نتحدث في الجلسة الافتتاحية. رد من دون تفكير: «very difficult» صعب جداً.
عدت لمقعدي. قلت لغالي احتمالات منحنا الكلمة موجودة، ولكنها لا تزيد على 50%. جهز نفسك للرد متى يجيء، فاستعد الرجل. انتهت قائمة المقرر لهم الحديث في الجلسة الافتتاحية، وإذ بكاسترو بصوته ذي الذبذبات الخاصة يقول: أدعو رئيس الوفد المصري ل«نقطة نظام»، وهنا قام غالي بالرد على من هاجمونا بلغته الفرنسية الرشيقة فأفحمهم.
تحدث معي أحد وزراء الخارجية في أمريكا اللاتينية فيما بعد ذلك بسنوات، بأن مندوب كوبا في اجتماعات مجموعة عدم الانحياز من الدول اللاتينية خلال قمة هافانا ذكر لهم أن مصر لن تطرد من الحركة في هافانا.
اغتيال الرئيس السادات
في سبتمبر / أيلول 1981 انتقلت للعمل في نيويورك نائباً للمندوب الدائم لمصر في الأمم المتحدة، عصمت عبد المجيد. وفي فجر 6 أكتوبر / تشرين الأول بتوقيت نيويورك اتصل بي صحفي أمريكي قائلاً: «حدثت مذبحة في القاهرة في عرض عسكري. جرح أناس كثيرون ومنهم الرئيس السادات». بعده بقليل اتصل بي صحفي آخر وكرر الكلام نفسه، ثم اتصل بي صحفي مصري وقال لي: يبدو أن الرئيس السادات قد قتل. كنت أنا من يترأس الوفد المصري في الأمم المتحدة لأن عبد المجيد كان يؤدي مناسك الحج. اتصلت بوزارة الخارجية في السابعة صباحاً بتوقيت نيويورك (نحو الثانية بعد الظهر في القاهرة) لأسأل عما حدث في مصر، فوجدت تحفظاً في الرد؛ فطلبت مدير مكتب الوزير، وقلت له: أنا أسأل عن مصير الرئيس السادات، ولا أحد يجيبني، وأنا عندما أسأل عن هذا الأمر، فذلك ليس مرده الفضول الشخصي من جانبي، ولكن لأنه في حالة إذا ما كان الرئيس قد قتل فعلاً، فلابد وأن نرتب له حفل تأبين يليق به في الأمم المتحدة، وإذا بدأنا بهذه الإجراءات والترتيبات مبكراً سنستطيع عقد جلسة خاصة للجمعية العامة اليوم، ندعو فيها وفود الدول لتأبين الرئيس؛ ولذلك أرجو أن أحاط علماً بالأمر في ظرف ساعة على الأكثر.
كلمت الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، فوجدته على علم بالتطورات التي وقعت في القاهرة، لكن لا علم له بمصير الرئيس السادات. قلت له: يبدو أن الأمر خطر، واحتمالات وفاة الرئيس السادات تبدو قائمة، وأطلب من الآن عقد جلسة خاصة للجمعية العامة لتأبينه، فوافق الرجل، وقال لي: سأبلغ مساعدي ليستعدوا لذلك، وسأكون على اتصال بك. في هذه اللحظة كلمني أحد السفراء من القاهرة، قال لي: أنا أتحدث إليك من مكتب الوزير، وأود أن أخطرك بأن الرئيس قد مات بالفعل، لكننا لا نريد إعلان ذلك الآن. قلت له: أنتم لا تريدون إعلان مقتل الرئيس الآن؟ لكنني أود أن أبلغك بأن هذا الأمر أصبح شائعة/ معلومة تدور في أركان العالم الأربعة.جلست أتابع التحضيرات لجلسة الجمعية العامة في مكتبي بمقر البعثة قرابة الساعتين، توافد خلالها كثيرون لتقديم العزاء، كان على رأسهم: جاكلين كيندي، وعمدة نيويورك، وشخصيات أمريكية رفيعة، وعدد من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين الموجودين في نيويورك بمناسبة دورة الجمعية العامة.
في جلسة التأبين التي انعقدت في الثالثة عصراً كانت المفاجأة بالنسبة إلي هي أن مندوب «إسرائيل» طلب الكلمة. لم أشعر بالارتياح. كان بإمكاني ببعض المناكفات أن أمنع ممثل «إسرائيل» من التحدث، لكنني أردت أن تمر المسألة بهدوء، وأردت للجلسة أن تمضي في جو من المهابة التي تليق بالرحيل المفاجئ لرئيس مصر. بعد أن انتهى من كلمته جاء مندوب «إسرائيل» مهرولاً في اتجاهي والكل ينتظر ما سيحدث، لكنني وقفت متوقعاً أن يظهر عواطفه الجياشة والواضحة بعناقي. طلبت من أحد الزملاء أن يلتقي بالسفير «الإسرائيلي» قبل أن يصل إلي بمترين، أو ثلاثة، ويسلم عليه ويعطله ولو لثوان تتراجع خلالها حماسته، وهو بالفعل ما تم، ثم مددت يدي بصلابة وسلمت عليه بطريقة رسمية. شعر الرجل بأنني غير مستعد لأن أذهب أبعد من ذلك، فشد على يدي وتمتم ببعض عبارات العزاء وعاد إلى مكانه.