ماجد كيالي يكتب: التبعات السياسية لاعتمادية السلطة على الخارج
كثر في الساحة الفلسطينية، من قياديين وفصائل، يتحدثون عن مخاطر الاعتمادية المالية على الخارج، بيد أن ثمة انفصام كبير بين هكذا حديث، الذي يطرح، على الأرجح، من باب الاستهلاك أو التمني أو المزايدة، بحسب طبيعة الحال، وبين الواقع والمواقف الفعلية. هكذا فإن حركة حماس، أو الجبهة الشعبية، مثلاً، تتحدث كل منهما عن هذا الأمر، في حين أنها تطالب القيادة الفلسطينية، وهي هنا قيادة المنظمة والسلطة وفتح، بحصتها (بحسب الكوتا) من الصندوق القومي، لتغطية موازناتها ورواتب المتفرغين فيها، علما أنها تعرف أن تلك الأموال تأتي من الدول المانحة، التي تدعم عملية أوسلو، والتي ترفض المقاومة جملة وتفصيلا، وترفض أي مساس بوجود إسرائيل. ونحن نعرف أن عملية المصالحة الفلسطينية، بين سلطتي الضفة وغزة، ارتهنت، وتاليا توقفت بسبب الخلاف حول تغطية رواتب حوالي 40 موظفاً عينتهم حماس في السلطة في غزة، بعد هيمنتها على القطاع (2007).
المشكلة في هذا الأمر أن تلك المساعدات لاتأتي من جمعيات خيرية، ولا من منظمات حقوق انسان، ومن دول لا تتوخى انصاف الشعب الفلسطيني، واستعادة حقوقه، وإنما من دول تعترف بشرعية وجود إسرائيل، ما يفيد بأن تلك المساعدات مرهونة بموقف سياسي، وهو أمر يعرفه الجميع، وضمنه تلك القيادات او الفصائل، التي تقدم نفسها على أنها مناهضة لاتفاق أوسلو، وأنها تشتغل لتحرير فلسطيني، وأنها لا تتنازل عن المقاومة المسلحة ضدها.
الأخطر من ذلك أن القيادة الفلسطينية انخرطت في عملية أوسلو (1993)، أي منذ ربع قرن، راضخة في ذلك، أولاً، إلى قيام نوع من علاقات الاعتمادية على إسرائيل، عبر ملحق الاتفاق الاقتصادي، الذي يكرس تبعية الكيان الفلسطيني الناشئ بإسرائيل، في التجارة والضرائب ولاسيما في البني التحتية والعملة، هذا علاوة على اتفاقية التنسيق الأمني. وثانيا، أن السلطة اتكأت في تمويلها لموازنتها وتغطية رواتب موظفيها (في السلكين الخدمي والأمني) على الدعم المالي من الدول الراعية الداعمة لعملية “السلام”، التي تقدم حوالي بليوني دولار سنوياً للسلطة الفلسطينية، منهم حوالي 400 ـ 600 مليون من الولايات المتحدة.
الآن تقف السلطة الفلسطينية، في مواجهة الموقف الأمريكي بخصوص الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبخصوص الانقلاب حتى على اتفاق أوسلو، بالإطاحة من كل قضايا الحل النهائي (القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات)، كما في مواجهة ما يسمى “صفقة القرن”، إذ لا يبدو أنها مهيأة لعمل شيء او لانتهاج طريق أخر، كما ليس لديها أية امكانيات لتأمين الموارد اللازمة لموازناتها ورواتب العاملين فيها.
معلوم أن عدد الموظفين في القطاعين الخدمي والأمني يبلغ حوالي 160 ألف موظف منهم 65 ألف في الأجهزة الأمنية، أي حوالي 40 بالمئة من مجموع موظفي السلطة، هذا دون أن نذكر الـ 40 ألف موظف في سلطة حركة “حماس” في غزة، تطالب باستيعابهم في أجهزة السلطة، بحيث نصبح امام 200 ألف موظف مدني وعسكري يفترض أن تؤمن السلطة مرتباتهم.
في هذا الإطار فإن فاتورة الرواتب والأجور للموظفين المذكورين (160 ألف) تبلغ حوالي 2.25 بليون دولار، أي أنها كتلة كبيرة بالنسبة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، كما بالنسبة لشعب تحت الاحتلال، سيما أنه لا يمتلك موارد خاصة.
ما يجب ادراكه هنا أن تلك الكتلة النقدية تشكّل 54 بالمئة من إجمالي موازنة السلطة، التي تبلغ حوالي 4,4 بليون دولار (2017)، في حين أن النفقات التطويرية لا تزيد عن 350 مليون دولار فقط، أما الناتج المحلي الفلسطيني فيبلغ حوالي 8 بليون دولار (2016)، علما أن السلطة تعاني دوما من فجوة تمويلية، وهي بلغت حوالي 465 مليون دولار؛ بمعدل شهري يبلغ حوالي 39 مليون دولار، في العام الماضي.
وكي تتوضّح صورة التحدّيات والمخاطر لابد من معرفة مدى اعتمادية السلطة على إسرائيل وعلى المساعدات الخارجية، ولاسيما الأمريكية. فبالنسبة لإسرائيل فهي ملزمة بأن تسدد للسلطة الضرائب التي تجبيها عن البضائع التي تدخل مناطق السلطة (الضفة وغزة) عبر معابرها البرية أو الجوية أو البحرية (أموال المقاصة)، وهي تعادل 200 مليون دولار شهرياً أو 2,5 بليون دولار سنوياً، أي أنها يمكن ان تحجب هذه الأموال، أو تعرقل تسليمها للسلطة، كما حدث في مرات عديدة، علماً أن هذا مبلغ يساوي نصف ميزانية السلطة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فهي تقدم للسلطة الفلسطينية سنويا حوالي 400 ـ 600 مليون دولار سنويا (على الأقل في السنوات القليلة الماضية)، وتبلغ نسبتها خمس المساعدات الخارجية التي تمول ميزانية السلطة. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك إذ أن الولايات المتحدة هي أكبر مانح لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، إذ تقدم لها حوالي 368 مليون دولار سنويا (يليها الاتحاد الأوروبي ب 160 مليون دولار سنويا ثم السعودية ب 148 مليون دولار سنوياً) في حين تبلغ قيمة مساعدات الاتحاد الأوروبي للسلطة الفلسطينية حوالي 349.76 مليون دولار.
على ذلك فإن الضغط المالي، من قبل إسرائيل والولايات المتحدة سيكون ثقيلاً، إن على السلطة، أو على الفلسطينيين، وأن ذلك سيصعب او يضعف مقاومتهم للإملاءات السياسية الأمريكية، وبالطريقة المناسبة، وهو ما تدركه الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية في محاولاتها فرض واقع سياسي جديد. إزاء ذلك كيف للقيادة الفلسطينية مواجهة هذا التحدي السياسي؟ ومن أين يمكن لها تأمين الموارد، بعد أن أثقلت نفسها بحمولات السلطة، والتزاماتها؟