أحمد المصري يكتب: الإقالات الأمريكية ونظيرتها المصرية
دوما، تصبح العودة إلى أصول الأشياء أبسط الطرق لفهمها واستيعابها، ومن هنا فإنه ولفهم السياسة لا بد من العودة إلى تعريفها الأول والأكثر بساطة وإيجازا وتكثيفا حين قيل: إن السياسة هي فن العمل في حدود الممكن، وهو تعريف موجز وقد يبدو بسيطا لكن التفاصيل فيه أوسع من بوابة كونية.
تستوقفني عبارة “حدود الممكن” وتلك الحدود في فضاء الممكن تتسع وتضيق في علاقة طردية مع هذا الفضاء من “الممكنات” المتاحة على أرض الواقع، وعليه فإن العمل كسلوك فني يتطلب موهبة شخصية يصبح إطاره مرنا حسب فضاء الممكن في الواقع، وحدود هذا الممكن منوطة بهذا الفضاء على اتساعه.
وبالضرورة، فإن العمل السياسي يتعطل في حال حدوث خلل في المعادلة، فيصطدم بجدار منيع من “اللا ممكنات”.
فلنوضح بشكل أكثر بساطة:
إنك حين تتولى قيادة ما، فأنت مكلف بإدارة كل التفاصيل للوصول إلى الأهداف المرجوة، موظفا كل إمكانياتك سعيا وراء الأهداف، ومن تلك الأدوات وأهمها الأشخاص المنوط بهم مهمات محددة وواضحة تتفق مع رؤيتك كقائد للفريق.
حين يصبح أحدهم في فريقك، خارج إطار الممكن الذي تراه كقائد فريق، فهو حتما حجر عثرة في طريق تحديد الأهداف، وبدون تردد أنت ملزم بإزاحته، وهذا فن العمل في حدود الممكن، لتحقيق هذا الممكن في المحصلة.
لقد كان وزير الخارجية الأمريكي السابق تيليرسون، رجل دبلوماسية قادما من رحم قطاع الأعمال، وهي ذات المنصة التي جمعته برئيسه دونالد ترمب منذ البداية، لكن السياسة أوسع من قطاع الأعمال، وترمب أدرك ذلك فيما بقي تيلرسون أسيرا لمفهوم الإدارة ضمن حدود “البيزنس”، في عالم متشابك من المصالح المعقدة، وفي لحظة كانت هي مفترق الطرق، وفي منتصف مجموعة أزمات معقدة، كان لا بد من اتخاذ القرار بإزاحته، وتعيين مدير المخابرات الأمريكية وزيرا للخارجية، ليقود جهاز الدبلوماسية الأمريكي الضخم والعريق لكن ضمن رؤية أمنية أدرك الرئيس الأمريكي فيها أن تحقيق مصالح بلاده السياسية هي بعنوان أمني أولا، في عالم صار الأمن كله فيه مهددا.
بالطبع إقالة تيلرسون كانت بمثابة الصاعقة التي أصابت بعض العواصم أولها الدوحة، والتي كان تيلرسون يتخذ فيها موقفا محابيا لقطر في الخلاف مع دول المقاطعة (مصر، الامارات، السعودية، البحرين) وقد كشف ستيفان جوركا، المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استقال من منصبه في البيت الأبيض اب/أغسطس الماضي، عن سعي بعض المسئولين في الإدارة الأمريكية لتقويض الضغط الذي بدأه الرئيس ترامب على قطر للاستجابة لمطالب جيرانها.
وبالطبع العاصمة الثانية والتي وقع خبر اقالة تيلرسون عليها كالصاعقة أيضا كانت طهران والتي لم يخف تيلرسون عن ممانعته لأفكار الرئيس ترامب بإعادة النظر بالاتفاق النووي الإيراني مع الغرب.
اقالة تيلرسون لم تكن الأولى فقد قرر ترامب إزاحة الإعلامي اليميني ستيف بانون أحد مستشاريه المقربين في مجلس الأمن القومي الأمريكي، وكان بانون يشغل منصب كبير المخططين الاستراتيجيين.
كما أقال مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين بعد تضليله البيت الأبيض بشأن محادثاته مع مبعوث روسي.
المؤسف أن القراءات حول هذا القرار لم تأخذ ذات القياس في الإعلام الغربي والعربي على حد سواء على قرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي سبق ترمب بذات الرؤية وذات الإدراك المستبق حين اتخذ قراره كقائد مدرك تماما لأهدافه التي وضعها نصب عينيه، فأقال مدير المخابرات، ليعين مدير مكتبه، الأمين على رؤيته والأكثر قربا لقيادة الجهاز الأمني الأكثر خطورة في الشرق الأوسط، جهاز المخابرات العامة المصري.
لم تكن أيضا إقالة رئيس المخابرات العامة في مصر هي الأولى وربما لن تكون الأخيرة، فقد أقال الرئيس السيسي أيضا رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينية، ببساطة، كل ما فعله السيسي أنه كقائد فريق يقود مصر كما يقود ترمب الولايات المتحدة، يعمل على توسيع حدود الممكن من خلال رؤية أمنية هي أول الأولويات في شرق أوسط تلعب فيه مصر منذ كانت وكان التاريخ دور الريادة في المنطقة.
*كاتب وصحفي مقيم في لندن