أكرم عطا الله يكتب: أحداث باريس.. خطر تنامي الشعبوية..!!
آخر شيء تحتاجه أوروبا هو الاضطرابات في فرنسا حيث تسبق انتخابات الاتحاد الأوروبي بأربعة أشهر والتي تخشى أوروبا صعود القوى اليمينية القومية فان احتجاجات فرنسا وحالة الفوضى التي اجتاحت باريس على مدى الأسابيع الماضية سيكون لها تأثير كبير ليس فقط في فرنسا بل أيضاً في كل أوروبا.
فاذا كانت قد اندلعت أحداث مشابهة في الوطن العربي فقد أمكن تفسيرها حيث حركة الشعوب بلا قيادة وذلك لأن النظم العربية كانت قد تمكنت من سحق أية قيادة بديلة أو معارضة لها اما في السجون أو منفيون خارج بلدانهم مع استقطاب النخب بالتخويف أو بالاغراء وهذا ما يفسر الشعوب العربية التي تفتقد للزعامات.
لكن أن يحدث ذلك في بلد المؤسسات العريقة والأحزاب والنقابات المنظمة وكل تلك تضج بالقادة والرؤوس فهذا لا يمكن فهمه بل يشكل خطراً على الديمقراطية وعلى النظام القائم في فرنسا والذي استهلك كل هذا الزمن الطويل منذ الثورة الفرنسية ليستقر على شكله الحالي كأرقى النظم السياسية والادارية في مأسسة الاختلاف وتنظيم المجتمع في أحزاب ونقابات ومرجعيات.
لم تكن هناك مرجعيات لأصحاب السترات الصفراء الذين اندفعوا محطمين كل شيء لدرجة أن الشرطة الفرنسية اقتلعت المقاعد الحديدية من الساحات العامة حتى لا يستخدمها المتظاهرون كعصى معدنية لتحطيم واجهات المحلات والبنوك والمباني وهنا نتحدث عن انفلات لم تشهده فرنسا من حيث الكيفية صحيح أن فرنسا مرت قبل ذلك باضطرابات كتظاهرات الطلاب مثلاً ولكن بوجود قيادة كان يمكن التوصل معها الى اتفاق ولكن احتجاجات أيام السبت الحالية غريبة عن تلك التقاليد هذا ما دعا الرئيس الفرنسي أن يخاطب مجموع الشعب الفرنسي لغياب المفاوضات أو النقابات تماماً كما فعل زعماء الدول العربية مثل الرئيس المصري والتونسي عندما لم يجدوا من يفاوضونهم فدفعوا ثمن غياب رؤوس المعارضة وصناعة نقابات وهمية وموالية.
خطورة الأمر أن ما يحدث في فرنسا يتجاوز هذا الارث نحو شعبوية مقلقة آخذة بالتنامي على مستوى العالم تنذر بتغير شكل النظم السياسية العريقة حد الانهيار ولم يكن انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب سوى أحد تجلياتها العابثة وهو ما عبر عنه ستيف بانون مهندس الحملة الانتخابية لترامب الذي قال في اجتماع في بركسل “باريس تحترق والمشاركون في مسيرات السترات الصفراء هم بالضبط نوع الأشخاص الذين انتخبوا دونالد ترامب وصوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
خطورة المسألة على ديمقراطيات عريقة أنها تجاوزت كل أزماتها وعقدها التاريخية نحو توسيع الاتحادات والاندماجات فيما تطرح صعود الشعبوية اليمينية اتجاه معاكس يتعلق بالتفكك ليس فقط يبدو الخوف على الاتحاد الأوروبي بل ربما ينتقل الى الدولة الواحدة كما حدث في أوكرانيا أو اقليم كاتلونيا الأسباني لأن معظم الدول الأوروبية تحمل أعراقاً متعددة قد تنساق الأمور بهذا السياق مهددة قارة بأكملها تقف تجربتها الديمقراطية فوق ارث من الدم والصراعات القومية والدينية لتطوي هذه الصفحة.
الليبرالية تصبح مهددة وهي تتعلق بمساحة الحريات الفردية والجمعية واذا كانت مساحة الحرية مبالغ بها قياساً بمناطق أخرى في العالم قد تصل نتاج تخمتها الى هذا المستوى من الخراب يمكن لديمقراطيات ومنها فرنسا اعادة التفكير في نموذج مختلف للدفاع عن دولها اما مزيداً من الرضوخ لسطوة الشعبوية المهددة لأركان الدولة واقتصادها كما عبر وزير المالية الفرنسي برونو نومير الذي وصف الاحتجاجات بأنها كارثة للاقتصاد الفرنسي أو مزيداً من الاعتقالات وقبضة الشرطة ضد المحتجين وفي كلتا الحالتين ما يهدد التجربة العريقة.
بكل الظروف علينا أن نعترف أن العالم مر بثورات هائلة غيرت مسار تاريخه مثل الثورة الصناعية والثورة العلمانية لكن ما هو واضح أن ثورة السوشيال ميديا أصبح لها فعلها الأقوى في تحريك الشعوب نحو تجربة جديدة باعتبار أن ما حدث في المنطقة العربية أشعلت شرارته ووسائل التواصل وها هي تمتد الى دول اختراع تلك الوسائل فهل نحن أمام فصل جديد بسببها ؟ بالتأكيد ليس في صالح استقرار النظم وتراكم التجارب ..!!