أكرم عطا الله يكتب: لم يعد الزمن ناصرياً !!
في مثل هذا اليوم وقبل ستة عقود ونصف كان ملك مصر يركب يخته “المحروسة” مغادراً مصر إلى منفاه الذي اختاره في إيطاليا لتبدأ مصر ومعها العالم العربي فصل ربيعها القصير الذي عرف بالزمن الناصري، عندما قاد الزعيم التاريخي للأمة ثورتها التي هتفت في القاهرة لتردد الصدى كل عواصم العرب، ثورة وضع ملهمها شعارها البسيط “العزة والكرامة”.
كانت سنوات ما قبل الثورة مفعمة بالاحباط ومزاج القاهرة مصاب بقهر النتائج المأساوية لحرب فلسطين التي صدمت جماهير مصر والأمة العربية، كان سؤال الهزيمة الأكثر إذلالاً هو واحد من أهم محركات مجموعة الضباط الذين وقع عليهم تنفيذ مهمة اللحظة التاريخية بالتغيير الثوري، والتي لم يقررها قائد الثورة الذي عاد يرسم على الورق خطة العمل بقدر ما أن الظروف التي كانت سائدة في مصر آنذاك حد الانهيار، كانت تبحث عن رجلها القوي الذي سيكتب اسمه على صدر أمة تدير مصيرها سفارات أجنبية.
ناصر الذي افتتح مجده بالعزة والكرامة وهو شعار الثورة الذي دغدغ عواطف الأمة من المحيط إلى الخليج في زمن عربي منزوع الكرامة غير وجه الأمة العربية التي أقلعت في خمسينات وستينات القرن الماضي لتقتلع الاحتلال من عواصمها فقد مثل عبد الناصر مشروع النهضة العربية الذي لم يمهله القدر كأنه استكثره علينا كما قال الشاعر نزار قباني في رثاء التأبين وهو يودع أبو الأمة قائلاً “قتلناك يا جبل الكبرياء، وآخر قنديل زيت يضيء ليالي الشتاء وآخر سيف من القادسية، لماذا قبلت المجيء الينا؟ فمثلك كان كثيراً علينا، لماذا ظهرت بأرض النفاق؟ فنحن شعوب من الجاهلية ونحن التقلب ونحن التذبذب والباطنية نبايع أربابنا في الصباح ونأكلهم حين تأتي العشية”.
لماذا نحتفل بذكرى يوليو المجيدة مشحونون بغضب عربي يلقي الينا بحجم الهزيمة دون توقف وما أن نحاول الوقوف على أقدامنا حتى تضربنا أخرى فتعيدنا الى الذاكرة المشبعة بالدم والدموع كأن شهرزادنا لم تكمل حكايتها الحزينة حتى بعد أكثر من ألف سنة وسنة لم تتوقف فيها مصداتنا العربية عن الانهيار سوى وقت مستقطع اسمه جمال عبد الناصر.
ماذا يعني أن يشهر جندي اسرائيلي سلاحه ويقتل عربيين في عاصمة عربية ولا يتأخرعن موعد غرامي مع عشيقته؟ لم يقتلهما خفية أو برصاصة تسلل بل بشهادة أمة تحول تاريخها الحديث الى بكائيات مطولة منذ أن أسدل عبد الناصر الستارة على مشروعه الذي تعرض للطعن مبكراً حين تآمر عليه أعداء الأمة من الأمة ووزعوا دمه بين القبائل والمضارب.
“لو كان عبد الناصر حياً” وتلك أمنية تليق بأمة غادرت روحها وبقيت كتل بشرية موزعة بين السواحل والصحاري وفقدت هيبتها تحت سنابك خيول الغرباء التي لم تتوقف عن الصهيل على بواباتها لو كان عبد الناصر حياً لما دخل اسرائيلي أرضاً عربية بموافقة العرب ولو كان عبد الناصر حياً لما ظلت القدس بين يدي اسرائيل ولما كان هناك بوابات الكترونية وكاميرات لتعرية الشرف العربي أكثر ولو كان عبد الناصر حياً لما حدث كل هذا العبث العربي، هل هذه حقائق أم أمنيات كان سيحرفها انهيار تدحرج منذ نصف قرن حتى وصل القاع العربي الذي توقعت عقارب ساعة فصوله عند الخريف.
من حق مصر أن تخلد زعيماً عندما كان يطلب من أبو الهول أن يزأر فتهتز العواصم، ومن حق العرب أن يخلدون بطلاً أطل عليهم من سماء المجد فرسموه في دفاتر المدرسة وعلى علب الزيت وفي نقوش الحناء ومن حقنا أن نتذكر ثورة كانت حلماً جميلاً وقصيراً في شريط تاريخنا الذي أصيب دماغه بلوثة النسيان فتوقف عند داحس والغبراء، لثورة يوليو ما عليها وعليها الكثير الذي يمكن أن يقال الى الدرجة التي جعلت البعض يرسم سيناروهات ماذا لو لم تنجح الثورة متناسيين أن الثورة ابنة الظروف وابنة اللحظة التي ساقها القدر، ورغم أخطائها الا أن الأمل الذي انبعث منها يوماً لم يخبو بعد ويعاد تلميعه ونفض غباره كلما غرقنا أكثر نعيد استدعاء عبد الناصر لأننا غادرنا الزمن الناصري..!!
Atallah.akram@hotmail.com