إميل أمين يكتب: إسرائيل ويهودية الأرض .. رؤية لاهوتية أبوكريفية
تستدعي تطورات الأحداث التي تجري في ” زهرة المدائن ” القدس الشريف، وعلى أبواب الأقصى المبارك طرح علامة استفهام رئيسة وقراءة معمقة لجزئية كانت ركنا أصيلا ولو منحولا في أساسيات قيام دولة إسرائيل ، وحجر زاوية ارتكنت إليه في ادعائها بأحقيتها في أرض فلسطين بوصفها أرض الموعد التي تخص الشعب المختار.
السؤال الذي نحن بصدده: هل أسرائيل أرض يهودية بامتياز؟ أم أن المشهد برمته ليس إلا رؤية “أبوكريفية” منحولة لا نصيب لها من الصحة، وأن الوعد إذا صدق في زمن ما فقد بطلت صلاحيته في القرون والعقود التي مضت، ما يعني ان إسرائيل تتمسح في أثواب النبؤة ، حتى وإن كان أنبياء بني إسرائيل أنفسهم وعبر كتاباتهم ورؤاهم أول من هاجم الفكر السلطوي عند أحفادهم اليوم ؟
المؤكد أن إسرائيل استندت في دعواها لإنشاء دولتها اليهودية على ما ورد في سفر التكوين من وعد الله لإبراهيم ” لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ” ، والشاهد هو أن نسل إبراهيم يشمل العرب أيضا من ابنه إسماعيل وكان إسماعيل أبا لعدد كبير من القبائل العربية وإسماعيل هو الإبن الأكبر والأول لإبراهيم من امرأته المصرية هاجر ، والوعد الإلهي بإعطاء إبراهيم ونسله من بعده أرض كنعان ملكا أبديا كان من أيام إسماعيل حيث أن اسحق لم يكن قد ولد بعد، ولهذا فإن تفسير الوعد بأنه يختص بإسحق دون غيره مغالطة دينية وتاريخية معا ، خاصة وأن المنطقة كانت على الدوام يحكمها العرب الذين هم من نسل إسماعيل.
والثابت أن اليهود أنفسهم طبقا لما نشرته جريدة “النيويورك تايمز” في عددها الصادر في 18 نوفمبر سنة 1959 قد أعلنوا بلسان الدكتور “أبراهام هيشيل” أستاذ التصوف اليهودي في كلية اللاهوت اليهودية في نيويورك بان هذه النبؤة قد تمت في الماضي وان الصهيونية التي تدعو إلى قيام جهاز سياسي ومنظمة عالمية لا صلة لها باليهودية.
والشاهد أن هذه الأطروحة المنحولة قد دعت الكيانات المسيحية التقليدية العريقة للوقوف في وجهها في بدايات إرهاصات الصهيونية وما بعدها، والتي رفضت فكرة قيام دولة إسرائيل شكلا وموضوعا.. فعلى سبيل المثال كانت حاضرة الفاتيكان في مقدمة الرافضين لقيام دولة إسرائيل منذ اللحظة الأولى، ففي عام 1904 رد البابا بيوس العاشر على تيودور هيرتزل الذي طلب دعم الفاتيكان بالرفض المطلق لقيام تلك الدولة على حساب تهجير سكانها الأصليين من الفلسطينيين، لأن هذا أمر وبحسب المنطوق البابوي “لا يتسق مع العدالة الإلهية ولا ينسجم مع النواميس والشرائع الوضعية” وعليه خلص بابا روما إلى أننا ” لا نستطيع أبدا أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية ونرفض رفضا جامعا مانعا فكرة قيامها “.
ومما لاشك فيه أن الحركة الصهيونية قد مرت بأطوار مختلفة قبل أن تصل إلى مرحلتها السياسية الحاضرة وقد كان أول أساس أرادت الصهيونية الارتكاز عليه هو ترويج فكرة وجود شعب يهودي وجنس يهودي وأمة يهودية متسلسلة من العبرانيين القدماء إلا أن التاريخ يشهد بأن اليهود الحاليين لا علاقة لهم بسلالة العبرانيين … كيف ذلك ؟ بالرجوع إلى القراءات التاريخية التي لا ينكرها المنصفون من اليهود فان مدة ملك داؤد وسليمان لم تدم إلا ثمان وسبعين سنة ، وحتى مملكتا يهوذا وإسرائيل اللتان أسستا على أنقاض المملكة الموحدة لم يلعبا في تاريخ اليهودية إلا دورا محدودا وثانويا .
وإذا القينا نظرة على اليهود الذين نزحوا من البلاد المختلفة واستوطنوا في فلسطين … نجزم أنهم ليسوا من سلالة العبرانيين القدماء الذين سكنوا الأرض المقدسة فقد حدث أن انضم عدد كبير في أوربا إلى اليهودية في القرون الوسطى وفي عهد الأتراك الذين سادوا على روسيا الجنوبية الشرقية انضم عدد كبير إلى اليهودية وعلى رأسهم الملك “بولان” في سنة 740 ميلادية وفي القرن الثامن عشر انضم عدد كبير إلى اليهودية تحت تأثير اليهود البيزنطيين، وكثر عدد المنضمين في القوقاز وانتشروا في أوروبا الوسطى وفي بروسيا وبولندا وروسيا وهاجر عدد وافر منهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، منهم هؤلاء الذين نزحوا إلى إسرائيل أو بالأحرى سلالتهم، وهم الذين يديرون سياساتها الآن ، كما لا ننسى أنه لا يوجد يهود صفر وسود وملابار وأحباش أشكيناز وسفارديم… فهل يمكن بعد هذا أن يعتبر اليهود أمة حقيقية بينما الخلاف واضح في الجنس واللغة والأصل والتقاليد وحتى في المعتقد .
ولعل التساؤل الذي لا يزال يثير جماعة اللاهوتيين الثقات غير المخترقين من جراء الأفكار ” اليهو ـ مسيحية ” هل من العدل الإلهي والحق الإنساني إبدال شعب يمتلك أرضا استوطن فيها لآلاف السنين ويطرد منها ويلقي في العراء في الصحراء لتحل محله جماعات غريبة من أجناس ولغات مختلفة وتقاليد بالية لا يربطهم إلا اسم اليهودية ؟ وأي وعد إلهي ينافي ويجافي أبجديات الحق والعدل وحاشا لله أن يكون ذلك ؟
القراءة المتأنية العلمية والموضوعية للتوراة تقودنا للتثبت من أن العرب كانوا أول سكان لفلسطين منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، واستمر سكناهم فيها بعد الميلاد إلى اليوم وأن تسمية فلسطين هي نسبة إلى القبيلة العربية “فلسيتيا” التي جاءت إلى الأرض التي كان يسكنها منذ فجر التاريخ الكنعانيون وهم عرب أيضا، وأصبح اسم فلسطين يطلق على جميع الأراضي الساحلية والداخلية التي يسكنها الكنعانيون. وظلت فلسطين عربية أصيلة لمدة خمسة آلاف سنة وأن مدة استعمار اليهود لفلسطين طبقا لنصوص التوراة لا تزيد على 380 سنة وكلها إقامات متفرقة وبصفة استعمار دخيل لا وجود أصيلا.
والحاصل أن تجمع إسرائيل الآن ليس من إرادة الله في شيء لأنهم في سعيهم لذلك لا يطلبون وجه الله وإنما هم مغمورون في جو قاتم من المؤامرات السياسية يتذللون للأمم الكبيرة في ضعة وفي مهانة يطلبون معونة يتطلعون من ورائها إلى السطوة والانتقام .
والمحصلة أن إسرائيل قد ضلت وانخدع كثيرون من الكتاب العالميين والمسيحيين أنفسهم معتقدين أن في تجمع إسرائيل نصرة لله وفي عودة الصهيونية تكميلا للنبؤات غير أنها وعند كبار مفكري الكنائس التقليدية كالكاثوليكية والأرثوذكسية تجتمع ليوم انكسار فيه ستسحقها الأمم سحقا وفي سحقها تتذكر خطيئتها وفي ذلها ستندم في التراب ولان روح الله قد فارقها منذ زمان لذلك تطلب وطنا في فلسطين وان كان على أشلاء العرب وتنظر إلى يهوه وكأنه منحصر في تخوم اليهودية .
إسرائيل في غباوة الروح تريد أن تؤسس لله وطنا على الأرض ولو على جثث الناس فهي ما زالت تنظر لنفسها كشعب مختار وحيد لله ، وهذه عنصرية هادمة لمعنى الألوهية ولروح البشرية في آن واحد، حيث أن في كل أمة من يتقي الله ويصنع البر مقبول عنده .
ولأن ليس عند الله محاباة من اجل هذا سيظل فرع إسرائيل يابسا غريبا عن شجرة الناس إلى أن تعلم أنه لا عنصرية بين الناس ولا تشيع في الله .