إميل أمين يكتب: غريغوريوس حداد.. بطريرك المسيحيين وإمام المسلمين

إميل أمين

حين صدرت وثيقة الأخوة الإنسانية في فبراير شباط 2019 في أبوظبي، خيل للكثيرين أن سطورها ضرب من ضروب اليوتوبيا، وأن أهدافها لا يمكن أن تتحقق على الأرض، وإنما تحتاج إلى المدينة الفاضلة لتجد طريقها إلى التنفيذ.

غير أن مراجعة دفاتر التاريخ العربي قبل بضعة عقود، تظهر لنا أن هناك نماذج بشرية عربية عاشت في بلادنا، وقدمت أفضل وأنقى نموذج للإخوة الإنسانية، نموذج لا يمكن المزايدة عليه، لا سيما وأن زمانه كان زمان القحط والجدب، فيما عاش هو الكرم والجود بأقل القليل الذي عنده في أوقات المحنة.

تبدو قصة غريغوريوس حداد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس والمولود في دمشق في 9 مايو آيار 1869 أقرب ما تكون لسيرة طوباوي ملائكي، وليس رجل دين إعتيادي، ممن اعتبرهم البعض: “موظفي الله”، والذين بات شغلهم الشاغل إنشاء مؤسسة الحجر، من دون النظر إلى  البشر.

لعل ما ميز هذا البطريرك العتيد، هو احترامه للآخر، وتقديره لمعتقده، من غير محاصصة طائفية، فصار قلبه قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان، ودير لرهبان، وبيت لأوثان، وكعبة طائف، على حد تعبير إبن عربي.

أدرك غريغوريوس مبكرا أن هناك حكمة علوية في التعددية، على اختلاف أشكالها وألوانها، ومنها التعددية الدينية، ورسخ لديه أنه لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

في هذا السياق تقول إحدى المرويات، إن شيخا دمشقيا من حفظة القرآن الكريم،  قد زاره في دار البطريركية، وله مظلمة تتعلق بدين له على أحد أتباع البطريرك الروحيين، وقد سأله أن يساعده في استرداد ماله، فطيب البطريرك خاطره، ووعده بتحصيل دينه، شريطة أن يتلو على مسامعه سورة مريم.

كان صوت الشيخ “محمد شميسم” رخيما، ولأنه ضرير فلم يكن يرى حال البطريرك حداد، فيما أكد مرافقه أن دموع الخشوع أخذت تنهمر من عيني البطريرك على لحيته، وتتساقط منها على صدره.. وبعد أن انتهى الشيخ “شميسم” من التلاوة قام حداد إلى غرفته الخاصة وأحضر المال المطلوب ودفعه.

مربط الفرس في هذه القصة هو أننا أمام رجل يمثل أعلى منصب للسلطة الدينية، لكنها سلطة روحية واسعة رحبة، غير محدودة ولا مسدودة بالتعصب الدوجمائي، أو التزمت الإيديولوجي، بل سلطة تسودها روح أخوة إنسانية حقيقية من غير تهوين أو تهويل.

عاش غريغووريوس حداد في الزمن الصعب، بل الصعب جدا،  لا سيما خلال السنوات الممتدة من 1914 وحتى  1918، وهي سنوات الحرب العالمية الأولى، والتي وقعت فيها في بلاد الشام المجاعة الكبيرة المعروفة باسم “سفر برلك”، والتي تعني “صفارة الإنذار أو التأهب للحرية”.

كانت الأيادي السوداء للإمبراطورية العثمانية الظلامية هي التي عبثت بالبلاد والعباد، فقد استولوا على الغلال التي تنتجها الأراضي الشامية الخصيبة، وصدروها إلى ألمانيا والنمسا، فيما ومن سوء الطالع، أن الجراد ساهم بالقضاء على الأخضر واليابس في البلاد، فقلت المواد الغذائية، وارتفعت أسعارها بجنون…

هل وقف البطريرك حداد صامتا أمام المجاعة، أم أنه سارع إلى رعاية مؤمنيه من المسيحيين فقط، ولو فعل ذلك لما كان أحد قد وجه له اللوم، فهذا هو الطبيعي في مثل تلك الأوقات الصعبة؟.

تبدو سيرة البطريرك الراحل مثيرة للدهشة الممزوجة بالإعجاب، والقصص الموثقة في دفاتر التاريخ الشامي، أكثر من أن نحيط بها.

من بين ما وصلنا أن مجموعة من النسوة المسلمات قابلن البطريرك في طريقه لافتقاد رعاياه، فشكون من الجوع، وعلت أصواتهن بالحاجة إلى خبز لإطعام أطفالهن الجياع، فعاد من فوره إلى البطريركية، وأمر أن توزع  المؤن على الجميع من دون تفرقة بين ملة وملة، أو دين وشكل، كل محتاج يتم إعطاؤه ما سأل.

على أنه حين اشتدت المجاعة، عمد البطريرك حداد إلى بيع الكثير من أراضي الوقف الخاصة بالبطريركية، واستخدام العائد لاستنقاذ الأرواح من الجوع الأعظم، الأمر الذي أدى إلى  حدوث عجز كبير في موازنة البطريركية، فاق 25 ألف قطعة ذهبية.

ولعل المثير في سيرة البطريرك حداد، أن نموذجه الإنساني الأخوي الراقي والخلاق، قد أجبر المتكبرين والمتغطرسين من القادة العثمانيين، أمثال جمال باشا السفاح، على أن يعاملوه بمنتهى الرقي والاحترام، بل والإخلاص، ذلك لأنهم وجدوا فيه خلقا رفيعا نبيلا، وعنصرا بشريا نادرا، وبخاصة بعدما رأوه من طريقة تعامله مع الأخرين، فقد عود نفسه على محبة جميع الناس كأسرة واحدة بلا استثناء.

وضع البطريرك حداد نصب عينيه، آية إنجيلية… “كنت جوعانا  فاطعمتموني”… ولم يحدد من هو الجوعان عبر فرز عنصري طائفي.. كان الجميع بالنسبة له أخوة في إنسانية واحدة.

لم يطلق عليه، أبوالفقراء المسلمين، إلا لأنه كان كذلك بالفعل، فقد حدث ذات مرة أنه كان يراقب أحد تلاميذه الذين يوزعون الخبز على  المحتاجين، ولم تكن دار البطريركية إلا ملاذا للجميع من مسلمين ومسيحيين، فاقتربت منه سيدة عجوز تسأل خبزا، فأخبرها أنه نفذ لكثرة الحسنات التي وزعت في ذلك النهار، مع  أنه كان قد تبقى لديه القليل منه.

في التو سارع  حداد وأخذ رغيف الخبز من تلميذه، ورفعه إلى الأعلى وقال: “يا بني هل كتب على هذا الرغيف من سيأكله”؟، فأجاب التلميذ: لا، فقال له حداد: “إعط الصدقة لكل من يطلبها، فالخلق كلهم عيال الله”، وناول السيدة وغيرها حصتهم من الخبز.

لم تكن علاقة حداد بمسلمي الشام علاقة صورية براجماتية شكلية، ففي عمق اشتداد المجاعة، لم يتبق للرجل شئ يبيعه، وكان يمتلك صليبا من أحجار الماس الثمينة غالية الثمن، يضعه على القنسوة الخاصة به، وكان هدية من قيصر روسيا نيقولا الثاني.

لم يأبه حداد لنفسه ولا لمنظره، فرهن الصليب الثمين إلى تاجر يهودي بألف ليرة عثمانية، وزعها على الفقراء، ليكتشف أحد تجار الشام الأثرياء من المسلمين الأمر، فيدفع قيمة الرهن ويهديه له، كان ذلك عام 1913، إلا أن البطريرك باع الصليب مرة أخرى، واستبدله بآخر من الزجاج الملون، ولم يتم معرفة  ذلك إلا بعد وفاته.

حين رحل حداد عن دنيانا في ديسمبر 1928 كان في وداعه 50 ألف مسلم، وأطلقت له المدفعية 100 طلقة، وكان البعض يصرخ “مات أبو الفقير، بطريرك المسيحيين، وإمام المسلمين”، وقيل وقتها إن المسلمين أرادوا الصلاة عليه في الجامع الأموي الكبير.

القصة لمن يريد الاستزادة أعمق وأوسع من السطور السابقة.. وما كتبناه ليس إلا غيض من فيض، لرجل الأخوة الإنسانية الكبير..

رحمة الله على البطريرك حداد رحمة واسعة.

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]