إميل أمين يكتب: فرنسا.. انتفاضة شعبية أم مؤامرة خارجية؟
ما الذي يحدث في فرنسا؟.. وهل نحن أمام هَبَّة وانتفاضة شعبية مرجعها عوامل اقتصادية؟.. أم أن الأمر في حقيقته غير البادية لعيون العوام أبعد من ذلك بكثير وأعمق؟.
علامة إستفهام مثيرة للذي تتبع سياقات الإضطرابات التي تجري في فرنسا منذ منتصف نوفمبر الماضي، من جراء رفع أسعار المحروقات من جهة وزيادة الضرائب والأداءات من جهة ثانية، سيما وأن الفرنسيين الذين اعتادوا الاعتراض السلمي لم يألفوا أبدا أعمال التخريب والحرق والنهب، إلى حد الإضرار بواحد من أهم المعالم التاريخية الفرنسية “قوس النصر” في نهاية جادة الشانزليزيه أشهر الأماكن السياحية في قلب عاصمة النور باريس.
هل يمكن أن نفكك ما يحدث على أرض بلاد الغال؟
إجتهاد أولي وبسيط يقودنا إلى القطع بأن هناك إشكالية إقتصادية بالفعل، فالمتظاهرون يحتجون على المستوى المفرط من الإقتطاعات الضريبية الإجبارية، مثل ضرائب الدخل، والرسوم، والتأمينات الاجتماعية، والتي زادت بنسبة 30% خلال عشر سنوات، مما تسبب في انهيار مستوى المعيشة للطبقات الاجتماعية التي يمكننا أن نطلق عليها غير المعولمة، أي تلك التي لم تتمتع بالعوائد المباشرة للعولمة المتوحشة، تلك التي فتحت الآفاق للأغنياء ليزدادوا غنى، وهبطت بالفقراء إلى ما دون الفقر، وبينهما الطبقة المتوسطة باتت لا تجد مرفأ أمان، فكان الشارع من جديد.
لكن المثير أن حكومة السيد “إدوار فيليب” تراجعت في بادئ الأمر عن زيادة أسعار الطاقة، وتاليا أشارت إلى إلغاء جميع الإجراءات الضريبية المزعجة للفرنسيين، غير أن الشارع الفرنسي ازداد اشتعالا بشكل غير مسبوق، ما طرح السؤال الجوهري التالي: “هل هناك أهداف ما ورائية لهذه الإنتفاضة الفرنسية؟”.
الشاهد أنه حين خرجت التظاهرات قبل نحو ثلاثة أسابع كان سقف التطلعات يتصل بإزاحة القرارات التي تؤثر على مستوى حياة الفرنسيين، ومرد غضب الشارع الفرنسي هو أن الحكومة الفرنسية ومنذ دلف ماكرون إلى قصر الأليزيه وهي تتعامل مع الفرنسيين بكثير من الفوقية، وروج ماكرون كثيرًا جدًا لفكرة: “السلطة العمودية” حيث القرارات تتخذ فى أعلى سلم الهرم السياسي الفرنسي، وما على المواطنين الفرنسيين إلا السمع والطاعة”.
والشاهد أن قليلين هم الذين يعلمون تمام العلم أن ماكرون هو رجل النخبة المالية النيوليبرالية في الداخل الفرنسي، ورجل بنوك روتشيلد تلك العائلة التي تتلاعب باقتصاديات العالم منذ ثلاثة قرون وربما أكثر، ومن بينها خرج منظرو العولمة، وحكام العالم الجدد، بل إن شئت الدقة قل: أسياده.
لم يكن للفرنسيين أن يصمتوا كثيرا، وهم الذين صدَّروا للعالم شعارات الحرية والمساواة والإخاء، وقد رأوا فيما يجري على أراضيهم نوعا من الانفصام الذي يصل إلى حد الانفصال بين رجالات الاليزيه وبين أبناء الشارع الفرنسي، وربما من سوء طالع الفرنسيين أيضا أن رئيس وزرائهم الحالي يتعامل بتعال شديد وكبرياء غير مسبوقين مع طبقات عريضة من الشعب الفرنسي، ما دعا الشرطة الفرنسية ذاتها لأن تعلن إضرابا مفتوحا، فيما أتهم نقيب الشرطة في باريس “الكساندر لانغولا” الدولة بأنها تتعامل مع معظم أفراد الشرطه كالحيوانات، وبخاصة أن ساعات العمل طويلة جدا دون انقطاع”.
هذا التحول الجذري دفع المتظاهرين إلى رفع سقف مطالبهم، وبدأنا نستمع الى شعارات كأنها رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لما حدث في بعض العواصم العربية قبل ثماني سنوات، واستخدم بعض من متظاهري السترات الصفراء تعبير “ارحل” في مواجهة ماكرون.
هل عمق المشكلة الفرنسية اقتصادي؟
يجيب العارفون ببواطن الأمور: ان في المشهد كثيرًا من القضايا المالية الملتبسة والمعقدة، ففي الجهاز الإداري الحكومي الفرنسي قدر واضح من الفساد المالي، ولهذا فإن جُل المتظاهرين من الشباب يريدون رفع الحد الأدنى للأجور، والخلاص من السياسات الاقتصادية التي أحكمت طوقها على رقبة المواطن الفرنسي لصالح الكيانات الاقتصادية عابرة القارات، لكن يبدو أن هناك فريقًا آخر، وقد ألمح إليه ماكرون، يحرك الشارع الفرنسي بطريق خفي، وإن تذرع ضمن المتذرعين بالمطالب الاقتصادية، ويبقى هدف هؤلاء هو رأس ماكرون سياسيا قبل أي شئ آخر.
لا يعيد التاريخ نفسه ولا يكرر أحداثه.. هكذا علمنا كارل ماركس، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن أحداث التاريخ كثيرا ما تتشابه، ولهذا يقارب البعض بين مظاهرات الطلبة في فرنسا 1968 وما يجري اليوم، ومع الفارق الكبير، إذ كانت تلك عبر نصف القرن الفائت مظاهرات أيديولوجية، وأن هذه برسم الخبز والملح، إلا أن النتيجة المباشرة في المرة الماضية كانت رحيل شارل ديجول رجل فرنسا الذي كان رافضًا للهمينة الأمريكية على مقدرات فرنسا، بل إنه جعل القرار الخاص بالترسانة النووية الفرنسية خارج إطار صلاحيات حلف الناتو.
اليوم شبيه بالأمس.. وهذا ما يترك بابا واسعا للهواجس، ويفتح ملفات قديمة عن جماعات تم تشكيلها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لتكون أدوات خفية في يد المنتصرين للتلاعب بمقدرات الآمنين في أي بقعة أو رقعة حول العالم.
الجماعة التي نتحدث عنها ويعزي كثيرون من الأوربيين الثقات وجود أصابعها في توترات فرنسا الأخيرة هي الـ “استاي بيهايند”، وهي جماعات مسلحة ومدربة وهدفها الأول والرئيس هو إسقاط أنظمة الحكم في دول عديدة، وأصابع اتهامات عديدة تشير إلى دورها فيما جرى في العالم العربي، وغالبا لدى وزارة الداخلية التونسية تحديدا علم بذلك، إذ تمكنت من القبض على أحد عناصرها، ويبدو أن بعض عناصرها استخدموا عنفا واضحا في تظاهرات الفرنسيين للنيل من الرئيس الفرنسي.
لكن لماذا ماكرون تحديدا؟.
لا يمكن لأي محلل سياسي محقق ومدقق أن يوفر المخاوف التي تولدت عند العم سام وبقية النافذين على الجانب الآخر من الأطلسي في إدارة الرئيس ترامب من الدعوة التي رفعها ماكرون عاليا الأسابيع الماضية والمطالبة بتشكيل جيش أوروبي موحد، وعدم القبول بما يشبه الإتاوة الأمريكية التي يطالب بها ترامب الدول الأوربية، أي 2% من الناتج القومي الإجمالي لكل دولة كمساهمة في موازنة الناتو، وقبل أسبوعين وفي حديث له مع محطة سي ان ان الإخبارية الأمريكية الشهيرة قالها ماكرون صريحة غير مريحة للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي: “إنه لا معنى لأن نبقى أبدا ودوما نُقبل على شراء السلاح من الجانب الأمريكي”.
كارثية دعوة ماكرون أنها لقت تجاوبا كبيرا من الجانب الألماني، فقد دعمته المستشارة ميركل، وباتا معا يشكلان مقدمة أوربية للإنفصال عن الناتو عما قريب.
أما الرعب الذي يعم الأمريكان في حاضرات أيامنا فيتصل بالسعي في طريق اتحاد جديد يمكن أن يغير من حاضر ومستقبل النظام العالمي.. أوراسيا المقبلة، تلك التي تنسف أحلام القرن الأمريكي للمحافظين الجدد ووثيقة المائة عام الأمريكية التي تبلورت في العام 1997.. ماذا تعني أوراسيا والحلم الأوروبي الروسي القادم؟
الى مقال آخر.