إميل أمين يكتب: كريسماس الكورونا.. زمن الأضواء الخافتة
لعلها المرة الأولى منذ قرون بعيدة جدا، التي يتربص فيها الظلام خلف الأبواب في محاولة لسرقة بهجة أعياد الميلاد من حول العالم، وقد خيل للجميع أن الفصح الحزين السابق، في أبريل المنصرم، ربما يرحل ليفسح مكانا للكريسماس المبهج، إلا أن الموجة الثانية من جائحة كوفيد-19، جعلت أضواء الميلاد هذا العام خافتة، فيما الآمال معلقة على بصيص الضوء الذي بدأ يتسرب من وراء اللقاحات، رغم التشكيك الواضح في فاعليتها من قبل الكثيرين.
هل تسرق الجائحة بهجة الأعياد؟
في لقائه الأخير مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان، وعلى هامش تركيب شجرة الميلاد، وإعداد المغارة التقليدية، تحدث البابا فرنسيس بالقول: “لا توجد أزمة بإمكانها أن تطفئ نور الميلاد، ومؤكدا على ضرورة أن نسمح للنور أن يدخل إلى قلوبنا، وأن نمد يدنا لمن هم في أمس الحاجة إليها، ليكون الميلاد فينا حقا علامة رجاء.
والشاهد أن الجائحة وعلى الرغم من الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية المتبعة في إيطاليا، إحدى أكثر الدول الأوروبية تعرضا للفيروس الشائه، لم تمنع من إقامة الحفل الموسيقي السنوي وراء جدران الفاتيكان، والذي يخصص دخله كل عام للفقراء حول العالم.
في لقاء فرنسيس بالفنانين المشاركين في قاعة بولس السادس قبل أيام قليلة قال مرة ثانية: “حتى في حالة الإرتباك التي يسببها الوباء، فإنه يمكن لإبداع الفن أن يولد النور”.. وأشار الحبر الأعظم إلى أن أضواء عيد الميلاد الخافتة هذا العام، هي دافع للصلاة، وإحياء ذكرى العديد من الأشخاص الذين تألموا بسبب الوباء.
كلمات فرنسيس حملت رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لمعنى ومبنى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت في أبوظبي في فبراير شباط من عام 2019، إذ أشار الفقير الذي رفض أن يسكن القصر الرسولي المخصص للباباوات، إلى أن هذه الأوقات العصيبة أشعرتنا بفائدة الاتكاء المتبادل بعضنا على بعض، ذاك الرباط الجميل والإنساني الذي يجمعنا معا في درب الإنسانية.
فرنسيس وفي حديثه مع جوقة الفنانين والموسيقيين، أكد على أن العالم “يحتاج إلى الجمال لكي لا يغرق في اليأس، فالأزمة تجعل ظلال العالم المغلق حالكة، ويبدو أنها تحجب النور الإلهي الأبدي، لكن علينا ألا نستسلم لهذا الخداع، ولنبحث عن نور الميلاد، النور الذي يخترق الألم والظلام.
على هامش الكريسماس الخافت، يسأل فرنسيس العالم أن يظهر جمالا حقيقيا روحيا باطنيا تجاه الآخر، الأخ في الإنسانية، بروح التواضع التي نجدها في مغارة الميلاد، وحتى يسود الرجاء والأمل في عبور زمن الجائحة الذي حاول إطفاء البهجة في النفوس.
الجائحة تلقي تبعاتها على التقاليد المرعية في احتفالات الكريسماس والصلوات السنوية، لا سيما وأن السلطات الإيطالية اتخذت قرارا بحظر التجوال عند الساعة العاشرة مساء، ولهذا احتفل فرنسيس بقداس عيد الميلاد، عشية 24 ديسمبر كانون الأول عند الساعة السابعة والنصف، في بازيليك القديس بطرس، وعلى خلاف العادة لم تمتلئ الكاتدرائية العتيدة بالزوار من كافة أرجاء العالم، فقد قطعت كورونا أوصال العالم، ولهذا كانت المشاركة مختصرة على عدد قليل من الحضور وبمراعاة البعد المكاني لمزيد من الوقاية.
في الخامس والعشرين من ديسمبر كانون أول من كل عام، كانت العادة أن يلقي البابا من شرفة القصر الرسولي كلمة للحجاج، وأن يعطي البركة الرسولية التقليدية المعروفة بإسم
URBI ET ORBI أي البركة لروما المدينة المقدسة، ولبقية العالم.
هذا العام لم تسمح السلطات المدنية بتكدس الآلاف المنتظرين لكلمة البابا، بل كان الحضور رمزيا بشكل واضح، لا يتجاوز العشرات.
ماذا عن الكريسماس في بيت لحم حيث ولد السيد المسيح؟
حكما غابت أجواء البهجة التي تعرفها المدينة كل عام، على الرغم من إضاءة شجرة الميلاد، لا سيما بعدما تراجعت أعداد السياح بشكل غير مسبوق.
في كلمته التي وجهها للمؤمنين قال بطريرك اللاتين في القدس “بيير باتيستا بيتسابالا”، إن وضعنا الحالي صعب جدا، فقد جلبت الجائحة السوء لدول عديدة حول العالم، وأثرت على حياة كل شخص، وباتت الأوضاع الإقتصادية تشكل مصدر قلق، وأصبحنا نخشى المستقبل.
ويضيف “بيتسبالا”: إن الجائحة تذكرنا بأنه ليس هناك حياة مادية فحسب، إنما هنالك حياة أبدية أيضا، وهذه تتجلى في محبتنا للآخر، ومشددا على أن الكلمات أمر مهم جدا، وإننا بحاجة لقول كلمات التعزية، وللتعبير عن التضامن فيما بيننا، خاصة في هذه الظروف الصعبة، ومع ما يعتريها من خوف وقلق وغموض، فإننا مدعوون لأن نكون يقظين، بأن نلمس حضور الله في حياتنا.
الكريسماس الخافت لم يوفر الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك في مدينة نيويورك تحديدا، جرى العرف أن توضع شجرة الكريسماس النرويجية العملاقة، من فصيلة أشجار “التنوب”، أمام مركز “روكفلر التجاري”، في قلب المدينة التي لا تنام.
لكن شجرة هذا العام تبدو هزيلة الأوراق، إلى درجة أن أحدهم قال “إن هذه الشجرة مرت بسنة قاسية مثلما مررنا جميعا في 2020”.
أما شجرة الميلاد في ميدان “ترافالجار” بالعاصمة البريطانية لندن، فقد وصفها الكثيرون من مستخدمي الفيسبوك بأنها تبدو وكأنها مصابة بالأنيميا.
الضوء الخافت لا تبدله ولا تغيره سوى أنوار المودات، والمزيد من الأخوة الإنسانية والتعاضد البشري حتى تعبر المحنة التي تمر بالإنسانية جمعاء.
كريسماس سعيد رغم الألم ومع الدعاء إلى السماء برفع هذه الغمة كي تستعيد البشرية عما قريب جدا بهجتها المفقودة هذا العام.