إنها المؤسسات يا غبي.. الجذور الحقيقية للأزمة السياسية الأمريكية

 ‏جوليا آذاري* فورين أفيرز

ترجمة خاصة لـ”الغد”: أعدها – نادر الغول

 

‏يتفق معظم المراقبين على أن الديمقراطية الأمريكية تمر بأزمة، ‏وسيوقع البعض اللوم على الرئيس دونالد ترامب، مستدلين باعتدائه على الأعراف والأنظمة الديمقراطية، النظام الانتخابي، استقلال القضاء، دولة القانون، وأخيرًا عدائه للإعلام.

‏”هذا ليس طبيعيا” قال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في خطاب له في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي منتقدا خليفته. البعض الآخر يرى في ترامب ذروة ‏الانحدار المستمر في الديمقراطية الأمريكية، القصة التي بدأت منذ أمد طويل مع زيادة الاستقطاب السياسي، الصراع التشريعي، وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. مهما كانت المسببات هناك إجماع على أن النظام السياسي لم يعد يعمل بفعالية.

‏ومع ذلك فإن القصة الحقيقية، أن الديمقراطية الأمريكية ليست قصة بحاجة إلى ترميم، ولكن بحاجة إلى إصلاح جذري، فالمشاكل المؤلمة اليوم تم استحضارها ليس بسبب الجهل، ولكن بسبب الجهود المنقوصة لتحسينها نتيجة المتغيرات والحقائق السياسية، والنتيجة هي أن الديمقراطية لم تعد جامعة وفاعلة.

‏ورغم كل الحديث عن السياسيين غير المستجيبين والناخبين اللا مباليين، فقد يكون الجزء الديمقراطي في النظام السياسي الأمريكي في أفضل حالاته على الإطلاق. لا يزال قمع الناخبين يمثل مشكلة كبيرة، ولكن هناك اتجاهات أخرى توحي بالحالة الصحية للنظام الديمقراطي. الانتخابات النصفية  في العام الماضي شهدت نسبة الإقبال الأعلى منذ عام 1966. ‏وارتفع على التصويت بين الناخبين من الفئة العمرية 18-29 بنسبة 16% مقارنة بانتخابات عام 2014، علاوة على ذلك أرسل الناخبون بشكل لافت مجموعة غير متجانسة من السياسيين الى السلطة.

ويعد الكونجرس الجديد الأكثر تنوعا عرقيا وتمثيل للاقليات مع وجود أعضاء جدد يمثلون هوياتهم الأم لأول مرة في ولاياتهم.

‏في ولاية كولورادو تم انتخاب أول حاكم مثلي الجنس في تاريخ الولايات المتحدة. وتتضمن المجموعة الحالية للطامحين للانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي في العام 2020، ست نساء، وستة أشخاص من ذوي البشرة الملونة، ورجلا مثلي الجنس بشكل علني، فالأمريكيون الذين كانوا مستبعدين سابقا من السلطة يدخلون بأعداد أكبر إلى المنافسة السياسية. الأمور أبعد ما تكون عن الكمال لكنها أفضل.

‏على أي حال رافق حالة الانفتاح السياسي أزمة في الحكم. تحت حكومة منقسمة في سنوات أوباما الأخيرة، الكونجرس نادرا ما استطاع الوصول إلى اتفاق بخصوص الميزانية أو حتى صياغة قوانين جديدة. وبالنتيجة لجأ الرئيس إلى القرارات التنفيذية وخطوات أحادية لصنع السياسات.

بعد تنصيب ترامب، انتهى الانقسام الحكومي مؤقتا، الكونجرس بين عامي 2017-2019 إذا تم قياسها بالمعنى التشريعي، كانت أكثر إنتاجية من السنوات السابقة، ولكن حسب مركز بيو للأبحاث ثلث هذه القوانين كانت بروتوكولية. عدم خبرة إدارة ترامب إضافات فقط إلى  الأزمة الحاصلة،  من  خلال الفوضى التي شابت الحكومة الفيدرالية والتي أدت إلى سياسات غير متناغمة.

أين الخلل؟

‏ما الخطأ الذي حصل؟ كيف أصبحت الديمقراطية الأمريكية غير فعالة، حتى بعد أن أصبحت أكثر مشاركة؟ الجواب يكمن في عدم التناغم ‏بين المؤسسة السياسية للولايات المتحدة والحقائق السياسية على الأرض، ولنوضحها أكثر، البناء الهيكلي للديمقراطية الأمريكية فشل في مواكبة التغييرات السياسية والاجتماعية وحصل هذا في ثلاث نواح مختلفة:

التمثيل السياسي بقي مربوطا بالولايات والمقاطعات وحتى عندما كان النقاش السياسي على المستوى الوطني بقيت الانتخابات أقل أهمية بالمعنى الدستوري. رغم ذا النقاش أصبح أكثر عملية. المؤسسات بقيت لديها عمى ألوان (التعامل مع الأعراق والعنصرية) رغم أن العرق أصبح مكونا أساسيا من الحياة السياسية المعاصرة، وعليه فإن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشحونة بالتوتر وغير قادرة على تقديم سياسات يريدها العامة.

فكر وطني وانتخاب محلي

‏عندما صمم النظام السياسي للبلد الجديد رابطين بين مجموعة من المستعمرات، الآباء المؤسسون تخيلوا أن الأمريكيين سيكونون مرتبطين أكثر بولاياتهم. وهذا التصور أنتج نظاما يكون فيه التمثيل السياسي مرتبطا بالموقع الجغرافي، خاصة الولايات والمقاطعات.

في يومنا الحالي الناخبون يبدون اهتماما أكبر بالشأن الوطني. ورغم أن السياسة الأمريكية أصبح يسيطر عليها الشأن الوطني العام، بقي الهيكل السياسي محليا بطبيعته.

هذا الخلاف أصبح جليا على المستويين المحلي والوطني. في الكونجرس، يمكن أن يُعرقل تشريع مرغوب شعبيا، لأن كل ولاية لديه عضوان في مجلس الشيوخ. الولايات ذات التعداد السكاني المتدني، وهي في غالبها ذات طابع ريفي وأغلبية بيضاء، لديهم قوة فاعلة في مجلس الشيوخ من خلال أعضائها، وبالتالي يجعل من السهل على الأقلية السيطرة على إرادة الأغلبية، (يستطيع خُمس أعضاء المجلس إيقاف أي تشريع) حتى إن أغلب التشريعات التي تحظى بدعم غالبية الناخبين، عادة ما تبقى محله وحتى أنها لا تطرح للتصويت عليه بالمقام الأول.

لنأخذ على سبيل المثال تشريعات فرض قيود على الأسلحة النارية، وهو تشريع يتمتع بتأييد غالبية الأمريكيين ولكنه مع ذلك محاولة تلو المحاولة يفشل مجلس الشيوخ ‏في تمرير هكذا قانون.

جماعات الضغط مثل جمعية إصلاح الوطنية تلقى اللوم الأكبر على إفشال هكذا قوانين، ولكن هيكلية الكونجرس تلعب دورا أيضا، أعضاء الكونجرس لا يمثلون الناخبين جميعا بل يمثلون ولاياتهم ومقاطعاتهم. السيطرة على هؤلاء، ويمكن لمجموعة تمثل أقلية من جميع الأمريكيين تجاوز وفرض رأيها على باقي الأمريكيين.

‏النظام السياسي الأمريكي والذي تعكس فيه التشريعات فسيفساء من الاهتمامات المحلية،  ليس بالأمر السيئ، إنه يجعل حكم بلد كبيرة ومتنوعة أكثر قابلية، ولكنه يبقى أقل استجابة  للمطالب الشعبية في القضايا الوطنية.

‏الهجرة مثلا موضوع يُتداول على المستوى الوطني ولكن الإجراءات بخصوص هذا الموضوع الذي يدعمه الكثير من الأمريكيين مثل تمديد حالة الحماية للمهاجرين غير الشرعيين والذين دخلوا البلاد مع أطفالهم أثبتت أنه غير عملي. ناقش الأمريكيون والإعلام الأمريكي هذه القضية ولكنهم فشلوا في تعبير عن إرادة وطنية تساهم في عملية اتخاذ القرار أو صنع السياسات.

‏من جهة أخرى وعلى المستوى المحلي، عدم التناغم بين التمثيل المحلي والسياسة الوطنية يعني أن هؤلاء الأقلية لايسمع صوتهم. المحافظون الذين يعيشون في مقاطعات زرقاء (نسبة للحزب الديمقراطي) أو الليبراليون الذين يعيشون في دوائر حمراء (نسبة للحزب الجمهوري) ليس لديهم قول في المنظومة السياسية.

‏وعلى المستوى الوطني فإن البلاد تكون عرضة للمنافسة،  بمعنى أن كل انتخابات يكون أحد المجلسين في الكونجرس متاحا لسيطرة أحد الحزبين، ولكن من ضمن 435 مقعدا في مجلس النواب بحدود 50 مقعدا يكون متاحا للمنافسة. ولا تختلف الانتخابات الرئاسية عن انتخابات مجلس النواب، وكما وصفها الباحث السياسي آلان إبراموفيتز، فإن التصويت الشعبي في انتخابات الرئاسة يظهر سباق رئاسة متقاربا. وأن  نسبة التصويت في الولايات الكبرى هي أقل من نسبته في منتصف القرن الماضي. ‏

في انتخابات الرئاسة عام 1960 وعلى سبيل المثال، نسبة التصويت في ولايتي تكساس وكاليفورنيا كانت متقاربة جدا. وفي انتخابات الرئاسة الأخيرة 2016 فازت هيلاري كلينتون بولاية كاليفورنيا بفارق 30 نقطة وترامب فاز في ولاية تكساس بفارق تسع نقاط.

ومع أن السباق الانتخابي كان قد انتهى في العديد من الولايات إلا أن اقلية من الأمريكيين يعيشون في الولايات المتأرجحة حسموا السباق. ‏المؤسسة الحزبية الوطنية اعتادت التقليل من أهمية هذه المشاكل. المنصات والمرشحون الرئاسيون الذين أنتجتهم كانوا انعكاسا لاهتمامات الولايات وقيادة الحزب المحلية، وكنتيجة فإن الأحزاب سمحت بالتنوع في مواقف أفرادها المحليين.

في الحزب الديمقراطي على سبيل المثال، سياسة الساحل الشرقي في نهاية القرن التاسع عشر أخذت موقفا أكثر إيجابية بخصوص رجال الأعمال ورأس المال من نظيرتها في الأماكن الريفية والغرب، وعندما بدأت حركة الحريات العامة وقف الليبراليون الشماليون ضد الانفصاليين الجنوبيين.

‏هذه الأيام بمجملها ولت، ولكي يزيد الطين بلة، الأحزاب الوطنية تواجه صعوبة أكبر في السيطرة على من يمثل الحزب في الانتخابات الرئاسية، والذي يجعل مهمتهم أكثر صعوبة في أن تمثل الاهتمامات المختلفة داخل الحزب الواحد.

ولكي تنفي عنها هذه الاتهامات فإن قيادة الحزب الديمقراطي قبل انتخابات 2020قامت بشكل كبير بتقليص وجود الأعضاء فوق العادة Super-delegates الذين يصوتون في مؤتمر الحزب العام دون الارتباط بتصويت الولايات في الانتخابات التمهيدية وحجمت من إمكانية المرشحين الدخول في مناظرات انتخابية متلفزة دون العودة إلى الحزب. و‏أدى تأميم السياسة الحزبية إلى إضعاف السياسة الحزبية، وهذا بدوره أدى إلى توسيع الفجوة بين الاهتمامات المحلية وهياكل السلطة الوطنية.

 الهاجس الانتخابي

‏وهي ناحية أخرى تعكس التوتر بين المؤسسة القديمة والحقائق السياسية التي تتضمن الانتخابات. الانتخاب لعب دورا بسيطا في دستور ‏الولايات المتحدة الأصلي. وثيقة الدستور الأولى تضمنت انتخابا مباشرا للرئيس من قبل أعضاء مجلس النواب، وأعضاء مجلس الشيوخ يتم اختيارهم من قبل نواب الولاية المحلية، والولاية تقر لهم كيف يتم توجيه أصوات المجمع الانتخابي في الانتخابات الرئاسية.

هذا الوضع كان طبيعيا إذا ما أخذنا بالحسبان وقت كتابة الدستور، فلم يكون هناك إعلام شعبي ولا وسائل مواصلات سريعة وبالتالي فكرة أو مبدأ انتخابات وطنية لم يكن فكرة واردة.

‏مع مرور الوقت التغييرات على الدستور كان يهدف منها جعل السياسة الأمريكية أكثر ديمقراطية. سمح التعديل الخامس عشر الذي أصدر في أعقاب الحرب الأهلية للرجال غير البيض بالتصويت، التعديل السابع عشر والذي يقر في العام 1913 جعل انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ بشكل مباشر. وسعت التعديلات المتعاقبة إلى السماح للنساء بالتصويت وأي شخص يبلغ 18-21 من التصويت وإلغاء ضريبة الاقتراع.

‏التصويت المباشر لم يصبح عرفا لاختيار المرشحين على مستوى الوطن فقط، ولكن أيضا مبدأ قاد إلى إصلاح العملية السياسية، واستفتاء على السياسات. أصبحت الانتخابات تحتل موقعا مركزيا في النظام السياسي الأمريكي، ومع ذلك كان للتركيز المتزايد على الانتخابات تأثير جانبي سلبي، فقد أدى إلى تعقيد عملية وضع السياسات، أصبحت السياسة تركز على اتخاذ المواقف والصراع الأدائي.

‏الضغط الانتخابي وخاصة في الانتخابات التمهيدية للرئاسة، يمكنه أن يشتت انتباه المشرعين ‏في أداء واجباته التشريعية، وإدارة شؤون البلاد. دورة الانتخابات الرئاسية امتدت لتصبح عاما من الانتخابات التمهيدية والحملات المكثفة. ‏وبالتالي أبعدت المرشحين عن أداء أعمالهم وواجباتهم اليومية.

‏حالة الاستقطاب السياسي زادت من المشكلة. لعقود مضت المنتقدين ‏ألقوا باللائمة على النظام السياسي الحزبي الذي حرم الناخبين من الخيارات السياسية. ‏وكانت مواقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري متشابهة، في أن النظام كان غير فعال في الاستجابة للإرادة الشعبية. ولكن لاحقا حدثت بعض التغيرات، التي قلبت الطاولة. الأحزاب نفسها عانت من تغلل الأيديولوجيات، وعليه غادر المحافظون الحزب الديمقراطي، والليبراليون غادروا المعسكر الجمهوري.

‏التغيرات التي حصلت في دور المؤسسات التشريعية، كان في بعضها متناقضًا، ولم تكن مصممة بهدف الاعتراف بفوز حزب أو آخر، بل على العكس كان النظام التشريعي مصمما من أجل المساومات دون أي اعتبار للحزب. لماذا هذا الاهتمام بالانتخابات؟ الجميع مقتنع أنه يجب أن يتم اختيار المسؤولين ومحاسبتهم من خلال انتخابات حرة وشفافة، ولكن عندما يدور الجدل حول السياسات، فإن دور الانتخابات يبدو ضبابيا. ‏من خلال دراساتي وبحوثي حول كيفية أداء الرئيس وطاقمه، تظهر أنهم يعتبرون الانتخابات مصدر للقوة، وأداة يمكن للرئيس من خلالها الدفع لبناء أجندة تشريعية للسياسات المفضلة لديهم.

‏ولكن في العقود الأخيرة، باتت نتائج الانتخابات مبررا للخيارات السياسية بحد ذاتها. على سبيل المثال الرئيس ليندون جونسون ودائرته المقربة اعتبروا فوزه في انتخابات عام 1964 أداة نفوذ على الكونجرس. الرئيس رونالد ريغان ومساعدوه رووا أن فوزهم في انتخابات 1980 فوز للنهج المحافظ والذي برر السياسات العامة لتلك الإدارة.

‏لا تنسجم الأساليب الجديدة من التفكير بخصوص الانتخابات تماما مع النظام الذي خلقه الدستور، حيث يتم انتخاب الرئيس كل أربع سنوات، ويتم انتخاب أعضاء مجلس النواب كل سنتين، وأخيرًا مجلس الشيوخ لست سنوات، والسؤال هنا هل خسارة حزب الرئيس الانتخابات النصفية ينفي فوز الرئيس؟ إذا اختار الناخبون حكومة منقسمة، ما الذي يسعون إليه حقيقة؟ أسئلة بحاجة إلى أن يقدم النظام السياسي إجابات واضحة عنها.

‏خلال السنوات الست الأخيرة من عهد أوباما، استنزف الكونجرس نفسه من خلال مواجهات إقرار الميزانية وإصدار القليل من التشريعات ذات الأهمية. بالنسبة للجمهوريين في الكونجرس وقيادات حزب الشاي كانوا يفعلون تمامًا ما أرسلهم ناخبوهم إلى واشنطن للقيام به، أي معارضة أوباما، مع أن أوباما ربح التصويت الشعبي مرتين في العامين 2008 و2012، ومن المنظور الديمقراطي كان الكونجرس الجمهوري من يعارض إرادة الناس. ‏في بلاد فيها الجماهير منقسمة ونظام سياسي يقرن الفوز الانتخابي بشرعية الحكم، ‏يظل المسار الصحيح لعمل القادة المنتخبين غير واضح .

‏السؤال بات أكثر إلحاحا في عهد ترامب. الفوز المفاجئ للرجل في انتخابات 2016 كان إشارة إلى أن الناخبين رفضوا الأجندة الديمقراطية، (رغم فوز كلينتون بالتصويت الشعبي)، ومع ذلك خسر الجمهوريون الانتخابات النصفية 2018، مرسلة إشارة متناقضة تماما لنتائج 2016. الرد الوحيد على هذه الإشارات أو الرسائل المتناقضة صياغة أجندة تشريعية غير حزبية تتناول الأولويات المشتركة، ولكن هذا يبدو أُمنية بعيدة المنال.

‏الآن ومع محاولة الديمقراطيين استيعاب ما توصل إليه تحقيق المحقق الخاص روبرت مولر الذي كلف بالتحقيق في التدخل الروسي في انتخابات 2016، فإن الديمقراطيين يتجادلون فيما بينهم سؤالا حول ما هي الشروط الواجب توافرها أمام الكونجرس من أجل عزل الرئيس المنتخب؟ ‏الدستور يقدم إجابات محددة وغير واضحة وهذا دليل آخر على أن المؤسسات فشلت في مواكبة الحقائق السياسية.

خرافة اللون

‏أخيرًا، إنه من المستحيل الحديث عن فعالية الديمقراطية الأمريكية من دون أخذ عامل العِرق بعين الاعتبار. العديد من المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة صممت للإبقاء على التسلسل الهرمي العنصري. اعتبر الدستور العبيد ‏إنسانا اناقصا، لغرض توزيع المقاعد في مجلس النواب. ولأن المجمع الانتخابي خصص الأصوات باستخدام نفس الصيغة العنصرية،  فقد تعزز تأثير ودور الولايات التي أبقت على العبودية قبل الحرب الأهلية .

‏الإدارة الفيدرالية للإسكان والتي وجدت في العام ١٩٣٤ من أجل تأمين قروض الإسكان الخاصة، قامت بشكل ممنهج بالتمييز ضد سكان الأحياء السود، حارمة إياهم من الحصول على القروض السكنية وبالتالي حرمانهم من تراكم الثروة.

ليس من الصعب تتبع أثر هذا الإرث من التميز، عقود من السياسات العامة العنصرية مسؤولة عن التباينات الحالية في توزيع الثروة بين السود والبيض، ‏كما أشار الكاتب تينيهاسي كوتس في مقالة له عام ٢٠١٤ على صفحات مجلة The Atlantic بعنوان “حالة جبر الضرر”، العنصرية تكمن وراء السلوك السياسي المعاصر.

كما وجد البحث الذي أجراه افيديت أشاريا وماثيو بلاويل ومايا سين فإن إرث الرق والعبودية ما زال يشكل الحالة السياسية في الجنوب إلى يومنا هذا. ‏المقاطعات التي يسكنها البيض وكانت لديها حصة كبيرة من العبيد تميل غالبا إلى دعم الجمهوريين وغالبا ما يعارضون العمل الإيجابية تجاه موضوع العرق والعنصرية.

وما زال العرق يشكل منذ زمن بعيد التباين الذي يستخدمه السياسيون من أجل وصف الناخبين في المناطق الريفية وناخبي المدن. في الحالة الأولى يتم تصويرهم على أنهم مثاليون ويستحقون المزيد من الاهتمام، وفي حالة المدن بالفوضى ولا تستحق الاهتمام.

‏وأخيرًا كما أظهر الباحثون السياسيون مايكل تيسلر وجون سايدز ولين فافريك في كتابهم “أزمة الهوية” فإن العرق والهجرة حفزت الكثير من ناخبي ترامب.

بكلمة أخرى فإن العرق لطالما شكل وبقي يشكل المؤسسات الأمريكية والنهج السياسي الأمريكي. وهذا الموضوع إشكالي بحد ذاته، بل حتى أسوأ من ذلك، لأن الولايات المتحدة عالقة مع مؤسسات فشلت في رؤية هذه الحقيقة. تشريع الحقوق المدنية، خاصة قانون الحقوق المدنية والذي تم تبنيه في العام ١٩٦٤ ركز على منع التمييز، يبدو هدفا يستحق الثناء، ولكنه ليس كافيا لحل إشكالية العنصرية الهيكلية، مثل عدم تكافؤ الفرص في الحصول على السكن وتوفير مدارس ذات جودة عالية. ‏

منذ ستينيات القرن الماضي توجهت القوانين إلى أن تصبح عمياء، مع الإيجابية في آليات قبول الطلاب في الجامعات والدعم لحقوق التصويت، إلا أن هذه الأمور ما زالت تعاني نكسةً تلو الأخرى في المحاكم .

‏بالتأكيد ليس مستغربا أن جيلا من الأمريكيين البيض نشأوا في مجتمع يغض الطرف عن العرق “عمى ألوان”، إلى درجة أن العنصرية ما زالت موجودة، ويجادل البعض بأن المشكلة هي في الأشخاص وليس في النظام.

في الحقيقة وبكل تأكيد لا تزال التفاوتات العرقية الممنهجة قائمة، حيث يوجه السود الأمريكان نتائج هذه تفاوتت أكثر من نظرائهم البيض، من حيث الصحة، التعليم، الدخل المادي، والعدالة الجنائية.

‏ومع هذا فإنه أصبح إشكاليًا الاعتراف بهذه الحقيقة، شيء اكتشفه أوباما الحين أصبح رئيسا في عام ٢٠٠٩ بعد اعتقال أستاذ جامعة هارفارد هنري لويس غيتس جونيور الأسود والذي اعتقل للاشتباه بأنه لص أمام منزله، ووصف أوباما الحادثة بأنها “تصرف غبي”.

انبرى المحافظون للدفاع عن الشرطة، ما اضطر أوباما للتراجع، ودعا أستاذ الجامعة والشرطي الذي اعتقله إلى “قمة جعة” في البيت الأبيض. بعدها بثلاثة أعوام، بعد حادثة تريفون مارتن، المراهق الأسود الذي قتل من قبل حارس حي في ولاية فلوريدا.

قال أوباما “لو كان لدي صبي لكان مثل تريفون،” أيضًا هاجمه المنتقدون قائلين إن الأمر هو مسألة إنفاذ قانون محلي، ومع أن تصريحات أوباما لم تخرج عن المألوف ولكنها خرقت عرف عمى ألوان.

‏في استطلاع أجري عام 2006 من قبل مركز بيو للأبحاث، وجد أن أغلب الأمريكان يرون العنصرية صفة شخصية وليست مشكلة ممنهجة، الواضح أن أغلبهم لا يحبون أن يقال لهم عكس ذلك. في عهد ترامب، أصبح العرق مركز اهتمام السياسة الأمريكية. الرئيس ترامب يدعو لمنع المهاجرين المسلمين خلال الحملة الانتخابية، وقام بالفعل بإصدار قانون منع السفر لسكان سبع دول ذات غالبية مسلمة، وقدم أيضًا سياسة فصل عائلة المهجرين على الحدود المكسيكية- الأمريكية، وقال أيضا إن لاعبي كرة القدم الأمريكية الذين يجثون على ركبهم أثناء عزف النشيد الوطني إنهم “أولاد قحبة”، ومع ذلك فإن خرافة مجتمع ما بعد الأعراق لا تزال قائمة.

‏نظام في حالة التوتر

‏تفاقمت كل هذه التوترات بسبب مؤسسة الرئاسة الحديثة. وكل الرؤساء يقومون بإرسال رسائل وطنية من خلال وسائل الاتصال الجماهيري، والآن عبر وسائل التواصل الإجتماعي. لقد قلل هؤلاء الرؤساء من مكانة الرئاسة ودورهم، ليصبحوا رؤساء حملات انتخابية، وقد أثروا في موضوع العرق بشكل علني أكثر من أي وقت مضى.

سنوات ترامب كان لها الأثر الأكبر في إظهار وإبراز كل هذه التوترات، وكان لهم تأثير في هذا عبر موضوع العرق أكثر من أي وقت مضى منذ سنوات ترى كان لها التأثير الأكبر في إظهار وإبراز كل هذه التوترات.

ولكن ترامب لم يكن القوة وراء عدم فعالية النظام السياسي، فهو وصل إلى الكرسي في ذروة تناقض المؤسسات وزيادة تعقيدات حل هذه المشاكل.

‏كل هذه المشاكل لا تفترض أن المؤسسات الأمريكية تنهار، ولكن الإصلاحات ومحاولة حل هذه الإشكاليات السياسية، أدت إلى وضع تقوم فيه المؤسسات الدستورية أضعاف إحداها الأخرى. وتقول رواية الاضمحلال، التي تحظى بشعبية كبيرة في مناقشات اللحظة الراهنة على أن الديمقراطية الأمريكية لقد سقطت من الذروة التي وصلت إليها، والتي يمكن أن يقال عنها العصر الذهبي. ولكن هذا العصر الذهبي لم يكن موجودا من الأساس، وفكرة ما تعنيه الديمقراطية قد تحولت بشكل كبير عن مرحلة التأسيس الأمريكي وحتى منذ منتصف القرن العشرين. السياسات الآن وطنية، والانتخابات أصبحت تلعب دورا مركزيا والتنوع وسياسة الاحتواء (بالنسبة للجزء الأكبر من العامة) نتيجة طبيعية لهذا التطور.

‏إن التوتر الموجود حاليا في الديمقراطية الأمريكية يتحدى الافتراض الأساسي والذي صمم من أجله الدستور: أن السياسة ستتطور حول الحوافز التي أنشأتها المؤسسات. عوضا عن ذلك، عدم التناغم بين سياسات المؤسسات والحقائق السياسية، يقترح أن التغيير الاجتماعي حاصل لا محالة، رغم القواعد وترتيبات السلطة.

عندما رفض الكونجرس تمرير قانون مكافحة القتل (يقصد الكاتب هنا قتل السود من خلال ربطهم في شجرة وإعدامهم بسبب العنصرية) بعد حقبة إعادة الإعمار، ركز الناشطون جهدهم بتحريك الرأي العام وتحقيق انتصارات من خلال المحاكم. الحراك الاجتماعي بإمكانه تغيير السياسة والمجتمع جذريا من دون تغيير بنود الدستور الأصلية.

‏كل ما سبق يقترح أن يقوم المصلحون بالدفع لإيجاد حلول يمكنها أن تخفف التوترات السياسية بدلا من خلق المزيد منها.

مؤسسات يمكنها المساعدة بربط الاهتمامات المحلية بهياكل السلطة الوطنية، من خلال إيجاد وخلق أحزاب سياسية أقوى على سبيل المثال، وفيما يخص الانتخابات إحراز تقدم في العمل الأكثر تعقيدا من خلال تحويل خطابات الحملات الانتخابية إلى مقترحات سياسية قابلة للتطبيق من شأنها التقليل من الإحباط من النظام السياسي غير المستجيب.

‏فمثلا بعد فوز أحد الأحزاب بدلا من السعي إلى إنكار ومعاقبة خصومهم، على المشرعين والمواطنين أن يفكروا في مكاسب سياسية إضافية. ‏وقد تذكر التغييرات في هذا السياق الناخبين والسياسيين على حد سواء بأن الانتخابات ضرورية للديمقراطية ولكنها ليست شريان الحياة الوحيد لها.

‏وفي الوقت نفسه، هؤلاء الذين يسعون لمناقشة التباين العرقي على الأقل في الجانب السياسي، يمكنهم الاستفادة من هوس البلاد بالديمقراطية الانتخابية. قد يجدون أنه من المفيد تاطير المعارك لمشاركة أوسع والوصول إلى صندوق الاقتراع من حيث الالتزام بدور الانتخابات، حتى لو كانت هذه الصراعات تدور حول المساواة العرقية.

‏بعض الإصلاحات الأخرى من المحتمل أن تخفف بعض هذه توترات حتى لو كانت على حساب توترات أخرى. على سبيل المثال إلغاء المجمع الانتخابي، فكرة تلقى رواجا بين الديمقراطيين، بحيث تضمن وصول الفائز بالتصويت الشعبي إلى مقعد الرئاسة، وبالتالي التخفيف من عدم التناغم بين القواعد المحلية والسياسة الوطنية. لكن هذا التغيير سيواجه خطر التورط في الهوس حول الانتخابات. الحملة الرئاسية من الوارد جدا أن تكون أطول ومكلفة أكثر ومنهكة.

ويقترح إصلاحيون آخرون إنهاء نظام العضو الواحد والتحول إلى دوائر متعددة الأعضاء (ويقصد به التمثيل النسبي)، وبالتالي تصبح الأقليات السياسية ممثلة، ويفسح المجال أمام وجود وخلق أحزاب جديدة. ورغم أن المؤيدين لهذا الإصلاح يقولون إنه سيخفف حالة الاستقطاب السياسي، فإنه سيؤدي إلى مزيد من تفتيت دولة منقسمة بالفعل.

‏وبينما يشغل العامة في كيفية التغلب على التوترات الراهنة، قد يضطر الأمريكيون ببساطة إلى مواجهة حقيقة صعبة، أن إصلاح المؤسسات الرئيسية قد لا يكون كافيًا لإصلاح السياسة الأمريكية. بكلمة أخرى، قد لا تكون المشكلة هياكل غير متناسقة، ولكن الصعوبة الأساسية في عدم الوصول إلى أي نوع من الإجماع في بلد منقسم وضخم مثل الولايات المتحدة.

يتطلب بناء الائتلافات الحاكمة إحساسًا بالترابط المدني والمصير المشترك، وهو أمر يفتقر إليه في الوقت الحالي. أي عبث بالقواعد الانتخابية على سبيل المثال، لن يعالج العنصرية بشكل كامل، وسوف يتطلب ذلك حسابات جادة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للمشكلة. الأخبار الجيدة أن الانتخابات النصفية ٢٠١٨، جلبت إيجابيات عديدة وفي نواح مطلوب العمل عليها. شارك الناخبون في اختيار مجموعة متنوعة لتمثيلهم، وبذلك تجد الولايات المتحدة نفسها عند نقطة تحول، إما تبني إمكانية التغيير وتحديث المؤسسات ومعالجة أخطاء الماضي، أو يمكن للبلد مثله مثل السياسيين الاستمرار في عدم الوفاء بوعده.

———–

* أستاذ مشارك ورئيس مساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة ماركيت وباحث متميز في مركز جون دبليو كلوغ بمكتبة الكونجرس وهي مؤلفة كتاب “إيصال رسالة الشعب. السياسة المتغيرة للولاية الرئاسية.”

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]