الإفراط في العمل يتسبب في الموت المفاجئ
في عام 2009، كان كينجي هامادا موظف في شركة أمنية بطوكيو، ومتزوجا، ويؤمن بالمزايا الأخلاقية للعمل الشاق، وكان يعمل 15 ساعة في بعض الأيام عادة بالإضافة إلى أربع ساعات يقضيها في المواصلات من وإلى مكان العمل.
وفي أحد الأيام، خر هامادا ساقطًا على مكتبه، وظن زملاؤه أنه نائم، وبعد بضع ساعات لاحقًا، عندما وجدوه لا يتحرك، أدركوا أنه مات بسبب سكتة قلبية، وكان عمره آنذاك 42 عاما.
وفاة كينجي أثارت موضوع هام في اليابان، فمن أكثر الأمور الشائعة هناك في الوقت الحالي هو الموت الناتج عن الافراط في العمل، إلى حد أنه توجد كلمة في اللغة اليابانية تدل على هذا المعنى. ولكن هل من الممكن أن يفضي الإفراط في العمل إلى الموت حقا؟
للإجابة على هذا التساؤل أصدر موقع BBC Capital تقريرا بهذا الشأن، يفيد بأن اليابانيين بارعون في صياغة كلمات جديدة، حيث تنفرد اللغة اليابانية بمصطلح عن سائر اللغات، وهو مصطلح «كاروشي»، والذي يعني «الموت بسبب الإفراط في العمل».
فعلى مدى السنوات الماضية، تصدرت عناوين الأخبار تقارير عن موظفين في شركات باليابان، كانوا يعيلون أسرهم، ويعرفون باسم «ذوي الياقات البيضاء» أي الذين يؤدون الأعمال المكتبية، قد ماتوا فجأة بسبب الإفراط في العمل.
بداية ظهور ظاهرة الموت بسبب الإفراط في العمل
وقد لوحظ انتشار هذه الظاهرة الاجتماعية للمرة الأولى سنة 1987، عندما بدأت وزارة الصحة تسجل حالات الضحايا بعدما لقي مجموعة من المديرين الأكثر نجاحا حتفهم بشكل مفاجئ، واحد تلو الأخر.
وبسبب انتشار ظاهرة الـ «كاروشي» في اليابان على هذا النحو، تتلقى عائلة الضحية، إذا اعتبر أن الوفاة ناتجة عنه، تعويضا من الحكومة يقدر بنحو 20 ألف دولار سنويا، وتدفع الشركة ما يصل إلى مليون و600 ألف دولار.
وبحسب تقرير أعدته وزارة العمل اليابانية، ارتفع عدد طلبات التعويض، مع حلول عام 2015، ليحقق رقم قياسي قدره ألفين و310 طلبات.
ووفقا لبيانات المجلس الوطني للدفاع عن ضحايا ظاهرة «كاروشي»، ربما يصل العدد الفعلي لضحايا هذه الظاهرة إلى 10 آلاف ضحية، أي نفس عدد ضحايا حوادث الطرق كل عام تقريبا.
وقد سقطت أول ضحية لظاهرة كاروشي سقطت منذ 40 عامًا، حين مات شاب عمره 29 عام إثر إصابته بالسكتة الدماغية بعد أن أنهى نوبات عمل في إدارة الشحن، فرضت عليه على سبيل العقاب، في أكبر جريدة في اليابان.
أسباب ظهور ظاهرة الـ «كاروشي» في اليابان
يقول كاري كوبر، خبير في مجال التوتر والإجهاد بجامعة لانكاستر في حواره لموقع BBC Capital «بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، عمل اليابانيون لساعات أطول بكثير من عدد ساعات العمل في أي دولة في العالم، وكانوا من أكثر الشعوب إدمانًا للعمل».
وفي حقبة ما بعد الحرب، جدد العمل الإصرار لدى اليابانيين، وأصبح الموظفون حريصين على العمل بدوافع نفسية، وليست مالية فحسب، ورحبت الشركات بذلك النظام الجديد، ما حدا بها إلى تمويل اتحادات العمال، والجماعات الثقافية والمساكن التابعة للشركات، ووسائل النقل، والمنشآت الترفيهية، والعيادات الصحية، ومراكز رعاية الأطفال. وسرعان ما أصبح العمل محط اهتمام اليابانيين.
ولكن بعد عقود، في منتصف الثمانينيات، اتخذ هذا الاهتمام منحنى قاتم، فقد تصاعدت أسعار الأسهم والعقارات بشكل سريع ولا يطاق، وأذكت مجموعة من الأمور غير المعتادة في النظام الاقتصادي في البلاد جذوة ذلك الوضع.
ثم دفعت الطفرة الاقتصادية، التي عرفت باسم «الفقاعة الاقتصادية»، الموظفين بالشركات اليابانية لبذل قصارى جهدهم في العمل.
وعندما بلغت الفقاعة الاقتصادية ذروتها، كان نحو سبعة ملايين شخص «قرابة 5% من سكان البلاد في ذلك الوقت، يعملون بلا كلل لمدة 60 ساعة في الأسبوع، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، قد شرعت في تطبيق نظام ساعات دوام للموظفين أكثر تسامحًا يبدأ من الساعة التاسعة صباحًا وينتهي في الخامسة مساء.
وبحسب استطلاع للرأي أُجري عام 1989، رأى 45.6 % من رؤساء الأقسام و66.1 في المئة من رؤساء الإدارات أنهم قد يموتون من كثرة العمل.
وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ازداد عدد الوفيات بين الموظفين من ذوي الياقات البيضاء كل عام بسبب الإفراط في العمل، إلى درجة لفتت انتباه الحكومة. ثم حازت ظاهرة الـ «كاروشي» اهتمام الجمهور، وبدأت وزارة العمل تنشر إحصاءات عنها.
متى يكون الموت ناجما عن ظاهرة «كاروشي»
ولكي يعتبر الموت ناجمًا عن ظاهرة «كاروشي»، يجب أن يكون الضحية قد عمل ما يزيد على 100 ساعة إضافية في الشهر السابق للموت، أو 80 ساعة إضافية على مدار شهرين متتابعين أو أكثر في الشهور الستة السابقة لموته.
وعندما انفجرت الفقاعة الاقتصادية في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ازدادت ثقافة الإفراط في العمل. وشهدت السنوات اللاحقة انتشارًا واسعا لحالات الوفاة الناجمة عن الإفراط في العمل، وارتفعت معدلات الوفيات بين الموظفين في المناصب الإدارية والمهنية ارتفاعا مفاجئا، ولم تهبط منذ ذلك الحين.
وتختلف حالات الوفاة بين الرجال متوسطي العمر الذين يعانون من أمراض صحية، مثل أمراض القلب والسكر، تمام الاختلاف عن حالات الوفاة بين شباب أصحاء، في ريعان شبابهم، كالأطباء وأساتذة الجامعة والمهندسين.
بالنظر إلى آلاف الحالات التي قضت نحبها بسبب الإفراط في العمل، هناك عدة عوامل يشار إليهم بأصابع الاتهام، وهم التوتر وقلة النوم، وقضاء وقت طويل في المكتب.
فبعد تحليل العادات والسجلات الصحية لما يزيد عن 600 ألف شخص العام الماضي، اكتشف الباحثون أن من يعملون 55 ساعة في الأسبوع يصبحون أكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية بواقع الثلث، مقارنة بأولئك الذين يعملون أقل من 40 ساعة في الأسبوع.
اليابانيون يتجنبون ظاهرة «كاروشي»
لم يعد اليابانيون يعملون أطول عدد ساعات في العالم، فمنذ سنة 2015، سجل الموظف الياباني في المتوسط ساعات عمل أقل مما سجله الموظف في الولايات المتحدة.
مع العلم أن المكسيك قد تصدرت قائمة الدول ذات ساعات العمل الأطول في العالم، إذ يعمل الموظف هناك نحو 2246 ساعة في السنة.
وكما هو متوقع، تتزايد عدد حالات الوفيات الناتجة عن الإفراط في العمل خارج اليابان، إذ تفقد الصين نحو 600 ألف شخص سنويا، أي نحو ألف و600 شخص يوميا، بسبب ما يعرف في الصين باسم «غوالوسي» أو الموت الناتج عن الإفراط في العمل.
يقول ريتشارد ووكوتش، أستاذ إدارة أعمال بجامعة فيرجينيا تك، بولاية فيرجينيا، وقد ألّف كتابا عن الأمان المهني في اليابان، «تسير الهند وكوريا الجنوبية وتايوان والصين، أو بالأحرى الجيل الجديد من الاقتصادات الناشئة، على خطى اليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بتطبيق ساعات عمل طويلة».
وأضاف كوبر، «ألم تشهد لندن حالات وفيات ناجمة عن الإفراط في العمل؟ ولكن الفارق أننا ليس لدينا مصطلح يعبر عن هذا المعنى». وفي أغسطس/آب 2013، عُثر على موريتز إيرهاردت، المتدرب في «بنك أوف أمريكا ميريل لينش»، ميتا أثناء الاستحمام بعد أن ظل يعمل بلا انقطاع لمدة 72 ساعة.
وبعد التحري تبين أن المتدرب البالغ من العمر 21 عاما توفى إثر إصابته بنوبة صرع، قد تكون ناتجة عن العمل الشاق. وبعد موته، حدد البنك يوم العمل للمتدرب على ألا يزيد عن 17 ساعة.