الجزائر تخوض معركة لاستعادة «جماجم» المقاومين من متحف فرنسي
عاد الحديث عن جرائم الاحتلال الفرنسي للجزائر، مع تفجر قضية «جماجم الجزائريين المقاومين» التي احتفظت بها فرنسا، بعد أن قامت أثناء فترة الاحتلال بقطع رؤوسهم، في جريمة تذكرنا بمايقوم به إرهابيو داعش الآن.
وكشف مؤرخون وباحثون جزائريون عن آلاف الجماجم المحفوظة في أحد متاحف باريس لمقاومين جزائريين قُطعت رؤوسهم، بأوامر جنرالات فرنسيين.
تلك الجماجم أحيت «جرائم» لم تُدفن ارتكبها الاستعمار الفرنسي، وطالت مناطق بالجزائر هجر بعضها وأُبيد سكانها لتنقطع سلالة المقاومين؛ فلم يعد لهم أحفاد يتوارثون تاريخهم سوى باحثون من منطقة «ليشانة»، التي يقول مؤرخون إنها كانت مهد «ثورة الزعاطشة» الشعبية عام 1849.
وبثت قناة «فرنسا 24»، قبل أيام من الآن، تقريراً كشفت فيه عن 18 ألف جمجمة محفوظة بمتحف «الإنسان» في باريس؛ منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية، قُتلوا ثم قُطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي أواسط القرن الـ19.
الكشف عن الجماجم المختفية
ولم يُكشف بداية سر هذه الجماجم سوى في مارس/آذار 2011، على يد علي فريد بالقاضي، الباحث الجزائري المقيم في فرنسا. وفي العام نفسه، صدرت عريضة تطالب باسترجاعها؛ غير أنها لم تلق رواجاً كبيراً. وفي مايو/أيار الماضي، تمكن إبراهيم سنوسي، الأستاذ الجزائري في جامعة «سيرجي بونتواز» الفرنسية، من جمع قرابة 30 ألف توقيع لاسترجاع بلاده لهذه الجماجم.
سعيد عبادو، رئيس «منظمة المجاهدين» الجزائرية (شبه حكومية تضم المقاومين الذين حاربوا فرنسا)، قال لفي تصريحات له إنه «لم يقرأ في التاريخ أن قوماً قطعوا رؤوس آلاف البشر وخبأوها في متحف طيلة ما يزيد عن قرن ونصف إلا في فرنسا».
عبادو وصف إخفاء فرنسا لهذه الجماجم بأنه «جريمة لا تُغتفر وظلم لا مثيل له»، مطالباً السلطات الفرنسية بإعادتها إلى الجزائر من أجل دفنها في أرضهم طبقاً لاتفاقية إيفيان (بين الجزائر وفرنسا والتي انتهت بالاستفتاء على تقرير المصير واستقلال الجزائر في 5 يوليوز 1962).
وأشار رئيس منظمة المجاهدين إلى أن «السلطات الجزائرية أرسلت وفدا إلى فرنسا في يناير/ كانون الثاني 2016، ترأسه وزير المجاهدين الطيب زيتوني الذي قال إن «هناك أملاً لاسترجاع الجماجم».
وتابع،: «الفرنسيون يحملون فكراً استعمارياً، ولا نأمن جانبهم ونستعد لهم»، مستدركاً بالقول: «نعمل للتعامل مع فرنسا على أساس الند للند والمعاملة بالمثل، خاصة أن 138 ألف جزائري شاركوا في تحرير فرنسا (من الغزو الألماني) خلال الحربين العالميتين الأولى (1914/ 1918) والثانية (1939/ 1945)».
ولفت إلى «اعتراف فرنسا بذلك من خلال دعوتها الجزائر للمشاركة في الاحتفال بانتصار فرنسا على النازية (في 14 يوليوز 2014)؛ لأن الجزائريين شاركوا بدمائهم في الدفاع عن استقلال فرنسا».
وجندت الجزائر، خلال الحربين العالمية الأولى والثانية، عشرات الآلاف من الجزائريين ودفعت بهم في الصفوف الأمامية لجبهات القتال، حيث قتل منهم الآلاف في المعارك ضد الألمان.
إعادة 50 جمجمة
وقالت الخارجية الفرنسية الأسبوع الماضي، إن باريس والجزائر تجريان «حوارا وثيقًا»، وتعملان في إطار «مناخ من الثقة بشأن جميع القضايا ذات الصلة بالذاكرة؛ بينها إعادة نحو 50 جمجمة تحتفظ بها باريس في خزانات معدنية بالمتحف، بعيداً عن الزوار»، وهو ما كان قد صرح به الوزير زيتوني في يوليو/ تموز الماضي بأنه جرى تشكيل لجان مشتركة بين الطرفين بهدف «الإسراع في استرجاع جماجم هؤلاء المقاومين».
وأبدى الوزير استغرابه من «أن بلداً كفرنسا التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان تضع رؤوسا قطعها المستعمر ببشاعة ووحشية وفعل لا يقترفه إلا الإرهاب في متاحف لتقدم للزوار»، واصفاً ما اقترفته فرنسا «بعمل يبرز أقبح صورة عرفها تاريخ البشرية».
من جهته، رأى عمار سعداني، الأمين العام لحزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم في الجزائر، أن إخراج فرنسا قضية جماجم المقاومين الجزائريين إلى العلن يعد بمثابة “إهانة” للجزائريين.
من جانبه، قال الطيب الهواري، رئيس منظمة أبناء الشهداء (يتامى المقاومين الذين قتلتهم فرنسا)، إن «العالم سيكتشف مرة أخرى أن فرنسا التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية في 1945 لتندد بالجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها النازية هي ذاتها التي نفذت نفس الجرائم ضد الجزائريين وما زالت تنفذ مزيداً من الجرائم إلى يومنا عبر عدم الكشف عن الحقيقة».
ووصف «الهواري»، ، إخفاء الجماجم بأنه «جريمة دنيئة وغير أخلاقية»، مشدداً على ضرورة استرجاعها مع الأرشيف الجزائري الذي استولت عليه فرنسا خلال الفترة الاستعمارية.
مذابح ضد قرى المقاومة
وفي هذا الصدد، أشار إلى أن «1600 عائلة جزائرية من قبيلة أولاد رياح، أبادها الفرنسيون بالدخان في القرن التاسع عشر، في جبال الظهرة، بولاية مستغانم (غرب)».
ووقعت ما يُسميه الجزائريون «محرقة أولاد رياح» على يد العقيد الفرنسي “إيمابل بيليسيي”، في 19 و20 يونيو/حزيران 1845، الذي حاصر نساء وأطفالاً ومدنيين في مغارة فروا إليها في جبال الظهرة، فأشعل العساكر الفرنسيون النار في مدخلها حتى لقي جميع من فيهم حتفهم اختناقا بالدخان، وأبيدت حينها قبيلة أولاد رياح بأكملها، حسب مؤرخين.
وتعد مجزرة واحة الزعاطشة (بلدة ليشانة حاليا في ولاية بسكرة) أبرز الجرائم التي اُرتكبت إبان الاستعمار الفرنسي وتعود وقائعها إلى 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1849، عندما هاجم الجنرال «هيربيون» الواحة التي كانت معقل الشيخ «بوزيان» قائد ثورة الزعاطشة، بقوات بلغ إجمالها 8 آلاف عسكري. وبعد يومين من الحصار والقصف بالمدافع، تمكنت القوات الفرنسية من تدمير الواحة بالكامل، وقطع 10 آلاف نخلة، وإحصاء 800 جثة لشهداء جزائريين وعدد آخر غير معروف تحت الأنقاض. ومن بين الشهداء كان الشيخ «بوزيان».
الصحافي الجزائري حفيظ صواليلي قال، في دراسة نشرها بجريدة «الخبر» يوم 5 يوليو/ تموز 2015، إنه بعد معركة الزعاطشة التي خاضها المقاومون من 16 يوليو/تموز إلى 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1849، على بعد 30 كلم جنوب غرب مدينة بسكرة (جنوب شرق)؛ قرّر العسكريون الفرنسيون قطع رؤوس القادة، منهم بوزيان والشريف موسى الدرقاوي، وعرضها في إحدى الثكنات ثم الأسواق ببسكرة لمدة ثلاثة أيام، لتكون عبرة لمن يتجرأ على مقاومة بلاده، حسب المحتل الفرنسي.
وتابع صواليلي: «ولأن هؤلاء المقاومين وغيرهم مثلوا رموزا لرفض المحتل، احتفط الفرنسيون برؤوسهم المقطوعة بطريقة مذلة».
وفي مايو/أيار الماضي، نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية نداء لمثقفين فرنسيين وقعوا عريضة للمطالبة بإعادة جماجم المقاومين الجزائريين إلى الجزائر، مشيرة في الموضوع الذي عنونته بـ«جماجم المقاومين الجزائريين لا مكان لها في متحف باريس» إلى مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون يسمح بإعادة جماجم محاربي «الماوري» في 2010 الذين جرى الاحتفاظ بهم بفرنسا إلى موطنهم كاليدونيا الجديدة.
من جهته، قال ميشال غيرو، مدير المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس، في يونيو/حزيران، «نحن مستعدون لدراسة طلب تسليم جماجم الجزائريين المحفوظة في متحفنا»، مشيرا إلى «عدم وجود أي عائق قانوني لتسليمها»، حسبما أفادت به وكالة الأنباء الجزائرية.
بن يوسف تلمساني، رئيس المجلس العلمي للمركز الجزائري للبحث في التاريخ (حكومي)، الذي طالب باستعادة تلك الجماجم، قال لوكالة «الأناضول» إنه «من الصعب اليوم تحديد خارطة لأحقاد هؤلاء المقاومين الجزائريين الذين توجد جماجمهم في متحف باريس».
محمد بلحي، باحث في التاريخ من منطقة بسكرة التي شهدت ثورة الزعاطشة في القرن التاسع عشر، قال إن «سكان المنطقة أبادتهم فرنسا عن آخرهم. ومن الصعب الحديث الآن عن سلالتهم وأحفادهم».
وأشار ندير بولقرون، مدير صحيفة «صوت الأحرار» إلى وجود عريضة في إطار مسعى استعادة جماجم الجزائريين كلها من باريس، وقد جرى التوقيع عليها من لدن شخصيات تاريخية وأكاديمية بالتعاون مع جمعية مشعل الشهيد (غير حكومية)، وأنهم بصدد تفعيلها. كما أنهم قرروا بمناسبة ذكرى 26 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والمصادفة لذكرى ثورة الزعاطشة تأسيس جمعية تهتم بجمع الوثائق حول تلك الثورة.