تيموثي نفتالي* ـ «فورين أفيرز»:
ترجمة خاصة لـ «الغد» ـ نادر الغول:
بعد الساعة 10:30 صباحًا في 7 أغسطس 1998، انفجرت شاحنتان مفخختان في غضون دقائق خارج السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، مما أدى إلى مقتل 224 شخصًا، منهم 12 أمريكيًا، وإصابة أكثر من 5000 آخرين. في الأيام التي تلت ذلك، أطلع مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية الرئيس بيل كلينتون على أولئك الذين يعتقدون أنهم يقفون وراء التفجيرين. وقال جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المحبّ لكرة السلة: “هذه لعبة Slam dunk يا سيدي الرئيس، لا شك أن هذه عملية للقاعدة”. ( Slam dunk تعني دفع الكرة بقوة من الأعلى إلى الأسفل داخل السلة).
كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تتعقب أسامة بن لادن، منذ عام 1996. لم يكن تنظيم القاعدة العالمي، مرادفًا للمذابح الجماعية، لكن وكالة المخابرات المركزية كانت تعلم أن التنظيم كان يخطط لعمليات ضد المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم. الآن لم يكن لدى مدير وكالة الاستخبارات المركزية فقط الدليل على أن بن لادن كان وراء تفجيرات السفارات في شرق إفريقيا، كانت لديه معلومات استخباراتية تسمح للرئيس باستهداف العقل المدبر للإرهاب. علمت الوكالة أن بن لادن يعتزم حضور اجتماع بالقرب من بلدة خوست جنوب أفغانستان في 20 أغسطس. بعد فترة وجيزة من الاجتماع مع تينيت، أمر كلينتون مستشاره للأمن القومي صمويل بيرغر، بالبدء في الاستعدادات لضربة عسكرية.
لكن بينما كان بيرغر ومساعدوه الآخرون يضعون قائمة الاستهداف للهجوم المخطط، فإن نوعًا مختلفًا جدًا من الاستخبارات غيّر رئاسة كلينتون إلى الأبد. في 16 أغسطس، علم الرئيس أن السائل المنوي الذي عثر عليه في ثوب المتدربة السابقة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي يحتوي على الحمض النووي الذي يطابق حمضه. خلال الأشهر السبعة الماضية، أنكر كلينتون علاقته الغرامية مع لوينسكي، بالإضافة إلى إقرار تحت اليمين يتعلق بدعوى تحرش جنسي منفصلة رفعتها بولا جونز، الموظفة السابقة في ولاية أركنساس. لكنه وافق على المثول طوعًا أمام هيئة المحلفين الكبرى للمستشار القانوني كينيث ستار، وتم تحديد تاريخ شهادته في 17 أغسطس. الآن ومع وجود الفستان كدليل، سيتعين على الرئيس أن يعترف بما يمكن للعلم الحديث أن يثبته.
الآثار المترتبة على الفضيحة التي أحاطت بالبيت الأبيض لم تتسبب في تشتيت فريق كلينتون للأمن القومي الذي كان يقوم بالتحضير لخطة اغتيال بن لادن بصاروخ كروز.
دانييل بنيامين وستيفن سايمون، وكلاهما من موظفي مجلس الأمن القومي، تذكرا مقولة وزير الدفاع ويليام كوهين لأعضاء مجلس الأمن القومي: إن الرئيس سيواجه انتقادات “لمحاولة تغيير الموضوع”. بعد أن ناقش البنتاغون الخطة النهائية للغارة مع كلينتون، حذر مساعد آخر للرئيس من التبعات السياسية للعمل العسكري، فأجاب كلينتون قائلا: “إذا كان لا بد لي من تحمل المزيد من الانتقادات بسبب هذا، سأفعل”.
وبالفعل تم انتقاده. في 17 أغسطس، مثل كلينتون أمام هيئة المحلفين الكبرى ثم ذهب على شاشة التلفزيون الوطني للاعتراف بعلاقة غير لائقة مع لوينسكي. بعد ثلاثة أيام، أطلقت السفن الحربية الأمريكية العشرات من صواريخ توماهوك على معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان وعلى مصنع أسلحة كيميائية مشتبه به في السودان. نجا بن لادن دون أن يصاب بأذى، وتبين أن المصنع السوداني هو مصنع مستحضرات طبية. لكن حتى قبل التأكد من الخطأ في السودان، كان رد فعل بعض المشرعين على الضربات الصاروخية يعتريه الشك. وعلى الرغم من أن القادة الجمهوريين أيدوا قرار الرئيس، إلا أن التذمر في الكابيتول هيل كان واسع الانتشار، لدرجة أن أعضاء حزب الرئيس شعروا بالحاجة إلى الرد. وقال السيناتور كريستوفر ج. دود من كونيتيكت: “أعرف أن البعض يقترح أن هذا القرار اتخذ لأسباب أخرى، بسبب تحقيق مونيكا لوينسكي. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، لديّ شيء واحد أقوله: ” Either put up or shut up” .. (إضافة من المترجم: مثل أمريكي يعني أنه يجب عليهم إما اتخاذ إجراء من أجل القيام بما يتحدثون عنه، أو يصمتوا ويتوقفوا عن الحديث).
لكن الرواية لم تختف. في مؤتمر صحفي عقده البنتاغون في 20 أغسطس، سأل صحفي وزير الدفاع ويليام كوهين عما إذا كان قد شاهد فيلم هوليوود “Wag the Dog” (هز الكلب)، حيث يقوم الرئيس الأمريكي بحرب وهمية في ألبانيا في خضم فضيحة جنسية. على الرغم من عدم ثبوت هذه المقاربة بالكامل، إلا أن مقاربة “Wag the Dog” اشتعلت في الثقافة الشعبية، ضربت على وتر حساس عند الرئيس. وبينما تحولت الفضيحة إلى أزمة المساءلة النيابية الثانية في عهد القوة العظمى، كان كلينتون يشعر بالقلق دائمًا من أن يُنظر إليه على أنه يشوش الخطوط الفاصلة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. سوف تختبر ضغوط المحاكمة النيابية باستمرار هذا الحاجز المقدس وتخرقه أحيانًا كثيرة، كما حدث في عهد نيكسون.
عالم جديد.. تهديدات جديدة
تعامل كلينتون مع المساءلة بطريقة مختلفة اختلافًا جوهريًا عن سلفه نيكسون قبل ربع قرن من الزمان، لكن ضعفه دعا إلى تحديات مماثلة من جانب القوى التصحيحية المصممة على تعطيل النظام الدولي. بخلاف نيكسون، الذي فوض المسؤولية اليومية عن السياسة الخارجية لهنري كيسنجر، بقي كلينتون أهم صانعي القرار خلال ملحمته النيابية. أصغر من نيكسون بعقد من الزمن خلال “فضيحة ووترغيت”، لم يكن كلينتون يعاني من صدمة نفسية بسبب الأزمة السياسية الشخصية. مكنته مرونته من تكريس المزيد من الطاقة والتركيز على السياسة الخارجية. على الرغم من ذلك، أثناء اجتماع عقد في الشرق الأوسط في ديسمبر 1998، عندما كانت جلسات الاستماع في مجلس النواب في ذروتها، شاهد المساعدون الرئيس يخط على مفكرته “ركز على وظيفتك، ركز على وظيفتك، ركز على وظيفتك”. يبدو أن كلينتون اتبع نصيحته لنفسه في معظم الحالات، ولم ينقل أبدًا الإشراف الشامل على الشؤون الخارجية إلى مساعديه.
واجه كلينتون نظامًا دوليًا مختلفًا تمامًا عن نظام نيكسون. لقد أدت نهاية الحرب الباردة إلى إضعاف قدرة القوى العظمى، التي لم تكن أبدًا كبيرة منذ البداية على تخفيف أو ضبط حدة القوى الإقليمية. وفي الوقت نفسه، أطلقت طموحات جديدة ومميتة عبر الوطنية بين الجهات الفاعلة من غير الدول التي كانت تميز العصور الوسطى أكثر من العصر الحديث. بالمقارنة مع نيكسون وكيسنجر، واجه كلينتون وموظفوه للأمن القومي مجموعة هائلة من الأشرار الذين يتوقون إلى استغلال الصعوبات الداخلية للإدارة. كما أقر كلينتون الى أقرب حلفائه، رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، قبل أيام قليلة من الغارة على بن لادن، “سيتعين علينا أن نتعامل بشكل متزايد مع الإرهابيين الذين لا تربطهم صلات بأي دولة قومية… بالنسبة للعديد من دول الشرق الأوسط والدول الإفريقية، يمكن أن نكون نتعامل مع هؤلاء الأشخاص، كما هو الحال في أفلام جيمس بوند القديمة. ولكن سنحصل على نسخة من القرن الحادي والعشرين من تلك الأفلام.”
جعلت طبيعة هؤلاء الأعداء أواخر التسعينيات من القرن الماضي أرضية اختبار مختلفة لرئاسة الولايات المتحدة الضعيفة مقارنة بأوائل السبعينيات. لقد واجه كلينتون أعداء متعددين بمكاسب أقل، و دعم النظام الدولي أكثر من تعطيله. من بين هؤلاء، بالإضافة إلى بن لادن، الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش والزعيم العراقي صدام حسين، وكلاهما شعر بفرصة في الرئاسة الأمريكية الجريحة. سعى كل منهما إلى تحدي الولايات المتحدة في لحظة من الارتباك السياسي الداخلي، وغالبًا ما يضبطون جرأة استفزازاتهم لتتناسب مع تصوراتهم لضعف كلينتون.
مشاكل في كوسوفو
جاءت المشكلة أولاً من ميلوسيفيتش، بعد أقل من شهر من ظهور شائعات مبكرة عن علاقة كلينتون مع لوينسكي في يناير 1998. بدأ الزعيم الصربي، الذي كان آنذاك رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية، ينشر القوات باتجاه مقاطعة كوسوفو المتمردة. خشي ميلوسيفيتش من أن الغالبية الألبانية في المقاطعة ستحذو حذو الكروات والسلوفينيين والبوسنيين في السعي للحصول على الاستقلال عن الدولة اليوغوسلافية المستعرة، وبالتالي فهو كان مستعدًا لسحق أي من هذه التطلعات.
لعبت الولايات المتحدة دورًا رائدًا في إجبار صربيا على قبول خسارة معظم البوسنة في عام 1995. ونتيجة لذلك، رأى ميلوسوفيتش أي ضعف للرئاسة الأمريكية مفيدًا في التمسك بالأراضي التي ظلت تحت سيطرته. في يوليو / تموز، بدأت قوات ميلوسوفيتش في ضرب البلدات الكوسوفية، وطرد المدنيين الناطقين باللغة الألبانية بهدف معلن هو اقتلاع أعضاء جيش تحرير كوسوفو الانفصالي. كان البنتاغون قلقًا من أن التطهير العرقي على نطاق واسع لم يكن بعيدًا، ولذا فقد قدم خططًا لحملة جوية إلى حلف الناتو، الذي قام بالفعل بإجراء مناورة فاشلة من أجل ردع الزعيم الصربي.
في الوقت الذي تدهور فيه الوضع في كوسوفو، تدهور الموقف السياسي المحلي للرئيس الأمريكي. في 9 سبتمبر، أصدر ستار تقريره الشهير للكونجرس، الذي أوصى فيه ببنود المساءلة ضد كلينتون بسبب الكذب تحت القسم ثم السعي للتستر على علاقته مع لوينسكي. على الفور تقريبًا، بدأت الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب بالتحضير للتحقيق في الإقالة والمحاكمة، والتي بدأتها اللجنة القضائية التابعة لمجلس النواب رسميًا في 5 أكتوبر.
بحلول 2 تشرين الأول/اكتوبر، قرر كلينتون إعداد الكونجرس والجمهور لشن غارات جوية على ميلوسوفيتش. لكن الرئيس لا يريد أو يتوقع أن تضطر الولايات المتحدة في النهاية إلى استخدام القوة. أرسل كلينتون كبير مفاوضيه في البلقان السفير ريتشارد هولبروك، إلى بلغراد للتوسط في تسوية دبلوماسية مع ميلوسوفيتش. في 12 أكتوبر، توصل هولبروك إلى ما أعتقد أنه صفقة لحمل الزعيم الصربي على سحب قواته من كوسوفو. لكن البيت الأبيض والفريق الأمريكي في الناتو لم يكونا متأكدين من أن الاتفاقية ستستمر، لذلك استمرت الاستعدادات لغارة جوية. وافق مجلس شمال الأطلسي، الذراع السياسي لحلف شمال الأطلسي، على حملة جوية ستبدأ في 16 أكتوبر، وبدأ الناتو في تجميع الطائرات الضاربة في إيطاليا لإخطار ميلوسوفيتش. واصل كلينتون الاعتقاد بأنه على الرغم من أن رئاسته كانت تحت الضغط في واشنطن، إلا أن التهديد باستخدام القوة كان ذا مصداقية وسيكون كافيًا لإقناع الزعيم الصربي بالتراجع. وقال لبلير في 14 أكتوبر: “أنا مقتنع بأنه يمكننا تجنب العمل العسكري، إذا كان [العمل العسكري] معلقًا فهو دائمًا هناك”.
كان الرئيس محقاً بشأن الديكتاتور الصربي، على الأقل في الوقت الحالي. في اليوم التالي 15 أكتوبر، رضخ ميلوسوفيتش متعهدا بسحب القوات التي كان قد نشرها في كوسوفو خلال الأشهر السبعة الماضية. التقى الجنرال ويسلي كلارك، القائد العسكري لحلف الناتو، مع ميلوسيفيتش في ذلك اليوم لتوضيح تفاصيل الانسحاب، ووافق الناتو على تعليق عشرة أيام من الغارات الجوية المخططة لضمان امتثال ميلوسيفيتش. في الوقت الحالي، بدا أن سياسة كلينتون الهادفة ذات المخاطر العالية قد أثمرت. علاوة على ذلك، لا يبدو أن مشاكل عزله قد قللت من قدرته على إقناع دكتاتور مثل ميلوسيفيتش بالخضوع.
مشاكل في بغداد
لكن الرئيس الأمريكي المحاصر لم يكن مضطرًا إلى مواجهة شخص استبدادي واحد في شهر تشرين أول/أكتوبر. وبينما يمكن للمرء أن يناقش إلى أي مدى شكلت السياسة الأمريكية الداخلية اختيارات ميلوسيفيتش للتكتيكات في كوسوفو، فلا شك في أن الديكتاتور العراقي صدام حسين سعى إلى الاستفادة من فضيحة المساءلة للهروب من نظام الاحتواء للأمم المتحدة الذي فرضه عليه سلف كلينتون، الرئيس جورج بوش الأب.
في نهاية حرب الخليج عام 1991، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 687، الذي طالب العراق بتحديد وتدمير جميع أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية التي يصل مداها إلى أكثر من 150 كيلومترًا. رغم أن العراق قبل القرار رسميًا في أبريل 1991، إلا أن الولايات المتحدة بعد سبع سنوات اعتقدت أن صدام لم يكن صادقًا. “لقد توصلت إلى نتيجة بعد أن ألغيت كل البدائل الممكنة التي تقول إن صدام ما زال يمتلك القدرة على صياغة برنامج كيميائي وبيولوجي لا يريد التخلي عنه”، هذا ما قاله كلينتون لبلير مرة أخرى في فبراير. كما كان مع ميلوسوفيتش، كان كلينتون مستعدًا للتهديد باستعمال القوة، لكن القصف لم يكن هو الوسيلة المفضلة للتعامل مع الديكتاتور. في نفس المحادثة مع بلير، كشف أنه أرسل إشارة إلى صدام من خلال العاهل المغربي الملك الحسن: “لقد أخبرته أن يذهب إلى صدام، أو أن يتصل به، وإخباره بأنه ليس لدي أي مصلحة في قتله أو ملاحقته. أنا لا أغرر به، ولكن لا أريد منه المضي قدمًا في برنامجه الكيميائي والبيولوجي”.
في صيف عام 1998، يبدو أن حظوظ الرئيس الأمريكي السياسية المتدهورة قد شجعت الديكتاتور العراقي. في 5 أغسطس، قام صدام حسين بطرد مفتشي الأمم المتحدة الذين أرسلوا إلى العراق لتصنيف امتثال العراق للجزء المتعلق بأسلحة الدمار الشامل من القرار 687. سعى كلينتون للضغط على صدام من خلال فرض عقوبات إضافية بواسطة الأمم المتحدة، ولكن على عكس ميلوسوفيتش، ثبت صدام على موقفه. في 31 أكتوبر، أعلن العراق أنه كان ينهي كل تعاون مع نظام التفتيش التابع للأمم المتحدة، المعروف باسم UNSCOM، ما لم ترفع الأمم المتحدة العقوبات والتخلص من بعض مسؤولي اللجنة الخاصة الذين لم يعجب بهم العراقيون، فلن يُسمح لمفتشي الأسلحة بالعودة إلى البلاد.
بدا أن كلينتون يدرك أن الرئيس العراقي كان يختبره. في 3 نوفمبر، يوم انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، اتصل على بلير مرة أخرى. وقال “علينا اتخاذ إجراءات حاسمة هذه المرة للرد على تحدي صدام….من الواضح بالنسبة لي أن صدام يريد حقًا إجبار [مجلس الأمن] على رفع العقوبات دون التخلي عن أسلحة الدمار الشامل وبرنامج الصواريخ”.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، تلقى الرئيس الأمريكي دفعة معنوية غير متوقعة بسبب نتائج الانتخابات النصفية، وهو ما من شأنه أن يتسبب في انحسار تهديد المساءلة النيابية مؤقتًا والتي من المرجح أن تعزز قبضته تجاه صدام. تاريخياً، رأى رؤساء فترة الولاية الثانية أحزابهم تفقد مقاعدها في عامهم السادس. لكن في منتصف عام 1998، حصل الديمقراطيون وليس الجمهوريون، على خمس مقاعد إضافية، مما يشير إلى أن الإقالة كانت معركة سياسية خاسرة. أجبر رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، الذي جعل من المساءلة شعار حملته للتجديد النصفي، على الاستقالة من منصبه في 7 نوفمبر، في انتظار اختيار بديل له.
افترض كلينتون ومساعدوه أن المسعى الجمهوري للمساءلة سينتهي نتيجة لذلك، لكنهم استمروا في استعداداتهم لضرب مقر صدام العسكري وكذلك مستودعات أسلحة الدمار الشامل المشتبه فيها. في 11 نوفمبر / تشرين الثاني، أخبر كلينتون صديقه والمؤرخ تايلور برانش، الذي كان يستعرض معه مذكراته الرئاسية، أنه افترض أن أزمة المساءلة قد خفت حدتها. كما أخبر كاتب يومياته أنه وافق على “أوامر بإرسال المزيد من القاذفات وإعادة نشر السفن” للعملية المخطط لها في العراق. كان يأمل أن يتلقى صدام الرسالة ويتراجع كما فعل ميلوسيفيتش. إذا لم يكن الزعيم العراقي واثقاً، فإن كلينتون كان على ثقة من أنه سيحصل على دعم من الجمهوريين وكذلك الديمقراطيين لمواصلة الضربات.
نجحت إشارة كلينتون مرة أخرى، وفي 14 نوفمبر أرسل العراقيون رسالتين إلى الأمم المتحدة، والثانية أقل لبسًا من الأولى، ووعد بالسماح للجنة الخاصة بالعودة مرة أخرى. رفض بيرغر الأولى واعتبرها مثل “جبن سويسري”، مليئة بالثقوب، ونظرًا لوجود قدر كبير من عدم اليقين بشأن ما إذا كانت الثانية مقبولة، استمرت الاستعدادات العسكرية.
في اليوم التالي، ومع وجود قاذفات قنابل أمريكية وبريطانية، قرر كلينتون أخيرًا تعليق الهجمات. لقد فعل ذلك بالرغم من اعتراضات وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت ووزير الدفاع كوهين ورئيس هيئة الأركان المشتركة هيو شيلتون، الذين اعتقدوا جميعًا أنه لا يمكن الوثوق بصدام في الحفاظ على كلمته. لكن الرئيس شعر أنه لا يستطيع شن ضربة من شأنها أن تقتل العراقيين حتما إذا كان صدام قد تراجع رسميا. عند إلغاء الهجوم، أوضح كلينتون أن هذه كانت آخر فرصة لصدام: إذا تدخل في مهمة نزع السلاح التابعة للجنة الخاصة، فسترد الولايات المتحدة بالقوة العسكرية.
جائزة السلام في الشرق الأوسط
جاءت سياسة حافة الهاوية الناجحة لكلينتون مع صدام وميلوسوفيتش في خريف عام 1998 في وقت تعرضت فيه رئاسته للخطر، رغم أنها لم تتعرض لخطر قاتل بعد. لكن لم يكن أي تهديد باستخدام القوة مثل قصة “هز الكلب”. لو أراد الرئيس المتعثر صرف انتباه الجمهور عن نقاط ضعفه الشخصية، لكان قد ضرب هذه الأهداف المستحقة بالفعل. بدلاً من ذلك، جعلهم يتراجعون دون اللجوء إلى العنف.
ولكن لم تكن جميع مجالات السياسة الخارجية للولايات المتحدة معزولة عن الضغوط السياسية الداخلية في الأيام الأولى لأزمة عزل كلينتون. مثل نيكسون من قبله، سعى كلينتون بقوة لإنجاز كبير في السياسة الخارجية لإثبات أنه لا غنى عنه. ومثل نيكسون سعى إلى تحقيق هذا الإنجاز في الشرق الأوسط. لكن كبير مفاوضي كلينتون في الشرق الأوسط، السفير دنيس روس، وجد قيادة عملية سلام في خضم أزمة عزل أصعب بكثير مما فعل كيسنجر.
كان روس الذي شغل منصب المفاوض في الشرق الأوسط يرى أن “قدرة الرئيس كلينتون على البقاء في منصبه كانت موضع شك، وكان لها تأثير سيء على عملية السلام”. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وجه الخصوص يشك في أن الرئيس يمكن أن يظل في منصبه. وكان لدى ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، مخاوفه الخاصة لكنه قبل بتكهن روس المتفائل بأن الرئيس سوف يتصدى لهذا التحدي الدستوري.
ومع ذلك، وضع كلينتون أنظاره على الجائزة النهائية لسلام الشرق الأوسط. في عام 1994، بدأ اتفاق غزة – أريحا بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على مدار خمس سنوات لاستكمال اتفاق نهائي بشأن الدولة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية. بعد مرور عام، وضع اتفاق مؤقت بعض النقاط الإرشادية لإعادة رسم الخريطة في المناطق التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967، وتحويل هذه المناطق إلى ثلاث مناطق مختلفة من السيطرة الإسرائيلية والفلسطينية. لكن الخريطة النهائية والجدول الزمني للانسحاب الإسرائيلي ظلا دون حل في خريف عام 1998. مع بقاء أقل من عام قبل نهاية فترة الخمس سنوات، وبعدها هددت منظمة التحرير الفلسطينية بإعلان الاستقلال، كانت هناك بالفعل ضغوط على الطرفين للتوصل إلى اتفاق. أضافت محاكمة كلينتون الوشيكة لمسة من اليأس السياسي إلى هذا المزيج.
خلال “دبلوماسيته المكوكية” الشهيرة في عام 1974، شغل كيسنجر بالفعل ثلاث وظائف: كبير مفاوضي الشرق الأوسط، وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي. بعد عشرين عامًا، شغل ثلاثة أشخاص تلك المناصب، واختبرت المساءلة النيابية هذا الثالوث. في أوائل سبتمبر، صعد كلينتون الضغط على بيرغر وأولبرايت، اللذين ضغطا بدورهما على روس لإنهاء الاتفاق بين نتنياهو وعرفات.
دفع كلينتون فريقه في الشرق الأوسط بقوة أكبر بعد نشر تقرير المحقق الخاص ستار المؤذ للجمهور في 11 سبتمبر وبدأت الاستعدادات لتوجيه الاتهام في الكونغرس. ذكر روس لاحقًا أنه تعرض للضغط “تحت ضغط تقرير ستار … لإظهار أن الرئيس كان يؤدي وظيفته، ولم يصرف انتباهه، وكان يتعامل بشكل واضح مع قضايا خطيرة للغاية وحساسة.” وأضاف روس “أود أن أقول إن هذه الظروف الفريدة جعلته يعتقد حرفيًا أن رئاسته قد تكون على المحك والطريقة الوحيدة لإنقاذ رئاسته هي إظهار أنه رئاسي. أقصد أنه لم يكن من الضروري أن تكون هذه المشكلة، فقد كان من الممكن أن يكون شيئًا آخر، لكن هذه كانت هي المشكلة التي ربما كانت أكثر بروزًا وقد لفتت الانتباه”.
عندما أبلغ روس بأن عرفات ونتنياهو لا يزالان بعيدين عن التوصل إلى اتفاق، ضرب كلينتون الطاولة على ما يبدو، مطالبًا بأن تحصل أولبرايت وبيرغر على النتائج التي يحتاجها. أراد كلينتون أن يأتي عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة لإبرام اتفاق حتى يتمكن من تحقيق نصر دبلوماسي علني. بالنسبة لنيكسون، كان المعيار تكرار رحلته إلى الصين. بالنسبة لكلينتون، كان المعيار هو اتفاقيات كامب ديفيد التاريخية التي وضعها الرئيس جيمي كارتر عام 1978، وهي اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل مكنت من انسحاب إسرائيل من سيناء.
لكن روس لم يكن كيسنجر. لم يكن لديه الأدوات للعب بها، ولم تسيطر أولبرايت ولا بيرغر على سياسة السياسة الخارجية. تدفقت كل قوة السياسة الخارجية للولايات المتحدة مباشرة من كلينتون، وتضاءلت مكانته في الخارج نتيجة لهذه الفضيحة. لم يكن روس يرسم الموقف بالنسبة لرؤسائه “الرئيس ليس لديه السلطة أو النفوذ معهم [عرفات ونتنياهو] الذي كان لديه من قبل، ولن يقدموا تنازلات لمجرد أنه يحتاجهم إلى عقد صفقة”.
والمشكلة الأخرى هي جدول الرئيس، لأن الرئيس أراد أن يشارك شخصيا في إنجاز الاتفاق. بقي معدل تأييد كلينتون مرتفعًا طوال الخريف، على الرغم من الكشف عن علاقته وفتح تحقيق في المساءلة النيابية. نتيجة لذلك، كان مرشحو الكونغرس الديمقراطيون حريصين على أن يشاركهم حملاتهم في مقاطعاتهم، وهي مهمة اعتبرها الرئيس إلهاءً مرحبًا به. على عكس نيكسون، أحب كلينتون الحملات الانتخابية. إلا أن الانتخابات النصفية حددت موعدًا وهميًا لمفاوضات الشرق الأوسط، حيث أن فريق كلينتون السياسي كان يأمل في أن يكون الرئيس متاحًا بحلول 24 أكتوبر أو في الأسبوع الأخير من الحملة.
أعطى هذا الموعد النهائي، وحاجة الرئيس الأمريكي للفوز، نتنياهو ميزة إضافية. وافق الزعيم الإسرائيلي على القدوم إلى “واي بلانتيشن” في ماريلاند في 15 أكتوبر لإجراء مفاوضات مع عرفات، لكنه لم يكن مستعدًا لتقديم تنازلات إضافية. على الرغم من أن عملية السلام كانت تحظى بشعبية كبيرة لدى معظم الإسرائيليين، إلا أنها لم تكن شعبية مع قاعدة المؤيدين الذين دعموا حكومة الليكود الهشة. نتيجة لذلك، تكمن الميزة بالنسبة لنتنياهو في الظهور أنه يسعى من أجل السلام دون فعل أي شيء لتحقيق ذلك.
في النهاية، عرض نتنياهو على كلينتون شيء مقابل شيء. اعتقد المفاوضون الأمريكيون أنهم كانوا على وشك التوسط في اتفاق بين نتنياهو وعرفات، لكن في اللحظة الأخيرة أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي على أنه لا يستطيع إعطاء موافقته النهائية دون اتفاق جانبي مع كلينتون. على الولايات المتحدة أن تتعهد بإطلاق سراح جوناثان بولارد، مواطن أمريكي أدين بالتجسس لصالح إسرائيل. في مذكراته، اعترف كلينتون بأنه أخبر نتنياهو بأنه “يميل” لإطلاق سراح بولارد إذا كان هذا هو ما سيدفع نتنياهو لقبول الصفقة مع عرفات.
طرح كلينتون هذه الفكرة من تلقاء نفسه، وعندما أخبر فريق التفاوض الخاص به أنه فعل ذلك، اعترض العديد من الأعضاء. اعتقدت أولبرايت أن نتنياهو كان يمارس الابتزاز. هدد تينيت، الذي كانت وكالة المخابرات المركزية التابعة له ضرورية للوساطة في الترتيبات الأمنية المعقدة التي ستكون ضرورية لحكم الضفة الغربية في المستقبل، بالاستقالة في الحال إذا حدثت صفقة بولارد. لقد اعتبر مجتمع المخابرات الأمريكي التجسس الذي قام به بولارد ليس مجرد خيانة شخصية بل خيانة لعلاقة إسرائيل الاستخبارية الخاصة مع الولايات المتحدة. مع بقاء ساعات قبل الموعد النهائي الذي حددته إدارة كلينتون في 23 أكتوبر، سرب الإسرائيليون أن الصفقة لن تحدث لأن كلينتون تراجع عن وعده لنتنياهو.
لا يمكن لكل من كلينتون ولا نتنياهو أن يدع المفاوضات تفشل. احتاج الإثنان الفوز لأسباب محلية. لذا بدلاً من إعطاء الأرض، قررا أخذ شيء من عرفات. وكان الاتفاق على الطاولة قد وعد بالإفراج عن حوالي 750 فلسطينيا من السجون الإسرائيلية، بعضهم متهم بجرح أو قتل اسرائيليين. أخبر كلينتون نتنياهو سرًا بأن إسرائيل يمكن أن تفرج عن مجرمين عاديين وعدد أقل من الناس الذين اعتبرهم عرفات سجناء سياسيين. لقد كشف كلينتون لفريقه بشكل غامض أنه وافق على السماح لنتنياهو بتغيير “مزيج” السجناء الذين سيتم إطلاق سراحهم، حتى يتمكنوا من الحصول على موافقة عرفات. لكن الرئيس الأمريكي أخفى التفصيل الرئيس والذي طمأن نتنياهو بأنه يمكن أن يرفض إطلاق سراح أي شخص “يديه ملطخة بالدماء”.. على حد قوله.
في 23 أكتوبر، انضم عرفات ونتنياهو إلى كلينتون في واشنطن العاصمة للتوقيع على مذكرة واي ريفر. وكان الاتفاق منح السلطة الفلسطينية السيطرة على 40 في المائة من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو تحسن كبير عن نسبة الـ 27 في المائة المتفق عليها في عام 1995. من جانبهم سيحصل الإسرائيليون على ضمانات أمنية، تحت مراقبة الولايات المتحدة، جيش التحرير الفلسطيني، الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية. تفاهم كلينتون ونتنياهو حول السجناء الفلسطينيين، بمجرد أن أصبح معروفًا، أغضب الفلسطينيين لكنه لم يفسد الصفقة، أو الفوز الدبلوماسي الذي ربحه كلينتون.
ثعلب الصحراء
المشاكل السياسية الداخلية للرئيس لم تختف مع الانتخابات النصفية. حتى من دون رئيس مجلس النواب “غينغريتش”، واصل الجمهوريون تقديم لوائح الاتهام، بشكل فاجأ كلينتون. في 11 ديسمبر، أرسلت اللجنة القضائية في مجلس النواب ثلاث مواد وتهم فيما يخص المساءلة إلى قاعة المجلس. في اليوم التالي، أضافت اللجنة اتهاما رابعًا، مهيئة الأرضية للمناقشة ثم صوت المجلس بكامله. للمرة الأولى منذ أكتوبر، بدا أن رئاسة كلينتون في خطر، ومرة أخرى لاحظ أعداء الولايات المتحدة ذلك.
في أوائل كانون الأول/ ديسمبر، استأنف صدام عرقلة جهود تفتيش اللجنة الخاصة ورفض دخول ممثليها إلى منشأة يسيطر عليها حزب البعث الحاكم. كانت هذه الخطوة انتهاكًا لإنذار كلينتون في نوفمبر والتزام الزعيم العراقي بالأمم المتحدة. في 11 ديسمبر/ كانون الأول، وهو نفس اليوم الذي أرسلت فيه اللجنة القضائية مواد المساءلة النيابية إلى قاعة المجلس للتصويت، اتصل كلينتون ببلير وأخبره أنه سيكون هناك رد عسكري. بدأت عملية ثعلب الصحراء بعد خمسة أيام وشملت 650 طلعة جوية أو صاروخية من قبل القوات الجوية الأمريكية والبريطانية. استمرت أربعة أيام واستهدفت مواقع القيادة والسيطرة العراقية وكذلك المنشآت المرتبطة بأنظمة تسليم أسلحة الدمار الشامل. بالإضافة إلى ذلك، غيرت إدارة كلينتون سياستها تجاه العراق الرسمية من “الاحتواء” إلى “الاحتواء الأكبر” وجعلت “تغيير النظام” هدفها الواضح.
كما هو متوقع، أعادت العملية إثارة مزاعم حزبية سابقة بأن الرئيس كان يحاول صرف انتباه الشعب الأمريكي عن مشاكله السياسية الداخلية. ألغى كلينتون الهجوم المخطط له ضد بغداد في نوفمبر، عندما كان خطر الإقالة يتلاشى. بقيامه بذلك، فقد خيب آمال الكثيرين في فريق الأمن القومي التابع له. الآن كان الرئيس يمضي قدماً في الضربات في وقت كانت فيه البلاد متحفزة مرة أخرى بدراما الإقالة. ونتيجة لذلك تعرض مرة أخرى للاتهام والمقارنة، وإن كانت غير عادلة، بإعادة إنتاج ما سمي بـ “هز الكلب” نسبة للفيلم الأميركي “Wag the Dog”.
لكن البنتاجون، وليس الرئيس، هو الذي أوصى بالغارات الجوية وتوقيتها. يتذكر شيلتون، رئيس هيئة الأركان المشتركة، قائلاً: “لم أكن طرفًا في أي شيء، لا كوهين ولا أنا، لم يكن (الهجوم) مبنيًا على المنطق العسكري السليم والشيء الذي يجب القيام به عسكريًا”. “لقد تم تحديد توقيت هذا الهجوم المحدد بواسطة كوهين وأنا، استنادًا إلى توصيتي حول ظروف الإضاءة، وظروف الهجوم، والظروف الجوية التي كانت متوقعة، وشهر رمضان الذي تزامن في تلك المنطقة”.
لا تطلق النار
في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1998، وافق مجلس النواب على اثنتين من مواد المساءلة الأربعة، مما يستلزم إجراء أول محاكمة في مجلس الشيوخ لرئيس منذ عام 1868. (استقال نيكسون قبل أن يقر مجلس النواب أي مادة من إجراءات المساءلة.) بموجب الدستور الأمريكي، فإن إقالة رئيس من منصبه ليس بالشيء القليل، وهو يتطلب تصويت ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. لكن مجلس الشيوخ كان يتمتع بأغلبية جمهورية، وعلى الرغم من الدعم الشعبي المستمر من كلينتون، حتى أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ من حزبه أرادوا إيجاد طريقة لمعاقبته على خيانة الأمانة وطيش مكتبه البيضاوي.
تزامنت المحاكمة، التي بدأت في 7 يناير 1999، مع قرار عسكري حساس آخر يخص خصمًا أمريكيًا انتهازيًا. منذ المحاولة الفاشلة لقتل بن لادن في أغسطس 1998، ظل فريق كلينتون للأمن القومي يبحث عن فرصة أخرى لتعطيل قيادة القاعدة بشكل دائم. في أعقاب الحملة الجوية الأمريكية والبريطانية في العراق، أصدر العقل المدبر للإرهاب تهديدًا دفع الولايات المتحدة إلى إغلاق 38 سفارة وثلاث قنصليات في أفريقيا لمدة يومين كاملين. لم يمض وقت طويل بعد ذلك، تلقى فريق كلينتون للأمن القومي معلومات استخباراتية أعادت بن لادن إلى الأفق. لقد اتضح أن فرصة الحصول عليه، مع وصول أزمة عزل كلينتون إلى ذروتها.
في منتصف شهر ديسمبر، تلقى مسؤولو المخابرات الأمريكية معلومات تفيد بأن الزعيم الإرهابي كان يقضي الكثير من الوقت في قندهار. في بداية شهر فبراير، أصبحت المعلومات الاستخبارية أكثر دقة. كان بن لادن في معسكر للصيد في الصحراء أو بالقرب منه في منطقة تعرف باسم شيخ علي، وطبقًا لمعلومات تم الكشف عنها لاحقًا في تقرير لجنة 11/9، اعتقد مخبرو وكالة المخابرات المركزية أنه سيظل هناك حتى منتصف النهار في 11 فبراير. في 8 فبراير أو حوالي ذلك التاريخ، أمر البيت الأبيض وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بالبدء في التحضير لضربة صاروخية أخرى.
التوقيت لم يكن سيئًا بالنسبة لكلينتون. كان 8 فبراير هو اليوم الذي قام فيه مدراء مجلس النواب باستعراض أدلتهم ومرافعاتهم، وقدم محامو الرئيس مرافعاتهم الختامية في محاكمته في مجلس الشيوخ. تزامنت الفرصة لضرب بن لادن، بين ذلك الحين و 11 فبراير، مع مداولات مغلقة من أعضاء مجلس الشيوخ الذين كانوا يقررون ما إذا كانوا سيدانون أم يبرئون كلينتون.
نصح البعض في الإدارة بعدم تنفيذ الضربة. شخصيات من (دولة خليجية) كانت أيضًا في معسكر الشيخ علي. كلينتون شعر بالقلق إزاء ما يمكن أن يحدث إذا قتل هذه الشخصيات ونجا بن لادن أو تبين أنه لم يكن هناك. لكن يبدو أن المد في الإدارة يتجه نحو المخاطرة، وكذلك خطر حدوث ضجة سياسية مرتبطة بالمحاكمة. في وقت لاحق، وجدت لجنة الحادي عشر من سبتمبر سببًا للاعتقاد بأن رئيس مجلس النواب دنيس هاسترت، الذي حل محل غينغريتش في يناير، قد تم إخطاره بهجوم وشيك. كان الجيش الأمريكي مستعدًا للضرب صباح يوم 11 فبراير.
لكن الهجوم لم يحدث، وهناك سبب للاعتقاد بأن محاكمة مجلس الشيوخ أثرت في قرار كلينتون بالامتناع عن توجيه الضربة. وقد سعى كبار المسؤولين في إدارته إلى تبديد هذه الفكرة. كتب تينيت لاحقًا “قبل اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان يجب توجيه ضربة، تلقينا معلومة تفيد أن [بن لادن] قد ذهب”. ولكن هذه المعلومات جاءت في 12 فبراير، أي بعد يوم من استعداد الجيش الأمريكي لتوجيه الضربة. وعلى الرغم من عدم قيام أي من موظفي مجلس الأمن القومي، في المناقشات مع لجنة 11 سبتمبر، بإلقاء اللوم على محاكمة مجلس الشيوخ لقرار الرئيس، فإنهم منقسمون حول ما إذا كانت المعلومات الاستخباراتية جيدة بما يكفي لمواجهة خطر قتل الشخصيات الخليجية. لاحظ تينيت في مذكراته أنه “لم ير أبدًا أي دليل على أن مشاكل كلينتون الشخصية صرفته عن التركيز على مهامه الرسمية.” ومع ذلك، فقد أقر “بأن المحاكمة ربما حددت نطاق الإجراءات التي يمكن أن يتخذها”. في 12 فبراير، وهو اليوم الذي توقف فيه الجيش عن الضربة المخطط له في أفغانستان، برأ مجلس الشيوخ كلينتون من تهمه.
عالم “هوبزي”
مقارنة بأزمة عزل نيكسون في عامي 1973-1974، تزامنت أزمة عزل كلينتون مع فترة مضطربة أكثر في العلاقات الخارجية للولايات المتحدة. تفسر علاقة نيكسون وكيسنجر غير المعتادة والاحترام غير المعتاد اللذين حظي بهما في الخارج جزءًا من الفرق، ولكن هناك سببًا أكثر أهمية وهو أن كلينتون واجه العديد من الاختبارات في لحظة حساسة للغاية. كان لدى عدد قليل من القوى مصلحة في دعم رئيس تنفيذي ضعيف في الفترة 1998-1999 مقارنة بفترة ما بين عامي 1973 و 1974، وكان لدى الكثير منهم مصلحة في تحديه عندما بدا ضعيفًا. في حين أن الولايات المتحدة كانت بلا منازع القوة العظمى الوحيدة في العالم خلال فترة رئاسة كلينتون، فإن قوتها النسبية بدأت في الانحسار. والأهم من ذلك، أن عددا أكبر من البلدان والجهات الفاعلة الخطيرة غير الحكومية كانت حريصة على إعادة تشكيل النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب الباردة.
ما كان صحيحا في نهاية التسعينات أصبح أكثر صحة اليوم. في عام 2016، انتخب الأمريكيون زعيمًا رفض فكرة النظام الدولي الذي يعتمد على الولايات المتحدة للحفاظ على التوازن. يتفهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشؤون الدولية من خلال التهديدات والتهديدات المضادة والخداع والاستغلال، وهذه هي الوسيلة التي يتوقع من الدول الأخرى أن تتصرف بها. تعتمد نجاح مقاربة ترامب على الوهم أن الولايات المتحدة لا تقهر، وبالتالي كمحصلة على شخصه. إن إضعاف سلطته، في هذا العالم الأكثر “هوبزيةً” (نسبة للفيلسوف الانجليزي توماس هوبز، اعتقد هوبز أن الشكل الحقيقي والصحيح الوحيد للحكومة هو الملكية المطلقة. إضافة من المترجم).. سيدعو إلى مواجهة تحديات أكبر لمصالح الولايات المتحدة.
لدى المؤرخين الكثير ليعرفوه عن العلاقة المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة من عام 2019، ولكن على الأقل، قلل قائد قوة القدس قاسم سليماني والقيادة الإيرانية ما الذي يمكن أن يفعله ترامب إذا تم اختباره خلال أزمة عزله. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون هناك شك في أن خصمًا آخر لأمريكا، هو كيم جونغ أون، من كوريا الشمالية، قد استغل أزمة الإقالة الحالية لاستئناف برنامجه النووي. في 31 ديسمبر 2019، أعلن كيم عن “طريق جديد”، يعد بالمزيد من التجارب النووية والتراجع عن الجهود الدبلوماسية لنزع السلاح النووي. في يناير، ظهرت تقارير حول الاستعدادات لمزيد من اختبارات الصواريخ.
علاوة على ذلك، فإن النظرة “الترامبية” العالمية تضمن تشويه العلاقات الخارجية الأمريكية لخدمة البقاء السياسي الشخصي في نهاية الأمر. تظهر قضيتا نيكسون وكلينتون أنه في حين أن هؤلاء الرئيسين انتهكا أحيانًا الحاجز بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، فقد أدركا أنه لا ينبغي عليهما ذلك. ترامب لا يوجد لديه مثل هذا الضابط، و الذي يوضحه الأسس التي استند إليها في محاكمته النيابية. كان استخدام الإجراءات والقرارات التنفيذية لتشتيت الانتباه، وهو الشيء الذي كان نيكسون وكلينتون حذرين منه على الأقل عندما يتعلق الأمر بالشؤون الخارجية، أداة محببة لهذا الرئيس قبل أن تكون المحاكمة النيابية في الأفق. علاوة على ذلك، روج ترامب نفسه بصفته صانع صفقات، فمن المرجح أنه أكثر من سابقيه رغبة في إبرام اتفاقيات مع دول أجنبية. لم يتم الإعلان عن تفاصيل اتفاقية التجارة الأمريكية الصينية الموقعة مؤخرًا. لكن من غير المرجح هذه المرة أن بكين تصرفت كما فعلت في الفترة 1973-1974، مما ساعد الرئيس الجريح في الحفاظ على نظام دولي مستقر. بدلاً من ذلك، مثل نتنياهو في عام 1998، استغل على الأرجح حاجة الرئيس الأمريكي إلى صفقة يمكن أن يصدره ويسوقها كفوز. حتى بعد عزله بسبب إخضاع المصلحة الوطنية لمصلحته، يبدو أن ترامب يرى السياسة الخارجية فقط كوسيلة لتحقيق غايات شخصية. “تجاوزا الموضوع”، كما نصح كبير موظفي البيت الأبيض بالإنابة ميك مولفاني الجميع.
*أستاذ مشارك في الخدمة العامة بجامعة نيويورك ومؤرخ قناة “سي إن إن” الرئاسي. وهو مؤلف مشارك لكتاب المساءلة النيابية: تاريخ أمريكي
رابط المقال الأصلي هنا