كشفت الدوائر السياسية ـ الرسمية وشبه الرسمية ـ عن رفض مصر لتجميد أزمة سد النهضة، أو استهلاك الوقت في مفاوضات غير مجدية، بينما تظل المشكلة تهدد شريان الحياة بالنسبة لمصر.
ويرى السفير دكتور محمد نعمان جلال، مساعد وزير الخارجية المصري للتخطيط السياسي السابق، أنه من سخريات الأقدار أن تظهر أزمة دبلوماسية بين أثيوبيا ومصر حول نهر النيل وسد النهضة. وقال للغد: في تقديري كباحث هناك وسائل متعددة قانونية وسياسية وإنسانية للتعامل مع هذا الموقف الإثيوبي الغريب والذي ليس له سابقة في تاريخ علاقات الدولتين ولأ في تاريخ العلاقات الدولية.
وأضاف السفير نعمان جلال ـ الخبير في الشئون الدولية والاستراتيجية ـ هناك توضيح هام يجب أن نلفت الانتباه إليه ونحن نتحدث عن هذه الأزمة:
- أولا: أليست إثيوبيا دولة عضو في منظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأفريقي ومحكمة العدل الأفريقية، وأليست مصر هي العضو المؤسس في المنظمة والتي يهددها سد النهضة بمجاعة مائية؟ وهل في ميثاق المنظمة ما يسمح لدولة أن تهدد دولة أخري بطريقة تتجاوز كل الاعتبارات القانونية والإنسانية والأخلاقية؟ وهل ينسى قادة الدول الأفريقية ما قامت به مصر وشعبها وقياداتها لتحرير الدول الأفريقية واستضافة المجاهدين الأفارقة ضد الاستعمار؟
ومن هنا فإن أمام مصر الدعوة لعقد إجتماع قمة أفريقية لمحاسبة أثيوبيا على مثل هذا التهديد.
- ثانيا: إزاء خروج إثيوبيا علي نصوص ميثاق الأمم المتحدة بحل النزاعات بالطرق السلمية كما جاء في المادة الثالثة والثلاثين من الميثاق، وأيضا على ميثاق الإتحاد الأفريقي.. فإن على مصر أن تطلب عقد إجتماع قمة عاجل لمجلس الأمن المنوط به حفظ السلم والأمن الدوليين، وأيضا تطلب عقد اجتماع عاجل للجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة أثيوبيا وقادتها لخروجها علي مبادئ المنظمة الدولية التي تنص بأن تكون الدولة العضو مستقلة ومسالمة وتعمل من أجل السلام وتحترم قواعد الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ومن هنا أيضا يمكن أن تتم الدعوة في إطار قرار الأمم المتحدة «من أجل السلام».
- وثالثا: أليست مصر عضوا في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ويمكنها اللجوء إليها، وإذا رفضت أثيوبيا ذلك فيمكن محاسبتها أيضا لخروجها علي القانون الدولي وخاصة قانون البحار وقانون الأنهار وخروجها علي حقوق الدول الأخري والإتفاقات الدولية .
أثيوبيا وقعت في فخ خطير نصبته لها بعض الطوائف المتطرفة
- الغد: ما هو البعد التاريخي لمقولتكم «إنه من سخريات الأقدار أن تظهر أزمة دبلوماسية بين أثيوبيا ومصر حول نهر النيل وسد النهضة»؟
** السفير جلال: ما أقصده أن علي أثيوبيا وشعبها وقادتها أن يتذكروا أنه في ثلاثينات القرن الماضي وقفت مصر مساندة لإثيوبيا وشعبها ضد العدوان الإيطالي عليها.. وحتى لا يكون موقف إثيوبيا وقادتها ضد مصر هو مثل جزاء سنمار، فإنني أتساءل: هل تستحق مصر التي أيدت إثيوبيا ضد العدوان الإيطالي عليها، مثل هذه المواقف من تلك الدولة الشقيقة؟ وتاريخيا أيضا، فإن شعب أثيوبيا وحكامها السابقين في عهد النجاشي كانوا قمة في الأخلاق الإنسانية والرغبة في السلام حيث استضاف النجاشي أول هجرة في الإسلام ، كما إن الكنيسة الأثيوبية المسيحية كانت ذات ارتباط وثيق مع الكنيسة الأرثوذكسية برئاسة بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية.
وتابع السفير جلال، في حواره للغد: ومن منظور تاريخي كذلك، أتصور أن أثيوبيا شعبا وحكومة وقيادة وقعت في فخ خطير نصبته لها بعض الطوائف المتطرفة من المسلمين الإثيوبيين ومن المسيحيين الذين نسوا أقوال السيد المسيح عليه السلام ومنها قوله «علي الأرض السلام وللناس المحبة»، ونسوا الدور المصري في احتضان السيد المسيح وأمه القديسة مريم العذراء..وفي احتضان ال يعقوب واليهود لمئات السنين..وفي احتضان حركات التحرير الأفريقية.
أمام مصر ساحات دولية وإقليمية للتحرك دفاعا عن حقوقها التاريخية المائية
- هناك جانب آخر يتخفى وراء التصريحات الرسمية لكبارالمسؤولين في إثيوبيا.. حيث يتصورون أن إثيوبيا هي «مولد نهر النيل» وصاحبة الحق في أكبر مورد مياه للنهر.. وربما يماطلون في المفاوضات باعتبارهم أصحاب الكلمة العليا في قضايا نهر النيل ؟!
** أولا.. نهر النيل ليس من اختراع إثيوبيا أو شعبها أو أية دولة عربية أو أفريقية، وليس من إختراع مصر أيضا، بل هو من الله سبحانه وتعالى بإرسال الأمطار والسحب والمياه التي جعلت مجري النيل يصل لمصر وشعبها ولم تقم مصر بحفر مجرى النيل بل جاء النهر بإرادة الله.
وثانيا : فإن أمام مصر ساحات دولية وإقليمية واسعة للتحرك دفاعا عن حقوقها التاريخية المائية، وفي ضوء انتهاك إثيوبيا نصوص الميثاق الأفريقي، والخروج على قوانين حقوق الإنسان وأولها الحق في الحياة الكريمة، والحق في المياه، وهي حقوق أقرتها البشرية جمعاء عبر السنين ومواثيق حقوق الإنسان المعتمدة من الأمم المتحدة.
أنهار من نار
- هل هناك دور لتدخلات مشبوهة من أطراف داخلية وخارجية تقف وراء موقف إثيوبيا من أزمة سد النهضة؟
** ردا على هذا السؤال.. أشير ـ كمجرد مثال ـ إلى دور أستاذ يهودي إسرائيلي هو «أرنون سوفير» للقيام بزرع روح الحقد ضد مصر في إثيوبيا وبعض الدول الأخرى في حوض نهر النيل..وأقول إن بعض مثقفي مصر لا يعرفون حجم الحقد الذي نشره هذا الباحث الإسرائيلي الذي يحمل لقب بروفيسور وخبير في شؤون المياه وخاصة نهر النيل والتي نشرها في كتابه المعنون «أنهار من نار» نشر باللغة’ العبرية كتقرير عام قدمه لوزارة الخارجية الإسرائيلية مع زميل له «نوريت كيليوت» ثم تحول كتابا بالعبرية نشر عام 1992 ثم ترجم للإنجليزية ونشر عام 1999 في بريطانيا وفي الولايات المتحدة ، وأخذ يروج له في العديد من المؤتمرات الدولية منها مؤتمر عن أمن الشرق الأوسط عقد في نيودلهي عام 2006 حيث طلب البروفسور سوفير من رئيس الجلسة الهندي في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر السماح له بالتحدث، وكان واضعا أمامه الكتاب علي الطاولة.
ولحسن الحظ أنني كنت مشاركا وحاضرا في المؤتمر وقمت بالرد علي مداخلته بقوة وحزم في نفس الجلسة الافتتاحية، ومن الغريب أن يدعى البروفيسور سوفير أنه ليس مستشارا للدول الافريقية في حوض نهر النيل فحسب بل إنه مستشارا لرئيس الوزراء المصري آنذاك. وهكذا تشويه صورة مصر وسياستها بل وقادتها آنذاك.
وقد لعب هذا الخبير الإسرائيلي دورا خطيرا في نشر الكراهية والعداء بين بعض دول حوض نهر النيل وبين مصر. وكذلك بين دول الشرق الأوسط بما في ذلك الفلسطينيين وإسرائيل والأردن والعراق وتركيا وسوريا ولبنان بخصوص الأنهار التي أسماها أنهار من نار “Rivers of Fire” Arnon Soffer
كيف نصف العلاقة مع إسرائيل بأنها علاقة سلام؟
ويضيف السفير نعمان جلال للغد: لعب «أرنون سوفير»، دورا خطيرا في نشر الكراهية والعداء والتحريض ضد مصر في إثيوبيا وفي بعض الدول الأفريقية الأخرى.. وأتساءل أين كانت مصر ومثقفوها وخبراؤها عندما نشر هذا العالم الإسرائيلي كتابه المشار إليه لتحريض وتأليب الدول الأفريقية لإعلان الحرب ضد مصر. بينما نسي بعض علماء إسرائيل ومفكريها وساستها أن مصر السادات هي أول دولة أقامت السلام مع إسرائيل عام 1979 واعترفت بها منذ عام 1977 رغم اعتداءاتها العديدة ضد مصر منذ نشأتها وحروبها المتتالية وقتلها الفلسطينيين وتدمير قراهم ومساكنهم وزراعاتهم فكيف يمكن أن نصف العلاقات المصرية الإسرائيلية بأنها علاقة سلام أو العلاقات الإسرائيلية العربية بأنها في طريقها للسلام ؟!
- منذ مبادرة القمة العربية في بيروت عام 2002 وإسرائيل لم تقبلها ولم توافق عليها بل فعلت كل ما يشوهها ويحول دون تنفيذها. وهذا الباحث الخبير الإسرائيلي أعد تقريره الأول مع زميله الآخر البروفيسور نورت كليوت Nuirt Kliot لحساب وزارة الخارجية الإسرائيلية وقدمه تقريرا لها ثم طوره إلى كتاب صدر بالعبرية ثم بالإنجليزية.
أجد من الضروري أن نعيد للذاكرة، بأن إثيوبيا عبر العصور وكذلك السودان والدول الأفريقية الأخرى وسياسييها يتدفق العديد من مواطنيها على مصر سعيا للأمن والأمان والعمل.. وفي مصر عدة ملايين من الإخوة والأخوات الأفارقة يعيشون ويعملون مثل المصريين وليسوا لاجئين في مخيمات، فهل يدرك الأخوة الأشقاء في أثيوبيا والدول الأفريقية مكانة مصر وتاريخها وحضارتها؟