المتوكل طه يكتب: في الذكرى 18 لانتفاضة الأقصى.. ما ميّزها؟ .. وكيف دخلوا ودخلنا ؟
في الثلاثين من أيلول العام 2000، نكون قد دخلنا انتفاضة جديدة، بعد عشرات الانتفاضات، كان أبرزها انتفاضة 1987-1992، وانتفاضة الأقصى الأولى 1996، وهذه الانتفاضة التي ميّزها عما قبلها من انتفاضات عدة ميزات: أولها وجود سلطة وطنية، وثانيها توّفر السلاح الناري في أيدي المنتفضين، وثالثها حدوث زلزال جديد هو الهجوم على الأبراج في نيويورك والبنتاغون في واشنطن بتاريخ 11/9/2001، ما سيسمح لإسرائيل بتوظيف هذا الزلزال لصالحها بشكل حاسم.
وجود سلطة وطنية على الأرض الفلسطينية يعني وجود أراضٍ تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، ووجود اتفاقات تربط بين هذه السلطة ودولة إسرائيل، وتوفر السلاح الخفيف في أيدي قوات الأمن والقوى والفصائل والجمهور الفلسطيني.
دخلنا الانتفاضة الحالية التي كانت الرد الرسمي والشعبي على خداع أوسلو الذي تحوّل إلى تكريس للاستيطان والاحتلال مقابل عدد من رموز السيادة الفارغة، وبذلك أعادت هذه الانتفاضة الصراع إلى أصوله الأولى (حرب وجود، حرب كيانات) إلى حدّ كبير. وبمعنى آخر دخلت إسرائيل حربها ضد الانتفاضة لتحقيق عدة أهداف، أهمها فرض القراءة الإسرائيلية لاتفاقات أوسلو، وإبقاء الأمر على ما هو عليه، ولتصميم أو تشذيب الشعب الفلسطيني حسب المواصفات الإسرائيلية.. بل للانقلاب على اتفاقيات أوسلو الأمنية والسياسية، والذي تم التمهيد لهذا الانقلاب منذ اغتيال رابين، الذي كان شريكاً وعرّاباً لأوسلو مع الرئيس عرفات.
غير أننا دخلنا هذه الانتفاضة ولم نستفد من تجاربنا في الانتفاضات السابقة، ولم نستعد للمواجهة، في حين أن الإسرائيليين دخلوا حربهم ضدها وقد أفادوا من أخطائهم إبان الانتفاضتين الأخيرتين 1987، و1996.
عدا أن إسرائيل العام 2000 كانت قد راقبت ودرست وأثرّت في الحياة الفلسطينية في الضفة والقطاع، في الوقت الذي لم نرقَ فيه إلى سبر غور الإسرائيليين والدخول إلى أحشائهم، ومعرفة نقاط قوتهم وضعفهم.
كيف دخلوا .. ودخلنا ؟
دخل الفلسطينيون الانتفاضة بصورة أقرب إلى الارتجال منها للتخطيط، وكان مقتل الانتفاضة يتمثّل في عدة أمور، أهمها: عسكرة الانتفاضة، ما أدى إلى عدم تحييد السلاح الإسرائيلي الثقيل، وما جعل المشهد كأنه حرب بين طرفين، والأمر الثاني غياب السلطة، بمعنى أن السلطة هي احتكار ممارسة القوة، وهذا لم يتم، بل العكس تماماً، إذ إن السلطة تركت الحبل على الغارب لكل مجتهد أو عابث، وتركت المجال لأكثر من أجندة تمضي في طريقها، ما جعل هذه الأجندات تتعاكس فيما بينها، إضافة إلى الاستجابات الشعبوية ذات الطابع الانتخابي التي كان لها مردود سلبي، ولم ترتبط بالقراءات الصحيحة للظروف المحيطة. وهنا لا نبرّئ الفصائل التي لم تكن على مستوى الضبط المطلوب، واستشعار المصلحة العليا، بل لم تفتح الحوار المطلوب مع السلطة لفرض صيغ عمل جماعية. كذلك فإن السُلطة لم تتخذ موقفًا واضحًا في كيفية التعامل مع الجماهير، ولم تعمل على مصارحتها أو رفضها أو تبنّيها، كما أن السلطة لم تنسّق مع الجماهير خصوصًا في المواقف السياسية، وحاولت السلطة أن تقدم نفسها للعالم كسلطة مسؤولة، وحاولت أيضاً أن تقدم نفسها للجماهير وكأنها تقودها، وهذا وضع لا يمكن الاستمرار فيه ومعه إلى الأمام، لهذا تغير سقف الانتفاضة بسبب سوء المرجعية الأولى، وبسبب تقديم السلطة لنماذج رديئة على مستوى التفاوض والإدارة والفساد، عدا أن الجماهير، ونتيجة لوجود السلطة قد تغّيرت مفاهيمها في المشاركة في الانتفاضة من حيث عدد وكمية وشكل المشاركة. إضافة إلى كل ذلك، فقد دخل الفلسطينيون الانتفاضة والموقف العربي مفكك ومُستلب وضعيف، وفي ظل وجود أطماع إقليمية مجاورة، وفي ظل خذلان دولي حقيقي، وبالذات بعد أحداث 11/9/2001، وفي ظل نقص الإمكانات، والاستغلال غير الموفّق لأنواع مؤثرة من المقاومة، عداك عن تزوير الحقائق للجماهير من خلال تصريحات نارية لكثير من المسؤولين والشخصيات على الثوابت والمفاهيم الأساسية المشروعة.
أما الإسرائيليون فقد دخلوا الانتفاضة بعد أن وجدوا ثغرة أدخلوا من خلالها سلاحهم الثقيل سريعاً، وبلا رحمة، وبدأوا حرباً إعلامية قوية، وسريعة، ومنسجمة ومتواصلة، ومارسوا كل أشكال القمع ووسائل العنف الإجرامية والمحرّمة دولياً، في ظل دعم وتبرير أمريكي مطلق لهم، وصمت أوروبي وعالمي، وعدم تحرّش إقليمي بإسرائيل، ما جعلها مرتاحة، وتستمر في جرائمها دون رادع.
وربما كانت إسرائيل مُستغِلة إلى أبعد الحدود هذه الحرب التي تشنّها، فقامت بتدمير كل شيء، دون استثناء، في الحياة الفلسطينية، بهدف إضعاف وتركيع وتلقين الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم، أخيراً، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانفجار في وجه الاحتلال ورفض إملاءاته، وإما الاستسلام. ومن الطبيعي أنهم لم يستسلموا.
هنالك على ما يبدو قرار، غير مكتوب وغير معلن، أمريكي غربي إسرائيلي، مفاده عدم السماح للشعب الفلسطيني المنتفض بأن ينجح في تحقيق أهداف ثورته وانتفاضته، بوساطة العنف، لأسباب سياسية وعقدية. بمعنى أنه إذا انتصرت الانتفاضة فهذه سابقة ستتكرر في غير مكان، في العالم العربي أو الإسلامي، وستنتقل أشكال المقاومة إلى خارج فلسطين وتصبح نموذجًا يحتذيه الشبان والمقاومون، وبالذات شكل العمليات الفدائية التفجيرية، ما يفسر حرب أمريكا وإسرائيل لهذا الشكل على وجه الخصوص. ثم ينبغي أن تكون الأنظمة القائمة فيما يُسمى الشرق الأوسط، أنظمة مطيعة ومتعاونة مع أمريكا وحليفتها إسرائيل، وليست أنظمة ثورية تقول:”لا” في وجه سيّدة العالم وابنتها المدللة إسرائيل.
وبالتأكيد، فإن ما يولّد العمليات التفجيرية ويمهّد لردود الفعل الفلسطينية العنيفة هو مجمل إجراءات إسرائيل القمعية الدموية، وتفنّنها في إذلال الشعب الفلسطيني وتعذيبه وتجويعه ومحاصرته. أي أن إسرائيل ومعها أمريكا وصمت العالم هو المسؤول عن كل قطرة دم تسقط، هنا، في فلسطين التاريخية، وأن كل هذا الموت لن يمْحي من ذاكرة الفلسطينيين حقوقهم التي مهروها بكل هذا الدم والدمع والفجائع.