المتوكل طه يكتب: في مواجهة خطاب الأزمة

 

 

 

 

ما يميز الخطاب العربي، في كلّ المحافل، أنه خطاب ينحو إلى التكيّف والتعايش مع الهزائم والأزمات المختلفة! إنه خطاب من التعويم والمرونة والاحتيال بحيث يستطيع أن يقلب الحقائق ويزوّر الوقائع، ما يدفع إلى القول إن الخطاب المتكيّف عادة هو خطاب كاذب ومخادع، لا يقرأ الواقع من جهة ولا يفسره ولا يحلّله من جهة أخرى، لذا فإن الخطاب المتكيّف عادة ما يكون تلفيقياً وتوفيقياً بطريقة مثيرة للشفقة أو الضحك أو البكاء.. أو كل هذا الأمور مجتمعة . يظهر التلفيق في هذا الخطاب من خلال تقديم نماذج متعددة المرجعيات ومتناقضة الأيديولوجيات، إلى درجة أن هذا الخطاب يحتمل كل شيء في ذات الوقت، ومن العجيب أن مثل هذه النماذج تقدم إلى الجماهير دون إحساس بالذنب أو الخطأ أو تبكيت الضمير، ومن العجب أيضا أن يقوم على تقديمها رجل الفكر والدّين والإعلام ورجل السياسة، لتشكيل فضاء سياسي ثقافي ناظم يكتسب شرعية بفعل قوة الروافع والمضخات الرسمية، ومن يتطوع معها إغواءً واغراءً ورغبة منها في الاندماج والكسب. وإذا كان التلفيق صفة الخطاب فإنه ينسحب على كل أمر آخر، فالتعليم يتراوح بين التلقين والتقليد وادعاء الإبداع والبحث، وتخطيط المدينة يضطرب ما بين العشوائية والتخطيط، وحتى العلاقة مع الجماهير، حيث تغيب الرؤية النهائية للتعامل مع الجمهور، فالديمقراطية إدعاء براق يستخدم حسب مقاييس ومعايير تكرّس القمع، أو يُعاد إنتاجها بطريقة غاية في الخداع والاحتيال، بحيث تتحول الديموقراطية – كمفهوم غربي له عراقة وتقاليد – إلى سلوك سياسي مخادع يتمّ من خلاله تثبيت مراكز القوى إياها، وهكذا يتحوّل مفهوم الديموقراطية إلى سيف يذبح حامله. الديموقراطية بالذات هي الوصفة الناجعة من أجل التفتيت والتفكيك بدلاً من ان تكون مفهوماً وأداة للاستقرار السياسي والاجتماعي، ذلك أن تلفيق المفهوم يؤدي إلى تلفيق التطبيق، وبالتالي تلفيق النتائج.

ويظهر التوثيق في خطابنا الرسمي عندما يساوي بين الأخطاء، ويمارس عملية إيهام حقيقية بحيث تنتفي الفروق بين الأفعال وبين الرجال وبين الأفكار، وعندما تتمّ التسويات على قاعدة عمومية غامضة، وحين تغيب المحاسبة والمكاشفة، وحين تحلّ المشكلات بطريقة عشائرية يستوي فيها الخطأ والصواب، إلى درجة أن يتساوى الدم بفنجان القهوة، وهو أمر يتكرر في السياسة، حيث تتحول الأوطان إلى عقارات وليست رمز كرامة وعزّة.

الخطاب التوفيقي هو خطاب مضحك وبائس في ذات الوقت، لأنه لا يبحث عن الإقناع بقدر رغبته في السلامة والتسويات التي لا تصح، هذا الخطاب لا يبحث عن الشرعية بقدر بحثه عن الإجماع المصطنع مهما كلّف الثمن.

إن الخطاب المتعايش والمتكيف مع الهزيمة مستعيناً في ذلك بالتوفيق والتلفيق، هو خطاب أزمة بامتياز، هي أزمة التعامل مع الواقع، أزمة السؤال والتحدي، أزمة الهوية، أزمة الشرعية، وأزمة التنمية . هو خطاب أزمة لأنه خطاب تعايش مع الهزيمة، وهو خطاب تعايش مع الهزيمة لأنه خطاب أزمة، ولا يمكن تجاوز كل ذلك إلا بتجاوز الأزمة عن طريق رفض الهزيمة. إن صنع النصر والاستعداد له والتهيّؤ لأسبابه وإنضاج ظروفه وشروطه هي عملية طويلة ومضنية ومجهدة، ولأنها كذلك، فإنها كفيلة بأن تفرز الخبيث من الطيّب، الحقيقي من الزائف، عملية النصر بحد ذاتها عملية تنظّف وتطهّر وترمّم، عملية النصر عملية لا تلفيقية ولا توفيقية، النصر انحياز حقيقي باتجاه مكان القوة الأصلية ومصادر الطاقة التي عادة ما تُغَيَّب في خطاب الأزمة أو تُشَوَّه. وخطاب النصر واضح وبسيط، حتى شعاراته بسيطة وواضحة ومتواضعة، لا تقفز عن الواقع ولكنها تحلم بتغييره، ولا تزوّر الواقع ولكنها تطلب الانقلاب عليه. حتى لغة النصر، فهي لغة دقيقة لأنها تعرف ثقل الأثمان التي دفعت من أجل النصر، وهي لغة متواضعة لأنها تعرف معنى الوحدة وصعوبة العمل الذي تمّ إنجازه. وعلى عكس لغة التلفيق والتوفيق، التي فيها من الادّعاء ما فيها، فإن لغة النصر مختصرة وتذهب مباشرة إلى مقاصدها وتسمّي الأشياء باسمائها.

ونقول هذا الكلام كله، من أجل أن نقول إن خطابنا الرسمي الذي يتعايش ويتكيّف مع الهزيمة بكل تدرّجاتها وأشكالها، يستبعد كلياً خيار تحرير القدس، أليس هذا غريباً؟! أليس عدم الكلام عن التحرير تعايشاً مع الهزيمة وتكيّفاً معها وقبولاً لها؟! . عندما نتحدث بلغة لا نؤمن بها ولا نصدّقها، تتحوّل هذه اللغة إلى خيوط مرنة ولكنها غليظة وطويلة، حتى تكفي لتأليف حبكات ينقصها الصدق والصراحة والجرأة. وعندما لا نتحدّث عن تحرير القدس التي تؤلّف جوهر إيماننا.. فإننا نقوم بخيانة ما أو ما له طعم الخيانة، وعندما نقوم بتجميل الهزيمة أو التعايش معها، فإننا نخون حتى لغتنا . يجب الاعتراف بأننا مهزومون، وهو اعتراف لا يدعو إلى جلد الذات بقدر استنهاضها، ولا يدعو إلى الإحباط بقدر الدعوة إلى فتح العينين إلى آخرهما لقراءة الواقع كما هو لا كما نريد أو كما نحلم. إن الاعتراف بالهزيمة خطوة أولى من خطوات الاعتراف بالواقع، فأوضاعنا ليست بخير، ومجتمعاتنا ليست بخير، وحكوماتنا ليست بخير، وثرواتنا ليست بخير. المشكلة هنا أن هذا الكلام يكاد يكون مكروراً ومبتذلاً، ويعرفه القاصي والداني، كلنا يعرف أن فلسطين محتلة، وأن أراضي عربية كثيرة أخرى تعاني “احتلالاً” بشعاً وطويلاً، ويكاد بعض هذه الاحتلالات يتحوّل إلى واقعٍ لا يمكن حتى نقاشه، وهذا ما يؤلم على المستوى الشخصي إلى أبعد الحدود. القدس مثلاً تهوّد بوتيرة سريعة إلى درجة قد تتحوّل فيها الأوضاع إلى الحال الذي تعيشه سبته أو الاسكندرون، لا نريد فراديس مفقودة أخرى، ولا نريد أندلساً جديدة، لا نريد ان تكون الأُمّة التي تتعود الصفعات، لأن العادة والتعوّد تطبيع من نوع آخر. لا نريد أن نكون الأُمّة التي ضحكت من جهلها الأمم. أقول ذلك باعتبار أن لنا رسالة حملناها ونشرناها وكانت خيراً على كل البشرية. وبعيداً عن استعراض تاريخي لعالمنا العربي منذ بدايات القرن الماضي وحتى يومنا، فإن أسباب هزائمنا المختلفة في الحرب والفكر والتنمية وبناء مجتمعات صحية، لم تتجاوز سببين، أن عدونا قوي ومستعدّ وشَره وصاحب خبرة طويلة، وأننا لم نكن على مستوى المواجهة . لم تكن هزيمتنا هزيمة طبقة أو فكر أو شخص أو جهة أو حزب أو فصيل، كانت هزيمة أُمّة كاملة، بالمناسبة، فإن أيامنا هذه، تشهد احتلالات وحصارات وهجومات لعدد من العواصم العربية، ولا نتحدّث هنا عن القدس فقط، وبالمناسبة أيضاً، فإن عالمنا العربي في أيامنا هذه يشهد أسوأ فترات هزائمه، فالهزيمة وصلت إلى أن تسلب حتى إرادة الرغبة في الانفكاك من هذا الوضع، وأقول أسوأ فترات هزائمه لأن بعضنا صار يحارب بعضنا الآخر من أجل عدوّنا جميعاً، أي أننا وصلنا إلى وضع صرنا نموّل فيه حروب عدونا. وهذا من العجب العجاب.

إن تجاوز خطاب الأزمة لا بدّ له من مثال أو نموذج حي يستطيع ملء الفراغات وتقديم محتوى نظري وعملي للفكرة. كل الأفكار عظيمة دون تطبيق، وكل الأفكار قابلة للنقد عند تطبيقها، وقد تطول المدة حتى يأتي هذا النموذج، لأن الغرب لم يعد يكتفي بإدارة الأمور من وراء البحار، الغرب صار يأتي إلى هنا، ويتواجد بين ظهرانينا، ولم يعد يطلب وكلاء سرّيين، بل صار من الوقاحة بحيث يطلب وكلاء علنيين يقبضون أجرتهم أمام كل الناس وأمام عدسات الكاميرا. لهذا قد تطول المدة التي يتخلّق فيها النموذج المطلوب المختلف.

ونقول تطبيع، هذا اصطلاح غير دقيق للقبول بالاستسلام، التطبيع هو التكيّف مع الاحتلال ومع مصالح الاحتلال ومع حلم الاحتلال المتعدّد والمختلف بتسميات كثيرة. عندما نقول تطبيع، فإننا عملياً نقول الرضا والخضوع والحياة تحت سقف القوي المحتل.

التطبيع هو مطلب القوي وليس مطلب الضعيف. ولهذا عادة ما يحشر الضعيف في زاوية الدفاع عن النفس وشرح الدوافع والأسباب، وبهذا يتحوّل الضعيف إلى ضحية لا يصدقها أحد ولا يحترمها أحد. خطاب الضحية الضعيفة خطاب أزمة حقيقية فهو لا يستطيع أن يقنع حتى نفسه، ولهذا كان التطبيع مطلب القوي لأن هذا المطلب يتضمن ضمن أشياء أخرى قبول شروط القوي ومطالبه. والتطبيع هنا قبول رواية الآخر كما قيل، فإن رواية الآخر عن نفسه أرفع من أن تكون مطلب القوي هنا للضعيف، بل، وببساطة، فإن التطبيع المطلوب هو عدم الثورة وعدم الاحتجاج، والقبول بالتحوّل إلى مجرد كائن حي، كل فضيلته أنه يستهلك الطعام ويخرجه.

خطاب الأزمة يقبل التطبيع ويرفضه، ذلك أن خطاب الأزمة يتجاور فيه كل شيء مع كل شيء آخر، وهذا من أشد الأمراض وأسوأها. والمحتل الذي يتابع ويدرس ويبحث، يعرف أننا في لحظات سوء حقيقي، ولهذا، فقد بلغ من الوقاحة والصلف والغطرسة أن يفرض معادلة مذلّة تقول التطبيع مقابل السلام . إلى هنا نصل، أن يقبض المحتل الثمن مقدماً من أجل أن يعد بشيء قد لا يحصل لأي سبب. التطبيع بمعنى أسوأ من الاستسلام، من أجل أن يتوقف عن عمل غير قانوني وغير شرعي. إلى هنا يصل بنا خطاب الأزمة. والى هنا يصل بنا غياب النماذج.

 

 

 

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]