المتوكل طه يكتب: ما نَطَقَ به الرّائي.. سنعود
ستنتظرُ النافذةُ الشرقيةُ قَرْناً حتى تنفتح على الزغاريد. وعندها ستكون بداية الحصاد الوفير، الذي سيتيح للمنجل أن يخلّص السنابلَ من الهالوك الذي امتصَّ نسغَ الأرض.
وإن سقوط المقدّسة إيذاناً بسقوط الحواضر الباذخة، التي سيفترعها التتار البِيْض. وسيُهزَمون، مرّةً أخرى، على أبواب مدينة العِزّة، ثم تكون كرَّةً أُخرى للعين.
وستشهدون أندلساً أُخرى، ستكون ممالكُ وطوائفُ ودُويلاتٌ وطَحْنٌ ساخنٌ وعداءٌ فاجرٌ، وسينشَقُّ الهلال، وتتعَمَّقُ الفتنةُ أو تعود.
وسيحتلّون نصفَ المِحراب، ويحرقون المنبر، ويُمطِرون السُّجودَ بالثاقبِ المجنون، ويرفعون الشمعدانَ على معابد الخراب.. ونيأس، كالعادة، أو نتطامن مع المنافق الذي أبْدَلَ المشهدَ وادّعى أنّ عباءتنا المُمزّقة تتّسع للألوان!
***
ومَنْ سكب الماءَ على النار وأطفأها، هو نفسه الذي يتباكى على رمادها!
*
والصّياد الذي ستُجْمِعون على قدرته الفائقة على التقاط الأسماك من البحر، سيأتيكم بقُفَّتِهِ المليئة بالحيّات.
وسيصبح الوَهْمُ هواءكم الفاسد، الذي يملأ صدوركم، وحرفَكم الذي تتشدّقون به على المنابر، وحجَارتكم التي ترمونها على أعدائكم.. فتَشُجّ رؤوسكم.
***
وستلبسون ثياباً ليست لأبدانكم، وستحملون هويّةً لا تحمل ملامحكم، وستدافعون عن مقولاتٍ ليست لكم. وستغيب رائحةُ المقاثي في صيف العقود الآتية، وسينبت مكانها العمى والقيود، وتنتشر رائحةُ الملح من فَخِذَيْ المُجَنَّدة الصهباء، التي ستحكم بقبضتها على عُنق كبير السَحرة، الذي لم يؤمن بعدُ بالعصا المتحوّلة.
وأتمنّى ألّا يرفعوا الغصن! لأنهم حرقوا الزيتون، ولأننا سنجعله سوطاً نُدْمي به ظهور أولادنا.. ولن يُرفرف الحَمامُ فوقنا.
وسيُبَدّلون أصحابَ النياشين، كما يحلو لهم، وستمتدّ الآلام إلى أن تتجاوز طريق ابن مريم.. بمحطّاتٍ لا يُمْكِنُ عدُّها.
وستبرز النتوءاتُ المشتعلةُ غضباً، على امتداد الخريطة، لكنهم سيعملون على إعادة إنتاج المُكرّسين لخدمتهم، مرّةً أخرى، وسيُلَوّثون الألحانَ والمراقد وليالي الصُوفيّين الشهداء، وسيمتلئ الموج بجثث الصغار والغرباء الباكين، الذين ماتوا قبل أن يُقتَلوا.
***
وستنفتحُ القلاعُ الطازجةُ اللامعةُ الساقطةُ أمام الغريب، الرّاطن بالأغيارِ وطوطم الفناء. سيتحدّثون بلغتِهِ المُلفَّقَة، وسيُنجبون عبيداً آخرين، يُحيون بهم ليالي السِّفاح. وستُمْطِرُ عيون الجامع دماً، وسيخفق جناح البُراق غضباً فوق الحائط الذي سرقوه، وباركنا لهم به، ضعفاً وضعفاً.
وإنها رقعةُ شطرنجٍ سيموت فوقها الجنودُ، وتتناثر القلاع، ولن ينجو الملك.
سيتبدّد البيدق الذي كان يحمي الفيَلة، إلى أن تبدو رقعة المربّعات باهتةً مثل ثوبٍ رَثٍّ قديم.
وسيهدر قارحُ الأعمام ويتنافخون، وسيرسلون المساكينَ ليرُدُّوا الطوفان. سيعود بعضهم مليئاً بالوحل، وسيبقى القليلُ منهم تحت شواهدَ موزّعةٍ بين الأعشاب الهائشة.
وستكون المئذنةُ مدخنةً للفحم، والمصطبةُ منصةً للراقصة المترخّصة، والقوسُ خزانةً لزجاجات النبيذ، والحوضُ موقداً للشّواء.. وتتكرّر الصورةُ، فنمرُّ عليها كأنها في بلادٍ لا نعرفها.
وسنعرف أنهم يُسَمّمون آبارنا، ويحرقون أشجارنا ويخلعونها عن عَرْشها الأبديّ، ويُشعلون حليب أطفالنا، ويسجنون أولياءنا، ويُقيمون الأسوار ذات العيون حولنا، وسيهدمون سقوفنا، ويدفعوننا لنحفر قبورنا بمعاولنا، وننسج أكفاننا بأيدينا، وسيجزّون قمحنا، ويسهرون حول حابون الحِلْبة والشَعير على قمر بيادِرنا، وسيلبسون قمصاننا، ويأكلون عَشاءنا، ويشربون زمزم غيثنا، ويمنعون مناديلنا من البكاء والغناء، وسيأتون بالأرذل ليتحكّم في رقابنا، ويَحوُلُون دون سجودنا وقيامنا، وسيجوع الطير على جبالنا، وتخِرُّ ثمار غصوننا، وسيظمأ الصخرُ بين أيدينا، وسنبكي حتى لا نجد الدمع.. ومع هذا سنفتح لهم بوّاباتنا وندعو لهم بأن يدخلوها آمنين.
والقريةُ التي عَقَدت هدنةً مع العصابات.. ساذجة! لقد اطمأنّت لِوَعْدِ كبيرهم اللقيط، وهو يحلف بِشَرَفِ أُمّهِ الزّانية.
وطوبى لمَنْ ظلّ تحت الغزالة، لتغسله بلَفْحها، وتُفَتِّح مسامات بدنه، ليخرج الغليان، ويتطهّر من ثلج القطران، ويفوح بالرُمّان.
***
وستحلّ المَظْلَمةُ الدمويةُ كأنها كوكبٌ حارقٌ مارقٌ حَطَّ على غير هُدىً، سيقلِبُ كلَّ شيءٍ رأساً على عقب، ويكسر المحراث الذي بقروا بطن صاحبه، ويشعلون العدمَ في الجدران والحقول.
وسيبقى، على الساحلِ، صوتٌ صلبٌ يُدَوِّي بالضادِ، رغم السَلْخ والجوع ومطاردة الضباع.
وستكونون في خرائبَ بائسةٍ تحت بساطير إبليس الذي عقد هدنةً مع الشيطان. ستمرع الداليةُ التي تجمع تحت عناقيدها الحمراء أغانيكم وحنينَكم الجارف.. لكنكم ستقطعون جِذعَ الكَرْمة وتوزّعون قناديلها في الهواء المالح.
وسيتّفق التُجّار على إنفاذ القافلة، باسم الثاكل والعنب المهروس والقِباب وبيّارات البحر. سيُشاركون -عن بُعْدٍ- بالصمت المريب ابتداءً، ويمدّون الأياديَ للأفاعي.. إلى أن تكونوا جزءاً من أفق السقوط الممتدّ من اتفاقية المُتلَجْلِج إلى آخر الصيحات المخمورة.
وستكونون عرايا دون حشمةٍ وبراءةٍ، وستندفعون، بفعل بساطير الرصاص وأقلام المأجورين، نحو تعميق التشقّقات حتى تقعوا في بطونها، لتكتشفوا أنها أفاعٍ دهريَّة، لها ألفُ رأسٍ، ستهضمكم في جوفها، ولن يشفع حينها دعاءُ ذي النون، لأنكم نسيتم الكلمات، وستخبطون بعضكم بعضاً حتى تتفانوا، ولن تتدافَنوا.
وستكمن تحت أرضكم نارٌ ذات لظىً، يختزنها البسطاء، على مدار عقودٍ ثقيلةٍ من العذاب المقطَّر الرهيب، وتكونون جميعاً، تحت سِنّ المقصَلة التي شحذتموها برقابكم، ونافحتم عن سَيّافها. وستشهدون لحظةً تحملون فيها النَّصْل وستقطعون شرايينكم بأيديكم، وستذهبون تحت الرّحى، لتُخْرِجوا غُباراً يبكي البلاد التي ضيعتموها باصطفافاتكم المنهارة، وستكونون رَهْن مصالح المُرابي. ولن تعودوا تماماً!
***
قد هَجَرَتْنا الأغنيةُ العميقةُ الخضراءُ، التي غطّت الأرضَ والسماءَ، ولم يعد شرياني يتّسع للمجرّات والغابات، فوجدتني مثلك في قبو المذلّة أنوء بالدم والحرائق والعويل، وأشهد، رغماً عنّي، على تزييف الحجارة والأشجار، إلى أن تتّشحَ الأمهاتُ والقناطرُ بالسواد، وتمتلئ الحقولُ بالجماجم والمُشَوَّهين، وقد اقتربنا من خسارة الجولة الكبيرة. لقد صافح أبونا سارقَ الأرض.. وعانقه، ولن نعود إلى الدار.. قريباً، لكنّنا سنعود.