تسجل انتفاضة الحجارة (الانتفاضة االفلسطينية الأولى)، مرحلة فاصلة ونقطة تحول في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينة، ومنذ الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936، وأكد خبراء عسكريون وسياسيون قبل 31 عاما، أن ما يجرى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكبر من مشاهد ومواجهات «انتفاضة حجارة»، ولكنها «ثورة الإرادة الشعبية الفلسطينية الثانية بعد ثورة شهر إبريل/ نيسان 1936».
البداية.. العالم على موعد مع مصطلح «انتفاضة»
انطلقت شرارة ثورة الإرادة الفلسطينية الثانية، أوالانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) فى الثامن من ديسمبر/ كانون الأول عام 1987، بعد أن دهست إحدى مركبات جيش الاحتلال الإسرائيلى«عمدا» وعن قصد مقصود، عمالا فلسطينيين في مخيم «جباليا» للاجئين في قطاع غزة، واستشهد أربعة فلسطينيين، وجرح تسعة آخرين، وفي اليوم التالي، وأثناء تشييع الشهداء، خرج سكان مخيم جباليا ليرشقوا عناصر الجيش الإسرائيلي بالحجارة..واشتعلت الانتفاضة الشعبية لتشمل سائر انحاء الوطن الفلسطيني المحتل، وكانت الحجارة أداة الهجوم والدفاع التى استخدمها المقاومون وأطفال الحجارة، وأصبح مصطلح الانتفاضة معروفا دوليا، تعبيرا عن الاحتجاج العفوى الشعبى الفلسطينى على الوضع العام المزرى بالمخيمات، والقمع اليومى الذى تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي.. وأثارت الانتفاضة مشاعر التعاطف مع الشعب الفلسطينى فى العالم كله، وأحيت القضية الفلسطينية لتتصدر اهتمامات ومتابعات المجتمع الدولي، وصارت «انتفاضة الحجارة» نموذجا فى المقاومة والنضال السلمى ضد الاحتلال.
أضرب العمال الفلسطينيون عن العمل، ورفض الفلسطينيون دفع الضرائب لدولة الاحتلال، وبدأت الأمهات بالتدريس المنزلي للطلاب، كل ذلك جزء من المقاومة الشعبية، واشتهرت بيت ساحور بالضفة الغربية حيث قذف الفلسطينيون بالهويات الإسرائيلية التي تفرض عليهم كجزء من العصيان المدني الشعبي، وبدأت إسرائيل تخشى أن تفقد حتى القدرة على التعرف على الفلسطيينيين.
فلسطين التاريخية 48 تشارك في الانتفاضة
المفاجأة «الصدمة» لدولة الاحتلال، جاءت من الفلسطينيين داخل حدود 1948 وأعلنوا أنهم جزء من الانتفاضة وسيقومون باستعمال حقوقهم من داخل دولة الاحتلال، ونظموا مظاهرات و حركات إضراب تضامنية و كانوا يفخرون بالجرأة التي يواجهون بها الجيش الإسرائيلي، وقاموا بإرسال مساعدات غذائية وأدوية و مساعدات مالية إلى أشقائهم في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، وكانوا يتبرعون بالدم لصالحهم.. وضع البعض حساباتهم البنكية تحت تصرف منظمة التحرير من أجل تحويل الأموال، وقام آخرون بإعطاء هواتفهم عندما قرر جهاز الشاباك قطع الخطوط الدولية من أجل منع الفلسطينيين من استقبال مكالمات من الخارج..وعندما وجدت القيادة الموحدة لانتفاضة الحجارة صعوبات من أجل طباعة المنشورات والبيانات، تم اللجوء إلى مطابع الناصرة أكبر مدينة عربية داخل فلسطين التاريخية 48، ومن ثم إلى القرى العربية.
80 ألف جندي و«تكسير العظام» في مواجهة الحجر الفلسطيني
جندت دولة الاحتلال أكثر من ثمانين ألف جندي إسرائيلي لوقف زخم الانتفاضة، وقمع نصف مليون فلسطيني عزل، واستخدمت وسيلة للعقاب بـ «تكسير العظام» التي شجعها اسحاق رابين حين كان وزيرا للدفاع. لكن دولة الاحتلال فشلت في كبح جماح فلسطينيين لم يعودوا يحتملون احتلالا يأكل أرضهم ويقذف بأبنائهم في السجون ويهدم منازلهم ويقضي على حلمهم بالاستقلال والحرية، وعندما استمرت الانتفاضة، استعان «رابين» بحرس الحدود..ورغم ممارسات البطش الصهيوني والعنف الدموي النازي، وتكسير العظام، وإطلاق الرصاص، واعتقال المتظاهرين، إلا أن انتفاضة الحجارة استمرت بزخم مختلف مدة ست سنوات، استشهد خلالها 1262 فلسطينيا بينهم، 241 طفلًا، و 90 ألف جريح، يعاني نحو 40% منهم من إعاقات دائمة، 65% يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف بما في ذلك بتر أو قطع الأطرا..وتدمير 1228 منزلاً.. واقتلاع 140 ألف شجرة من المزارع الفلسطينية..ونحو 60.000 آلف معتقل من عموم المناطق الفلسطينية، ولاستيعاب هذا العدد الهائل من الأسرى اضطرت إسرائيل إلى افتتاح سجون،مثل سجن كتسعيوب في صحراء النقب والذي افتتح في عام 1988.
خسائر دولة الاحتلال
حظيت انتفاضة الحجارة بتعاطف دولي غير مسبوق، وأحرجت مواقف الدول الغربية الكبرى الموالية لدولة الاحتلال، وتخلى كبار المسؤولين السياسيين في واشنطن ولندن وباريس وبرلين ـ لأول مرة ـ عن انحيازهم ودعمهم لإسرائيل، تحت ضغط الراي العام العالمي، وفيما وصف بـ «صحوة الضمير» العالمي، وكشفت الصور التي كان يلتقطها الصحفيون عن تنكيل الإسرائيليين بالفلسطينيين، عن حقيقة دولة الاحتلال «إسرائيل» أمام الشعوب الغربية، التي خرجت في تظاهرات غاضبة تضامنا مع الشعب الفلسطيني في انتفاضته ضد الاحتلال الإسرائيلي .. وبدأت لأول مرة في إسرائيل هجرة معاكسة، بسبب خوف المستوطنين الإسرائيليين من الاحتجاجات، وأصبح اليهود يفضلون الهجرة إلى الاتحاد السوفييتي بدلًا من إسرائيل..وتكبد العدو خسائر بشرية بلغت 160 قتيلاً، وخسائراقتصادية بلغت في العام الأول فقط مليار دولار، و10 مليارات دولار خلال سنوات انتفاضة الحجارة، وهزيمه أخلاقية بعد أن عرّته الانتفاضة وفضحت جرائمه ونالت من سمعته وهيبته وادعاءاته المزيفة على أنه الواحة الوحيدة في المنطقة التي تتحلى بالديمقراطية والمحافظة على حقوق الإنسان. وهذا ما دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرارا حمل الرقم (605)، شجب فيه السياسات والممارسات التي تنتهك من حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ومطالباً دولة الاحتلال أن تتقيد فوراً بـ(اتفاقية جنيف) المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب.
انكشف ضعف إسرائيل
وكان الكيان الصهيوني في أضعف حالاته في مواجهة انتفاضة الحجارة، وهذا ما عبر عنه المؤرخ اليهودي زئيف شيف في كتابه (انتفاضة): «إن الفلسطينيين فاجأوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها، عنف مدني شعبي ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك، فلم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها بغتة في الخارج ولسكانها على حد سواء. وكانت المفاجأة في شمول الانتفاضة لجميع فئات السكان شباباً وشيباً، نساء وأولاداً ورجالاً قرويين، ومدنيين، متدينين، وعلمانيين، وهذه المفاجأة كانت أعنف من مفاجأتها بحرب يوم الغفران (حرب أكتوبر العام 1973)، فإسرائيل لم تستطع ملاحظة ما يجري داخل بيتها، وفي غرفة نومها»
ابتكار وسائل جديدة للتعبئة الجماهيرية
ابتكرت الانتفاضة في فعالياتها مجموعة من الوسائل التي تساعد في بث الدعاية والتعبئة الجماهيرية لجموع الشعب الفلسطيني، وحثهم على الانخراط الأوسع في أعمال الانتفاضة والمقاومة. ومن تلك الوسائل: إصدار البيانات والنداءات وهي الموقعة من قبل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، حيث كانت تلقى استجابة من قبل فئات الشعب الفلسطيني، وكانت المنشورات توزع عند مداخل المساجد من قبل أطفال لم تكن أعمارهم تتجاوز السابعة، أو كان يتم إلقاؤها من نوافذ السيارات قبل طلوع الشمس، و يتم تمريرها من تحت الأبواب. جاء توزيع المنشورات كشكل من انواع الإعلام البديل بسبب تشديد دائرة الرقابة على الوسائل الإعلامية التي لم تستطيع الوصول إلى الرأي العام الفلسطيني وأيضا مضايقات و اعتقال للصحفيين..والوسيلة الثانية: النداءات في المساجد، حيث لعبت ميكروفونات المساجد دوراً مؤثراً كإذاعات وطنية تبث نداءات سياسية وجماهيرية في عموم المخيمات والبلدات الفلسطينية من أجل المشاركة في التظاهرات والمواجهات. وإذاعة ما تصدره قيادة الانتفاضة..الأداة الثالثة :الكتابة على الجدران والتي انتعشت خلال الانتفاضة..الوسيلة الرابعة: اللقاءات المنظمة، حيث عمدت قيادة الانتفاضة إلى تنظيم اللقاءات في مجالس عزاء الشهداء والجامعات ومقار النقابات، بهدف حث الجماهير على مواصلة الانتفاضة..والأداة الخامسة: اللجوء إلى الإعلام الجماهيري المباشر، حيث تم الاعتماد على إذاعة قرارات وبيانات الانتفاضة بميكروفونات محمولة على سيارات.
مطالب وأهداف الانتفاضة
تميزت الانتفاضة بحركة عصيان وبمظاهرات ضد الاحتلال. امتدت بعد ذلك إلى كامل الأراضي المحتلة، وسعى الفلسطينيون عبر الانتفاضة إلى تحقيق عدة أهداف تلبي المطالب الشعبية الوطنية، وهي: إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وتمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم..تفكيك المستوطنات..عودة اللاجئين دون قيد أو شرط..تقوية الاقتصاد الفلسطيني تمهيدا للانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي..إخلاء سبيل الأسرى الفلسطينيين والعرب من السجون الإسرائيلية .وقف المحاكمات العسكرية الصورية والاعتقالات الإدارية السياسية والإبعاد والترحيل الفردي والجماعي للمواطنين والنشطاء الفلسطينيين ..لم شمل العائلات الفلسطينية من الداخل والخارج..وقف فرض الضرائب الباهظة على المواطنين والتجار الفلسطينيين..وقف حل هيئات الحكم المحلي المنتخبة من مجالس بلدية وقروية ولجان مخيمات .. إتاحة المجال أمام تنظيم انتخابات محلية ديموقراطية للمؤسسات في البلاد
- تسارع الأحداث في المنطقة وتحديداً مع حرب الخليج عام 1990 ، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، أرخى بظلاله على الانتفاضة وفعالياتها التي بدأت تتراجع بالتزامن مع التوجه الدولي نحو عقد مؤتمر لـ « السلام» في مدريد، تشارك فيه كل أطراف الصراع، وبرعاية أمريكية روسية، وتلاحقت التطورات المتعلقة بذلك وصولاُ إلى اتفاقات «أوسلو» عام 1993.