ذهبت الأحداث في العراق إلى منحنى أخر بعيد، خارج سيطرة الحكومة وأجهزتها الأمنية أو العسكرية، وأصبحت بمثابة طلقات نارية شعبية موجهه للأحزاب والقوى السياسية المتحكمة في الأوضاع على مدار الـ16 عام الماضية.
وخلال 24 ساعة فقط، تحولت دوائر احتجاجات محدودة إلى مسيرات وتجمعات وتظاهرات، تكبر مثل كرة الثلج، بحسب محللين سياسيين ومراقبين، بعد أن تصاعد الأمر بفعل التعامل الأمني العنيف الذي جاء بسقوط قتلى وجرحى، لتجتاح التظاهرات المدن الرئيسية الكبرى، وتنتشر في شتى محافظات العراق، بغض النظر عن أي مرجعيات طائفية أو دينية.
وتبدو حتى الآن، أن هذه الاحتجاجات شعبية بالدرجة الأولى، ولا تقف ورائها قوى سياسية بعينها، بل على العكس، فهي تستهدف ما سمي من جانب المتظاهرين، بـ”فساد الأحزاب والساسة” المسيطرين على نظام الحكم بتقاسم السلطة ومن ثم ثروات البلاد، وسط رفع لافتات غضب ضد تردي أوضاع الخدمات وتراجع الوضع الاقتصادي وتفشي البطالة، مما يفسر تصدر الشباب العراقي للمشهد في هذه الأحداث.
ويرى مراقبون ومتابعون سياسيون، في تصريحات خاصة لـ”الغد”، أن ظهور هذه الاحتجاجات وكبر رقعتها بهذا الشكل أمر طبيعي لحالة الفقر التي يعيش فيها العراقيين، والبطالة التي يعاني منها الشباب في بلد ينتج يوميا 5 ملايين برميل نفط.
وفي إطار التحرك الشعبي، وبحسب شهود عيان، تحركت التظاهرات لتتحول إلى كتل بشرية تغلق الطرق المؤدية لمطار بغداد الدولي، بعد انتشار أنباء عن تحرك بعض الساسة والوزراء والنواب إلى المطار لمغادرة البلاد، وبصحبتهم أموال وسبائك ذهب.
وفي سياق متصل، نقل مراسل الغد في بغداد، مشهد هبوط مروحيتين عسكريتين إلى الجزيرة الوسطى المطلة على نهر دجلة، والتابعه للقصر الجمهوري في المنطقة الخضراء، وسط توقعات بقيام المروحيتين بنقل مسؤولين شخصيات أمنية وعسكرية وسياسية من داخل المنطقة، موضحا أن المروحيتين استطلاعا قبل التحرك نحو المنطقة الخضراء، ساحات التظاهرات.
وبالتزامن مع ذلك، أصدر مجلس الأمن الوطني في العراق،مساء الأربعاء، بيانا بشأن جلسته الطارئة حول التظاهرات في بغداد والمحافظات، برئاسة رئيس مجلس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي.
وقال البيان، إن الاجتماع لتدارس الأحداث التي رافقت تظاهرات الثلاثاء وسقوط عدد من الضحايا والمصابين في صفوف المواطنين ومنتسبي القوات الأمنية، مؤكدا على حرية التظاهر والتعبير والمطالب المشروعة للمتظاهرين، مستنكرا الأعمال التخريبية التي رافقت التظاهرات.
وشدد المجلس على اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية المواطنين والممتلكات العامة والخاصة، وكذلك تحديد قواطع المسؤولية للقوات الأمنية”، مشيرا إلى تسخير كافة الجهود الحكومية لتلبية المتطلبات المشروعة للمتظاهرين.
وفي إطار تحليل المشهد العراقي، قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية ببغداد، د. عصام الفيلي، إن ما تشهده العراق من احتجاجات لاسيما العاصمة،نتيجة حتمية من 16 عام من الفشل السياسي، مما جاء بحالات احتقان، بعد أن فقدت النخب، وحل مكانها الأحزاب السياسية، لافتا إلى أن التظاهرات تأخذ منحنى متصاعد، ولن تستطيع الحكومة التعامل معها.
وشدد الفيلي على ضرورة تخرج الحكومة قرارات اقتصادية حقيقة، وتقدم مرتكبي جرائم الفساد للمحاكمات، وأن تمنع من السفر، كل من يتعرض للإدانة في الفساد وأن تضع يديها على أموال الفاسدين، لاسيما أن الأزمة أصبحت كـ”كرة الثلج”، فبعد أن كنا نرى التظاهرات في نطاق ضيق، تكبر الآن في المدن الرئيسية.
بينما أكد المحلل السياسي، فلاح المشعل الكاتب والمحلل السياسي، أن العراق يشهد تطور نوعي في طبيعة الاحتجاجات والتظاهرات التي كانت أمس محدودة في ساحة التحرير وطرق محيطة بها، أما اليوم بعد تشييع ضحايا أمس، انطلقت الاحتجاجات ظهر اليوم بمليوني إنسان في العديد من المناطق المزدحمة بالأهالي، ثم انضمت أحياء أخرى، ليقطع طريق المطار، في محاولة لمنع هروب سياسيين عبر مطار بغداد الدولي، بعد تصاعد أنباء حول هروب شخصيات إلى الخارج.
ولفت إلى أن رئيس الوزراء والحكومة لم يدركوا أنها ثورة، في ظل خروج المواطنين في جميع المحافظات ، مطالبين بإسقاط الحكومة الفاسدة بالعراق، في حين توجد سلطات لم تتعامل برشد مع الشارع العراقي، ولكنها تعاملت تجاهل وإهمال واذلال مع الشارع بإطلاق الرصاص، على الرغم من وجود نماذج سابقة لدول عربية حول العراق، فالثورة هنا انتفاضة شعب، في ظل انقطاع السلطة عن الشارع الذي يرى أن بلاده تنتج يوميا 5 ملايين برميل نفط، ولكن تتصاعد حجم البطالة.
وتابع: “نحن الآن أمام ثورة بريئة شعبية، والسلطة لم تدرك الأمر، على الأقل لم يستمعوا لمطالب الجماهير ، والتزموا بالجلوس في أبراجهم العالية”.
فيما أوضح الكاتب والمحلل السياسي حمزة مصطفى، أن الاحتجاجات الحالية غير مسبوقة، وليت مثل التظاهرات التي شهدتها العراق في سنوات سابقة، والتي كانت تابعة لمرجعيات سياسية أو دينية، أما المظاهرات الحالية، فهي نوع جديد ليس لها قيادة، وقودها من الشباب، والأمر ليس عفوي بعد غضب مكتوم، وتصاعدها وتنقلها من مكان إلى أخر ،يجعل الأمر مختلف.
وأردف:”الحكومة وضعها صعب للغاية والحلول قليلة في ظل سعة المشاكل الكبيرة، وهو خلل متراكم لأن الحكومة الحالية والحكومات السابقة لم تأخذ بجدية حقيقة الأوضاع في ظل ترهل وظيفي وتناقض في توزيع الثروة وعلو سقف الفساد”.
واستكمل: “لا يوجد جهة حقيقية تقف وراء التظاهرات، ولكن هناك تراكم من الفشل في ظل أنظمة سياسية لم توفر للشعب العراقي ما يوعدون به كل 4 سنوات مع الانتخابات، والمحصلة على أرض الواقع ليس لها علاقة بما يقطع من جانب السياسيين، واستخدام القوة سيذهب بالأمر إلى طريق أخر”، مشيرا إلى وجود حلول سابقة أصبحت الآن منتهية الصلاحية، عندما كان الأمر تحت السيطرة، ومن ضمن هذه الحلول، مكافحة الفساد وضبط الأمن وتشريع قوانين كانت مطلوبة من قبل.
