بعد لقاء البرهان ونتنياهو .. سجل المحاولات الإسرائيلية لاختراق السودان
أثار لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، مع رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، في أوغندا، صدمة كبيرة لدى العديد من الأوساط، الداخلية والإقليمية، خاصة بسبب التوقيت الذي أعقب الإعلان عن صفقة السلام، التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
والتقى البرهان نتنياهو دون أن يبلغ مجلس السيادة الانتقالي مسبقاً، وأكد في تصريحات صحفية أعقبته، أن اللقاء سيسهم فى اندماج السودان فى المجتمع الدولي، وأن السودان يعمل من أجل مصالحه دون التعارض مع عدالة القضية الفلسطينية، مؤكداً على وقف التفاهمات مع إسرائيل إذا لم تؤت ثمارها.
وسارع مكتب نتنياهو ليعلن أن رئيس الحكومة الإسرائيلية اتفق مع البرهان على بدء التعاون للوصول إلى “التطبيع الكامل” في علاقة البلدين، إلا أن الحكومة السودانية خرجت لتعلن أن البرهان لم يعد نتنياهو بـ”تطبيع العلاقات”.
تأتي تلك الخطوة في ظل المساعي الإسرائيلية الحثيثة لفرض سطوتها ونفوذها واختراق القارة السمراء عبر تطبيع العلاقات مع الدول العربية وتوثيق العلاقات مع الدول الأفريقية، لتحقيق العديد من الأهداف الاستراتيجية لها، لكن اختيار السودان هو أمر له أبعاد عدة لدى تل أبيب، فالعلاقات مع السودان بالنسبة لإسرائيل كانت لها طبيعة خاصة، تجعل الدولة العبرية تنتظر وتترقب لتجد لها موطئ قدم ثابت في تلك الدولة الأفريقية الكبيرة.
أطوار متعددة في العلاقات
وعن تاريخ العلاقات “السودانية الإسرائيلية”، فقد مرت بعدة مراحل منذ قديم الأزل وحتى يومنا الحالي.
ويروي البعض، أن العلاقات بين الشعب السوداني واليهود قديمة للغاية، مستدلاً على ذلك بروايات العهد القديم التي تحدثت عن التحالف بين مملكة كوش السودانية مع مملكة يهوذا، التي يزعم بوجودها اليهود، في مواجهة الزحف الآشوري، مروراً بزواج بعض يهود واندماجهم في النوبة والسودان خلال عهد الملك قمبيز في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي علاقات ليست واضحة المعالم تاريخياً وتعتمد على رؤية توراتية دينية.
صراع عسكري وتبادل تجاري
لكن العلاقات الواضحة كانت في العصر الحديث، وكانت بدايتها في عام 1948، إذ شارك متطوعون سودانيون في المحاربة ضمن الصفوف العربية خلال حرب 1948 في فلسطين بعد النكبة بإعلان قيام الدولة العبرية، وقتها لم يكن هناك موقف سوداني واضح، إذ لم تمتع السودان بالاستقلال وكانت تحت الاحتلال البريطاني ويحكمها حاكم إنجليزي.
وخلال فترة ما قبل الاستقلال استمرت حكومة السودان في التعامل التجاري مع إسرائيل بشكل طبيعي، وسمحت لطيران “العال” الإسرائيلي باستخدام الأجواء والمطارات السودانية، وتشير وثائق حكومية سودانية من تلك الحقبة إلى وجود تبادل تجاري نشط بين السودان وإسرائيل، فعلى سبيل المثال استورد الكيان الصهيوني مواشي سودانية بمبلغ 760 ألف جنيه إسترليني عام 1950.
إلا أن لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، خاصة مع تزايد أصوات المطالبين بالوحدة مع مصر والانضمام للجامعة العربية في مطلع الخمسينيات، وهو الأمر الذي تنبهت إليه إسرائيل، وقررت التدخل لدعم السودانيين الاستقلاليين.
ومع تعرّض مصر للعدوان الثلاثي في عام 1956، شهدت الخرطوم حالة من التعاطف العارم مع القاهرة، ليصدر البرلمان السوداني قانوناً صارماً استمر حتى اليوم يُسمى بـ قانون مقاطعة إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت اُعتبرت مسألة التعامل مع إسرائيل مسألة ترتقى إلى درجة الخيانة، خاصة مع التورط الإسرائيلي في دعم التمرد في جنوب السودان، والذي استنزف الدولة كثيراً.
ومع مرور الوقت كان الموقف السوداني باتجاه إسرائيل يصبح أكثر تشدداً، حتى وصل الأمر في عهد الرئيس السوداني السابق، جعفر نميري، بتأميم ممتلكات اليهود في حركة واسعة، لم تشمل فقط المؤسسات الاقتصادية وإنما المنازل أيضا، ما أدى إلى هجرتهم إلى خارج البلاد، كذلك انخرطت القوات السودانية في حروبها مع مصر ضد إسرائيل، خلال حربي الاستنزاف والعبور 1973.
يهود الفلاشا.. محطة التقاء
وكشفت بعض الكتابات عن علاقة سرية نشأت بين الرئيس جعفر نميري والإسرائيليين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، حيث عُقد لقاءٍ بين نميري وبين آرئيل شارون في كينيا، وهذا اللقاء هو ما قاد لعملية التهريب الأكبر في التاريخ وهي تهريب يهود الحبشة “الفلاشا” من إثيوبيا إلى إسرائيل برعاية المخابرات السودانية.
ومن بينها ما نشرته صحيفة “يديعوت آحرونوت” الإسرائيلية عن دور نميري في تهريب يهود الفلاشا إلى فلسطين عام 1980 من خلال بلاده مقابل رشاوى مالية كبيرة، وذلك بفضل علاقته القوية بالولايات المتحدة، حيث وافق الرئيس السوداني آنذاك، قبل سنة من الإطاحة به، على طلب الموساد الإسرائيلي بالسماح بمرور الآلاف من يهود الفلاشا والإقامة داخل معسكر لاجئين أقامته إسرائيل على الحدود بين السودان وبين إثيوبيا، قبل نقلهم إلى الخرطوم ومنها إلى تل أبيب عبر مطارات أوروبية، في عملية عُرفت بـ”عملية موسى”.
ولاقى وقتها نميري انتقادات واسعة، حاول وقف التعاون مع إسرائيل على إثرها، إلا أن الموساد واصل أنشطته داخل الخرطوم تحت غطاء شركات اقتصادية، وظل ملف تهريب يهود الفلاشا هو الملف الأكثر سخونة بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنميري، وتم إجراء محاكمات قاسية للمتورطين بها، حتى عام 1989 بوصول العميد في الجيش السوداني، عمر البشير، إلى سدة الحكم إثر انقلاب عسكري عُرف وقتها بـ”ثورة الإنقاذ الوطني” لتدخل العلاقات مع إسرائيل في طور جديد.
المحاربة بعد المقاطعة
كانت السمة البارزة في تلك المرحلة الجديدة هي ترديد الشعارات الراديكالية والإسلامية، والتحول من مقاطعة إسرائيل إلى محاربتها، حيث شهدت تلك المرحلة تأييد ودعم كل أعداء إسرائيل، وشهد تنامي للعلاقات مع إيران وحزب الله وحركة حماس.
خلال تلك المرحلة لم تقف إسرائيل في موقف المتفرج، إذ وصل الأمر بها إلى التدخل العسكري المباشر داخل الأراضي السوداني، ففي أكتوبر 2012 شنت طائرات إسرائيلية هجوماً على مصنع للأسلحة في العاصمة الخرطوم، وعمليات استهداف أخرى لعناصر ذات صلة بالمقاومة الفلسطينية وبحركة حماس، إذ كانت تل أبيب ترى في الخرطوم حاضنة للمقاتلين من التنظيمات الإسلامية الراديكالية.
وساطة لرفع العقوبات
شهد عام 2015 مرحلة جديدة في العلاقات “الإسرائيلية السودانية”، مع الخطوة التي قام بها البشير، إذ قرر المشاركة في عملية “عاصفة الحزم” ضد الميليشيات الحوثية في اليمن، ما اعتبره الكثيرين انقلاباً على إيران، وقتها تمت تصفية العديد من الشبكات التي كانت تدعم المقاومة الفلسطينية سياسياً، وسُمح بمناقشة ملف التطبيع على الهواء في القنوات الفضائية المقربة من الحزب الحاكم.
في تلك الفترة نشرت صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية تقريراً عن وساطة تقوم بها تل أبيب مع الخرطوم لرفع العقوبات الأمريكية كـ مكافأة للابتعاد عن طهران.
وبرغم المباركة والدعم السوداني لمبادرة السلام العربية، والتي تتلخص بأن تطبيع العلاقات بإسرائيل مشروط بإعادة الأراضي ما قبل 1967، إلا أنه يبدو أن هناك مساراً آخر بدأته إسرائيل من جانبها ويلقى قبولاً في السودان، وهو ما تجلى في اللقاء الأخير بين البرهان ونتنياهو.
مصالح إسرائيلية وآمال سودانية
توقيت اللقاء له العديد من الدلالات، إلا أنه لا ينكر الأهمية الكبيرة التي يمثلها السودان لإسرائيل، فنتنياهو يقدم العديد من الأوراق والدعاية الانتخابية له على الساحة الداخلية ترقبا للانتخابات الإسرائيلية المزمعة في مارس المقبل، فبعد أن حصل على المنحة الأمريكية الأكبر، بدأ جولة لزيادة الغنائم قبل العودة إلى الأراضي المحتلة، وزار أوغندا واستطاع إقناعها بنقل سفارتها إلى القدس، كما استطاع عقد لقاء مهم مع البرهان، ليعود بجعبة مليئة بالعطايا السياسية الإسرائيلية.
ويظل السودان ذو أهمية استراتيجية كبيرة لإسرائيل، نظراً لعدة اعتبارات، سواء الموقع المهم، فهي الجارة الجنوبية للدولة المصرية، ودولاً أخرى كجنوب السودان وأوغندا وإريتريا وليبيا كذلك، كما أنها أرض خصبة للاستثمار ذات منافع اقتصادية وفيرة ومكاسب أخرى من بينها السماح للطائرات المدنية الإسرائيلية بالتحليق فوق الأجواء السودانية، على صعيد آخر يمنحها منطقة نفوذ لتزاحم قوى إقليمية أخرى في المنطقة.
كما تسعى تل أبيب كذلك من خلال تدعيم علاقتها بالسودان إلى قطع الروابط التي تجمع الخرطوم بالجبهات المعادية لإسرائيل، إلا أنها تنتظر رفض شعبي قوي داخل المجتمع السوداني، إذ يرفض غالبية الشعب أي تطبيع في العلاقات مع إسرائيل ويؤيدون القضية الفلسطينية.
أما بالنسبة للسودان، فلديه مصلحة كبرى ومُعلنة، وهي رفع اسمه من قائمة الإرهاب، وهو ما حاول فيه كثيراً الرئيس المخلوع “البشير” وبجهود عربية، إلا أنه لم يُكلل بأي نجاح، أما حالياً فهناك فرصة أمام السودان للتخلص من تلك العقوبات، في ظل وجود وسيط له ثقل كبير لدى الإدارة الأمريكية، يمنحه فرصة للتخلص مع عقود من العقوبات التي أثقلت اقتصاده وعزلته عن المجتمع الدولي.