بـ”الأبيض والأسود”.. “البحر من ورائكم” يجسد الواقع العربي
بعد جولات وجوائز عدة في مهرجانات عالمية، منذ عرضه الأول بـ”دبي السينمائي”، عرض مهرجان القاهرة بالمسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، وليومين على التوالي، الفيلم المغربي “البحر من ورائكم”، للمخرج هشام العسري، ضمن مسابقة آفاق عربية بالدورة الـ37 للمهرجان.
الفيلم الفائز بالجائزة الثانية بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وجائزة الجمهور في بروكسل، وعرض ضمن أفلام البانوراما ببرلين، لا يزال قادرا على إدهاش الجمهور، بعيدا عن النمطية التي تسيطر على الكثير من الإنتاج السينمائي العربي، حيث التقنيات الإخراجية الجديدة التي يقدمها “العسري” في تجاربه الثلاث مع الأفلام الروائية الطويلة، بعد أن قدم مجموعة مميزة من الأفلام القصيرة.
يحمل اسم الفيلم “البحر من ورائكم”، الجزء الثاني من مقولة تاريخية لطارق بن زياد، القائل “أين المفر.. العدو أمامكم والبحر من ورائكم”، حيث يجسد الفيلم نوعا آخر من الأعداء يحاصرون الواقع العربي المتطلع للمستقبل، كالقمع والكبت والعنف والقبح، كما يحضر القائد الإسلامي الفاتح، في الحوار الذاتي الهامس لبطل الفيلم “طارق”، ويقوم بدروه الممثل المغربي مالك أخميس.
وإذ نغوص إلى داخل العالم الذاتي لـ”طارق”، نمضي تحت آفق مفتوح على الأبيض والأسود فقط، ولا مجال لأي لون آخر في الفيلم عدا نهايته المطلة على شاطئ البحر، ليبدأ الصراع بين الثنائيات منذ لقطات الشريط الأولى حتى نهايته، بعد 88 دقيقة من سيطرة الرمز، والمواجهة العنيفة مع القمع، بكشفه وتعريته على شاشة السينما، حيث مساحات من الأسود تأكل الأبيض، وغلبة للمدنس على المقدس، القبيح على الجميل، العنف والكراهية على الحب.
وتسيطر الرغبة في الانتقام على “طارق”، بعد مقتل طفليه واغتصاب زوجته، ويسيطر عليه شعوره بالعجز بالمقدار نفسه، عجز عن رد فعل يتناسب والأزمات التي يمر بها، عجز عن الشعور بالحزن، والذي يصبح هاجسه وغاية بحثه، في عالم كابوسي يقرر فيه أن يصبح راقصا على عربة خشبية جوالة يقودها أبيه وحصانه المريض، والذي يدعى “عربي”، مرتديا زيا نسائيا، يرقص بوجه يكسوه “المكياج”، ويتصدره الشارب الكث، بينما تمثل الشخصيات المحيطة به، كل ما هو شاذ عن المألوف أو المتعارف عليه، وكأنهم محض انعكاسات للقمع والكبت اللذين يعتملان داخل “طارق” ويحاصراه ليدفعوه إلى الجنون.
قدم “العسري” القبح والعنف والقمع والشذوذ عن المألوف في صورة إبداعية مبهرة وصادمة في كثير من الأحيان، زاد من ألقها ووضوحها رغم غياب الألوان، القدرة على الترميز، حيث مثلت كلا من الشخوص والحركة والموسيقى في المشاهد -السريالية حد وصف الكثير من النقاد- رمزًا تعبيريًا عن ذي دلالات متعددة، ليفتح آفاقا واسعة للتأويل والتفسير، لا تحدها الكادر.
يذكر أن هشام العسري مخرج الفيلم، حقق نجاحات من خلال أفلامه المميزة، وحاز فيلمه الثاني “هم الكلاب” العديد من الجوائز، من بينها جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة أفضل ممثل في مسابقة المهر العربي في الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي، وجائزة أفضل فيلم روائي طويل في الدورة العاشرة لمهرجان السينما الإفريقية في قرطبة، والجائزة الفضية للأفلام الطويلة ضمن الدورة الـ25 لأيام قرطاج السينمائية.
