تحول الجمهوريين.. الحزبية وتراجع الحكم الأمريكي

 

 

جاكوب هاكر وبول بيرسون ـ «فورين أفيرز»

ترجمة خاصة لـ «الغد» ـ نادر الغول

لقياس حجم فوضى رئاسة دونالد ترامب، يبدو أن لا أحد في واشنطن بعد أشهر قليلة من أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة يتذكر الآن ذلك الإغلاق.

 

لقد تحول الجمهوريون في الكونغرس بسلاسة من دعم قرار الإغلاق الذي الذي ألحق ضررا غير مبرر بالاقتصاد، وبناء الجدار الحدودي الذي لا يحظى بشعبية، إلى الاستسلام بعد إعلان ترامب حالة طوارئ مزعومة لاغتصاب السلطة الدستورية للكونغرس. والآن عادوا للدفاع عن جهوده لإحباط التحقيق المستقل في الربط بين حملته الانتخابية ٢٠١٦ وقوة أجنبية معادية حاولت تخريب الانتخابات.

 

يبدو الحكم الأميركي في أسوأ أحواله. ولكن الأزمة لم تبدأ مع تولي ترامب منصبه. فلو ربحت هيلاري كلينتون الانتخابات في العام ٢٠١٦، لكانت واشنطن بالكاد متناغمة. وعلى العكس، ستكون غارقة في نسخة أكثر كثافة من السياسات المدمرة التي ابتليت بها رئاسة أوباما بعد ٢٠١٠. وحلول المشاكل الأكثر إلحاحا على المستوى الوطني، كانت لتبقى عالقة في الصراع الحزبي. كذلك الاهتمامات الضيقة والقوية، كانت ستظل محور النقاشات والقرارات. ولكن الاستياء الشعبي المتجذر في التحولات الاقتصادية والديموغرافية، ويزكيها اولئك الذين يسعون إلى ترجمة غضب الناخبين من أجل كسب المزيد من التأييد، ستبقى تؤرق الانتخابات وآليات الحكم.

 

لجيل مضى، قدرة الولايات المتحدة على تسخير السلطة الحكومية من أجل تنفيذ سياسات عامة، كانت تنحدر بشكل سريع، حتى مع تزايد الحاجة إلى إدارة فعالة في عالم معقد ومترابط. إن كل جوانب الأزمة الحالية هي جزء من أزمة تحول طويلة. في العام ٢٠١٧ على سبيل المثال، انسحبت إدارة ترامب من اتفاق باريس المناخي، ولكن قرار ترامب يعكس قصر النظر الأميركي،  وهو مثال آخر على نهج البلاد غير المتوازن حول موضوع التغير المناخي.

 

الجدل المتزايد الحالي حول موضوع المهاجرين يعكس فشل البلاد خلال الثلاثة عقود الماضية للوصول إلى إجماع لايجاد صيغ وحلول لإصلاح قوانين البلاد البالية بخصوص الحدود والتجنيس. زيادة عدد الوفيات المتزايد بين البيض الأميركان ليست كلها عوامل مرتبطة بانتخاب ترامب، بل هي عوارض انهيار فعلي لقدرة الحكومة الفيدرالية على معالجة المشاكل العامة الكبرى.

 

أين أخطأنا؟.. السرعة المتزايدة في عدم المساواة، الفوارق الاقتصادية المحلية، التغييرات الديموغرافية، كلها عوامل لعبت دورا في هذه الأخطاء. ولكن هناك عامل أساسي يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في انهيار النظام السياسي الأميركي، هو الحزب الجمهوري. خلال العقدين ونصف العقد الأخيرين، شهد الحزب الجمهوري طفرة التحول من حزب محافظ تقليدي إلى قوة معادية تهدد الأعراف ومؤسسات الديمقراطية الأميركية. إذا كان للأميركيين القدرة على إعادة تسخير القوة للديمقراطية والأسواق من أجل الصالح العام، فيجب أن يكون لديهم صورة واضحة لما آلت إليه الأمور في الحزب الجمهوري.. ولماذا؟.

 

من العصر الذهبي إلى عصر الانكسار

 

حتى مع وجود قيادة حكيمة، العقود القليلة الماضية كانت لتنتج تحديات كبيرة. مثل كل الدول الغنية، الولايات المتحدة مرت بتحولات متواترة، من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد المعرفة ما بعد الصناعي. ومع تراجع النقابات، إلغاء التنظيم المالي، تراجع الحكومة عن مكافحة الاحتكار، كان التحول والثروة يميلان باتجاه هؤلاء في أعلى الهرم الاقتصادي. أضف إلى ذلك، تركيز النمو في المدن على حساب المناطق الريفية والبلدات الصغيرة. وبالرغم من التباين في عدم المساواة كان الإصلاح الهيكلي أكثر إلحاحا، الكثير من البيض الأميركيين يرون أن الولايات المتحدة تسير بشكل حتمي إلى أغلبية الأقلية (حسب مركز الإحصاء الأميركي، فإن البيض بحلول عام ٢٠٤٢ سيصبحون أقلية عرقية مقارنة بالسود واللاتينيين ـ إضافة شخصية لتوضيح السياق) وهو ما يعتبرونه التهديد الأكبر.

 

المؤسسات السياسية الأميركية شكلت دائما عاملا اشكاليا لمن يحاول تناول هذه القضايا. نظام الولايات المتحدة المبني على الضوابط والتوازنات، فصل السلطات والدوائر المختلفة من الإدارات، يتطلب مستوى عاليا من المساومات. تاريخيا، النظام ساهم وسهل الحلول السياسية الوسطية، بسبب الاحتكاكات والتشرذم، وشجع على زيادة المصالح ووجهات النظر المتباينة بدلا من السماح بظهور خلاف أو انشقاق واحد مركزي ومهيمن. مع استثناءات نادرة وغير سارة، كما في الفترة التي سبقت الحرب الاهلية، أظهر الحزبان الرئيسيان انقسامات داخلية كبيرة سمحت بالمساومات داخل الحزب الواحد.

 

وهذا لم يمنع من ظهور تحالفات متينة من وقت لآخر، تجاوزت الفجوة الحزبية. وسمحت هذه الانقسامات الكبيرة والشاملة لعدة مسؤولين حكوميين بالتغلب على توجهات النظام السياسي الجامدة، ومواجهة العديد من التحديات التي واجهتها الأمة (وإن كان ذلك في كثير من الأحيان بشكل غير ثابت).. هذه التحولات ساهمت في أن تكون الولايات المتحدة واحدة من أغنى وأكثر المجتمعات صحة وتعليما رآها العالم.

 

ليس بعد الآن، كل عنصر من عناصر الأزمة السياسية الحالية، من الدوائر الانتخابية إلى المناطق الصناعية، من المسؤولين الحكوميين إلى مؤسسات مناصرة القضايا العامة، إلى الجمهور ووسائل الإعلام، أصبحت تصنف زرقاء (ديمقراطية) أو حمراء (جمهورية). علماء السياسة مازالوا يناقشون إن كان ما يحدث هو استقطاب ايديولوجي. وعليه فإن الخلاف الحزبي يعكس مفاهيم وقيم ورؤى عالمية مختلفة، أو أنه مجرد تجاذبات حزبية لمجتمع متنوع وغير متكافئ. ولكن هذا النقاش ثانوي بالنسبة للتغيير الأساسي. سابقا كانت الانقسامات الثقافية والعرقية والإثنية والجغرافية تتقاطع مع الأحزاب، أما اليوم فهي الحزبية على طول الطريق.

 

في هذا السياق المتغير، نقاط الضعف السابقة والصامتة في النظام السياسي الأميركي ، أصبحت متصدرة، مثل التعظيم الذاتي للرئيس ترامب الذي لا يتقيد بقواعد ضبط النفس أو قرارات فروع الحكومة الأخرى، وعدم وجود دور واضح للمحاكم الفيدرالية التي أصبحت مليئة الآن بقضاة حزبيين مسلحين بتعيينات لمدى الحياة، تسييس الدولة الإدارية المتراجعة، الفرص اللامتناهية لعرقلة عمل مجلسي الكونغرس، أو ميل مجلس الشيوخ نحو الولايات الريفية.

 

على الرغم من أن حكومات الولايات والمدن غالبا ما تتمتع بحرية أكبر في إدارة شؤونها، الآن الحزبية الشديدة على المستوى الفيدرالي تكون عقبة أمامهم وتدفعهم أيضا نحو حكم أكثر استقطابا وأقل فاعلية. أصبحت مختبرات الديمقراطية مختبرات للانقسام، واختبار للنهج السياسي، والخرائط الانتخابية، وقواعد التصويت مصممة بشكل صريح لتعطيل جانب واحد من الخلاف الحزبي.

 

باختصار، النظام السياسي الأميركي مازال بحاجة إلى مساومات أكثر دون تسهيل هذه المساومات. على النقيض من ذلك، فإن النظام يخلق حلقة مفرغة من الاستقطاب، حيث تحاول القوى الحزبية مواجهة الحواجز المؤسساتية وتخرج من حالة التصادم إلى أبعد من ذلك ومحاولة هدم هذه المؤسسات.

 

التطرف الأكبر

 

إن تعريف الاستقطاب كما هو حاصل الآن، يخفي الحقيقة التدميرية لهذا الاستقطاب. تتبادل النخب فكرة أن الحزبين هما وجهين لعملة واحدة، كما لو أن كلاهما يسيران بخطى متوازية في الهامش السياسي، مبتعدين عن القواعد والمبادئ للعمل الحزبي. ولكن هذا لم يحدث، جوهر المشكلة الأساسي ليس استقطاب متكافئ ولكن استقطاب غير متماثل. الحزب الديمقراطي يسير بخطى متواضعة نحو اليسار، وذلك غالبا بسبب انخفاض حضور الحزب في الجنوب الأميركي. ولكنه يسعى جاهدا لإيجاد حلول ومنفتح على المساومات الحزبية. على سبيل المثال، الرئيس السابق أوباما وقع قانون الضمان الاجتماعي، الذي تعرض ويتعرض للهجوم من قبل الجمهوريين، على الرغم من أن جزءًا  كبيرًا من القانون كان بالأساس مقترحا جمهوريا. على الجانب الآخر، فإن الحزب الجمهوري يسير بخطى سريعة نحو اليمين، وأصبح يمثل قوة راديكالية تشويشية لا يستطيع النظام السياسي الأميركي إحتوائها، وليس لديه القدرة على ذلك.

 

هذا النهج سبق وصول ترامب إلى السلطة. أربع سنوات قبل أن يصبح ترامب بطل الحزب الجمهوري، اثنان من متابعي السياسة المرموقين في العاصمة واشنطن، توماس مان و نورمان اورنسشتين، توصلا إلى استنتاج أن الحزب الجمهوري أصبح “متمردا غريبا.” كما لو أنهما يرثيان الحزب الجمهوري، وذهبا أبعد من ذلك حين قالا: “إن الحزب أصبح متطرفا وايديولوجيا يزدري النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتوارث، والتسويات السياسية، ولا يهتم بالفهم التقليدي للحقائق والأدلة والعلوم، ويرفض شرعية المعارضة السياسية، يزدري كل شيء ما عدا إعلان الحرب على الحكومة”.. حتى هذا التوصيف القاسي يبدو معتدلا. مصوتوي وسياسيو وناشطو الحزب الجمهوري يحتشدون لقائد يقوم بلا هوادة بهجوم مسموم على العرق، الهجوم على حرية الإعلام، انتقاد غير مبرر لحكم القانون. المشكلة ببساطة ليست القول إن الجمهوريين انتقلوا إلى اليمين أكثر من انتقال الديمقراطيين إلى اليسار، بل هو عدم التناسق الواضح في أنماط التصويت داخل الكونغرس، وآليات اختيار كل حزب لمرشحي الرئاسة ونائب الرئيس والقضاة.

 

المشكلة أيضا، أن الجمهوريين مستعدون لاستخدام ما يسميه عالم القانون مارك توشنيت “استغلال الإجراءات من أجل مكاسب سياسية تتناقض والأعراف السياسية”.. منذ تولي رئيس مجلس النواب الأسبق نيوت جينجريتش رئاسة المجلس في التسعينيات من القرن الماضي، الجمهوريون في واشنطن استخداموا استراتيجيات مصممة من أجل تعطيل ونزع شرعية الحكومة، ومنها استخدام المماطلة في مجلس الشيوخ، والاغلاقات الحكومية المتكررة، ومحاولات أخذ الاقتصاد كرهينة من أجل منع زيادة سقف الدين العام، وعدم الرغبة في قبول التعيينات الديمقراطية في بعض المناصب الرئيسية، وآخرها حالة مارك جارلاند الذي رشحه أوباما في سنته الأخيرة لعضوية المحكمة الدستورية العليا.

 

الأمور ليست أفضل حالا على مستوى الولايات، حيث أصبحت السياسات المعادية للديمقراطيين وحزبهم تأخذ طابعا لا ديمقراطيا. في ولاية تكساس، قام الجمهوريون بإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية من خلال إعادة توزيع مقاعد مجلس النواب بعد خمس سنوات فقط من التقسيم الأخير لهذه الدوائر، بدلا من اتباع القواعد المتبعة وانتظار انتهاء التعداد السكاني الذي يجري كل عشر سنوات. في ولايتي نورث كارولينا وويسكونسن، مجلس نواب الولاية الذي يسيطر عليه الجمهوريون قام بسحب صلاحيات من حكام الولاية الذين ربحوا الانتخابات ٢٠١٨. في ولاية تلو الولاية يحاول الجمهوريون بشكل ممنهج منع الشباب ومحدودي الدخل وغير البيض من التصويت لأنهم غالبا لن يدعموا الحزب الجمهوري. وفي ولايات أخرى الغى المسؤولون الجمهوريون مبادرات وقوانين صوت عليها الناخبون، مثل توسيع الرعاية الصحية (ولاية ماين) ومنع المجرمين والمحكومين السابقين من التصويت (ولاية فلوريدا) وقانون أخلاقيات تمويل الحملات الانتخابية (ولاية ساوث داكوتا).

 

توجه الحزب الجمهوري إلى الراديكالية يعني أنه لم يعد حزبا محافظا تقليديا. الحزب أصبح يمتلك الآن خصائص ما يسميه علماء السياسة المقارنة “حزب ضد النظام”، حزب يسعى إلى إثارة النزعة القبلية وتشويه الانتخابات، تدمير المؤسسات والقواعد السياسية. هذه الخصائص ظهرت لدى الحزب الجمهوري قبل انتخاب ترامب بفترة طويلة، ولكن هذه الخصائص زادت حدتها في ظل رئاسته.

باختصار، فإن صيغة الرئيس المؤسس جيمس ماديسون لضمان الاعتدال لم تعد تعمل. بدلا من ردود فعل معتدلة، أصبح التطرف اليميني يعزز نفسه. أصبحت المواقف التي كانت في الماضي هامشية لدى المحافظين الأميركيين، مقبولة أولا ومن ثم عقيدة لهم. أكثر من أي وقت مضى، الحزب الجمهوري ينفي التغير المناخي، عدائي تجاه دولة الرفاه الاجتماعي والدولة، ملتزم بتخفيض الضرائب عن الأثرياء، مواقف تجعل الحزب الجمهوري غريبا، حتى بين الأحزاب المحافظة في الديمقراطيات الغنية.

 

رئاسة ترامب عززت طبيعة التمرد لدى الحزب الجمهوري، فلقد قام هو وحلفائه بشن هجوم على أسس الديمقراطية والإعلام والمحاكم والقضاء والمعارضين السياسيين، بدون أي تحفظ أو محاولة التخفيف من قبل قيادة الحزب. تثير هذه المواقف المتفجرة شبح التراجع الديمقراطي الذي بدا مستحيلا قبل سنوات. ومع ذلك، فهم أقل انحرافا عن مسار الحزب في التاريخ الحديث، وإنما هم يسرعون مسيرته في طريق ينذر بالمخاطر.

 

ماذا حدث؟

 

التفسير المعياري يقول إن الحزب الجمهوري أصبح راديكاليا بسبب العرق والثقافة، وهي نفس الرؤية التي دفعت الشعبوية اليمينية في الديمقراطيات الغنية الأخرى. التشابه بينهم حقيقي، ولكن اليمين المتطرف في الولايات المتحدة يختلف عن المد اليميني في الدول الأخرى لسببين:

 

ـ أولا: مدفوع بالغضب الشعبي الراديكالي الذي يغذي الحزب الجمهوري، ومعتمد على شبكات قوية لديها الدعم المالي ومرتبطة بالحرس القديم في الحزب. “الأخوة كوخ” أصحاب الامبراطورية النفطية الشهيرة يجمعون الكثير من المال من أغنياء في قمة المحافظة، بنوا من خلالهم حزب ظل. فمن خلال مؤسسات مثل “الأميركيين من أجل الرخاء” قاموا بصرف بضعة مليارات من الدولارات على مدار العقد الماضي في حشد القواعد الشعبية والقيام بحملات انتخابية نيابة عن الجمهوريين اليمنيين المتطرفين والسياسات اليمينية المتشددة مثل قانون تخفيضات الضرائب الذي أقره ترامب. وشهدت غرفة التجارة الأميركية القوية توسعا هائلا، وانتقلت إلى أقصى اليمين وأصبحت جزءا لا يتجزأ من منظومة الحزب الجمهوري. وفعل “مجلس التبادل التشريعي الأميركي” الشيء نفسه على مستوى الولايات. وعلى الرغم من أن بعض المجموعات مثل الرابطة الوطنية للبنادق ومنظمات الكنيسة الانجيلية البارزة، تعزز المحافظة الاجتماعية، فإن التركيز الرئيسي هو على السياسات الاقتصادية التي تزيل القيود المفروضة على الأعمال وتخفيض الضرائب على الشركات والأثرياء.

 

ـ ثانيا: قوة تنظيم هذا الجماعات. الحزب الجمهوري يتبنى مخاوف الطبقة الغنية ويرفض المخاوف بشأن عدم المساواة إلى حد لا يمكن مقارنته بالأحزاب اليمينية في الخارج. عادة ما يكون الشعبويون اليمينيون شوفينيي دولة الرفاهية، ويدافعون عن فوائد أكبر للعمال المحليين. الجمهوريون ليسوا مثلهم، فهم يرفضون قانون أوباما للتأمين الصحي وتخفيض الضرائب، أولوياتهم الاقتصادية غير شرعية وغير شعبية بشكل جذري. حتى مصوتو الحزب الجمهوري لا يريدون تقليص التأمين الصحي للفقراء، أو حتى إنهاء الحماية التأمينية للمرضى الذين يعانون من أمراض مسبقة (هذا الشرط يعتبر أفضل بنود قانون التأمين الصحي لأوباما، حيث كانت شركات التأمين ترفض منح شخص مريض بالسرطان مثلا تأمينا صحيا لأنه سيكلفها الكثير من المال ـ إضافة شخصية للتوضيح). وهؤلاء الناخبين لا يريدون تخفيض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى. ربح ترامب ترشيح الحزب الجمهوري في جزئية أنه لمح إلى سياسات اقتصادية معتدلة. ولكن مع وصوله المكتب، ازدحمت إدارته بعدد من المحاربين القدامى في شبكة الأخوين كوخ وجماعات الضغط ورجال الأعمال المتعاونة مع النخب الجمهورية. مع بعضهم تحالفوا لفرض أجندة اقتصادية لحكومة بلوتوقراطية (حكومة الأغنياء)، مقوضة قدرة الحكومة على معالجة المخاوف الوطنية.

 

وللحفاظ على القاعدة الانتخابية للحزب، ركزوا على الخلاف الحزبي وعلى قضايا لا اقتصادية وخاصة الموضوع العرقي. إن تحويل رد الفعل الشعبي الشعبوي إلى نظام حكم بلوتوقراطي يكون أسهل بوجود شبكة إعلامية يمينية كبيرة. وسائل الإعلام ليست يمينية عادة، ولكن آلة الغضب الشعبي أكبر بكثير وأكثر نفوذًا وأقل هدوءًا، بسبب الأصوات المحافظة.

 

في الحقيقة، إن النصر الأكبر لوسائل إعلام اليمين المتطرف هي قدرتها على التشكيك بمصداقية مصادر المعلومات الأخرى. لقد تم إفراغ المجال من وسائل الإعلام اليمينية الوسطية، وسائل إعلام اليمين المتطرف استطاعت حجز مكان لنفسها متفوقة على مصادر الإعلام الرئيسية التي تحاول الالتزام بمعايير الدقة واللاحزبية. إن استهلاك الأخبار من قبل القاعدة الجمهورية أصبح محصورا في عدد من المواقع الراديكالية، وخاصة قناة فوكس الإخبارية، والتي تعتبر تلفزيون إدارة ترامب. عزل الإعلام بهذه الطريقة يشجع على المواجهة والسياسة القبلية لدى الحزب الجمهوري.

 

العامل الأساسي المساهم في تطرف الحزب الجمهوري كان الجغرافية الانتخابية، خلال الربع قرن الماضية، حيث تركز الازدهار في المدن والمناطق الساحلية، المناطق الريفية وغير المدنية أصبحت أكثر جمهورية والمناطق المدنية أكثر ديمقراطية. هذه لم يعزز فقط الانقسام السياسي والجغرافي، ولكنه منح الجمهوريين أفضلية انتخابية، لأن النظام الانتخابي الأميركي وحصة مجلس الشيوخ غير المتوازنة، والنظام الفردي، والمجمع الانتخابي يكافئ الأحزاب التي ينتشر مؤيدوها على نطاق واسع عبر مساحات شاسعة من الأراضي ذات الكثافة السكانية المنخفضة.

 

لا يوجد مثال أكثر وضوحا لهذه الميزة الريفية أوضح من آليات انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ وأفضليتها الكبيرة للأشخاص الذين يعيشون في ولايات ذات كثافة سكانية متدنية. وهو ما أوضحه الناشط المناهض للضرائب غروفر نوركويست بشكل رياضي خلال مؤتمر “العمل السياسي المحافظ” قبل سنوات قائلا: “بينما لا نقوم بإعادة تقسيم الولايات. الأشخاص الظرفاء الذين رسموا خريطة الولايات المتحدة بطريقة يكون لدينا هذه الأشكال المربعة الجميلة من الولايات في الغرب مع ثلاثة أشخاص يقطنون بها، اثنان منهم أعضاء مجلس شيوخ والثالث عضو مجلس نواب”.

 

نفس المشكلة موجودة في آليات انتخاب أعضاء مجلس النواب، ولكن بطريقة أقل وضوحا. ناخبو الحزب الديمقراطي يتمركزون في المدن الكبيرة والمزدحمة مهدرين أصواتا عن طريق هوامش الربح في المناطق الحضرية. في حين يفوز الحزب الجمهوري الذي ينتشر مؤيدوه بكفاءة أكبر عبر الدوائر الانتخابية، بعدد أكبر من المقاعد بهامش ربح بسيط. التركز في المدن لا يساعد الديمقراطيين على مستوى الولايات أيضا، مانحة الجمهوريين أفضلية على مستوى كونغرس الولايات، مستغلين هذه الأفضلية في إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بما يخدم تقدمهم.

 

وعليه فإن التحيز يغذي تحيزًا آخر، مما يسمح للحزب الجمهوري الاستهزاء بمشاعر الأغلبية مع الحفاظ على سلطته السياسية أو حتى توسيعها. في انتخابات مجلس النواب الأخيرة، تجاوز نصيب الجمهوريين من مقاعد الكونغرس نصيبهم من أصوات الحزبين بحوالي خمسة بالمئة. في انتخابات ٢٠١٢، ربحوا أغلبية مجلس النواب بأقلية الأصوات. وبتنظيم أكثر، حقق الجمهوريون أغلبية في مجلس الشيوخ مع أقلية من الأصوات المنتخبة على مستوى البلاد (تحسب عن طريق جمع الأصوات من الدورات الانتخابية الثلاث التي تحصل كل عامين والتي تنتخب مجلس النواب بأكمله). الجمهوريون لم يخسروا التصويت الشعبي فقط في الكونغرس ولكن الانتخابات الرئاسية السبعة الأخيرة خسر الحزب ستة منها بالتصويت الشعبي. وعلى الرغم من هذه الخسارات الكبيرة المتكررة شعبيا، قضاة المحكمة الدستورية العليا المحافظين لديهم الأغلبية هناك، حيث مكنوا الجمهوريين من تزوير الانتخابات في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري (عن طريق إبطال شرط رئيس في قانون حقوق التصويت)، تمكين القوى البلوتوقراطية التي تقف وراء الحزب الجمهوري (عن طريق التخفيف من لوائح وشروط تمويل الحملات الانتخابية، ودعم الهجوم المركز على النقابات العمالية التي تعاني من الأساس).

 

والآن المحكمة العليا، يبدو أنها ستسمح لإدارة ترامب بإضافة سؤال حول الجنسية في استبيان حصر السكان ٢٠٢٠، إجراء تم تحقيقه من خلال التحايل على الإجراءات المتبعة والتي يعترض عليها مسؤولو مكتب الإحصاء الوطني. (الاعتراض يكمن في أنه يطلب من الشخص الإجابة على سؤال إن كان الشخص يحمل الجنسية الأميركية، وعليه يفترض المعارضون للسؤال أن عددًا كبيرا من المهاجرين وخاصة غير الشرعيين سيرفضون ملء الاستمارة وبالتالي فإن الإحصاء سيعطي معلومات غير دقيقة عن عدد السكان، وعليه فإن إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية الذي يجري بعد كل عملية إحصاء سوف يخدم الجمهوريين على حساب الديمقراطيين، كون أغلب المهاجرين يدعمون الحزب الديمقراطي ـ إضافة شخصية لتوضيح الإشكال حول السؤال) وعليه بشكل مؤكد سيخفض عدد المواطنين الأميركيين وبالتالي التمثيل الانتخابي للحزب الديمقراطي.

كل هذه التوجهات تغذي بعضها الآخر. ومع ازدياد عدم المساواة، فإنها قوت النخب الاقتصادية ومنحت حلفاءهم السياسيين حافزا لاستبدال الاستياء المناهض للمؤسسة الرسمية من أجل ازدهار حقيقي. يستحق الديمقراطيين بعض اللوم هنا، كلا ادارتي كلينتون وأوباما فعلتا القليل لمعالجة الاختلالات الناجمة عن التجارة أو الفوارق الجغرافية المتزايدة في العائد المادي. ولكن العائق الأكبر من أجل نمو اقتصادي حقيقي هو الحزب الجمهوري. في ظل غياب استجابة فاعلة، أثبتت الأماكن التي خلفها عدم النمو الاقتصادي، تضاريس خصبة للتشجيع على الخوف من قبل وسائل إعلام يمينية والحملات الانتخابية المتزايدة للجمهوريين. كما أن الجمهوريين أبعدوا الأقليات العرقية والإثنية التي تشكل نسبًا متزايدة من الناخبين، ووجدوا أنفسهم غارقين في استراتيجية مضادة للأغلبية، من إعادة توزيع الدوائر الانتخابية، وتقييد التصويت، وتشجيع التدخلات العدائية من قبل القضاة المحافظين، التي لم تقوض الحكم الفعال وحسب، بل تقوم بتقويض التمثيل الديمقراطي ككل.

 

كسر حلقة الخطر

 

ما الذي يمكن أن يعزز عمل الديمقراطية بشكل أفضل؟.. من الصعب رؤية طريق أو مسار واضح لديمقراطية فاعلة لا تتضمن الرفض الانتخابي الحاد. الحزب الجمهوري رُفض انتخابيا في الانتخابات النصفية الأخيرة ٢٠١٨. ولكن حتى مع هكذا رفض انتخابي، فإن أي رئيس ديمقراطي، مهما كان وسطيا ويقبل المساومات، سوف يكون عرضة لانتقاد ومعارضة قوية من قبل الجمهوريين في الكونغرس والإعلام. يضمن التحيز الريفي الصارخ والمتنامي في مجلس الشيوخ استمرار سيطرة الحزب الجمهوري بالرغم من محدودية الدعم الشعبي، أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين سيكونون مسلحين بالمماطلة التشريعية، لعلمهم أن اعاقة تمرير القوانين والتشريعات ضمنت لهم سابقا مكاسب سياسية.

 

أي رئيس ديمقراطي قادم سيواجه محكمة دستورية عليا محافظة، من بين أعضائها الجدد أعضاء في جمعية “المجتمع الفيدرالي” مع مزيج من النزعة الاجتماعية المتطرفة والتحررية على غرار آين راند (وهو ببساطة أن الأحرار Libertarian يؤمنون بالحق الشخصي في الاختيار، مع الإبقاء على الطابع المحافظ، ولكن اختلاف راند معهم في نقطة رئيسية هي أنهم بحاجة إلى حكومة، وهو أمر يرفضه الأحرار. أشهر أعضاء الأحرار هما الأب والابن رون وراند بول عضوامجلس الشيوخ ـ  إضافة شخصية للتوضيح).

 

قبل تعيين هؤلاء القضاة من قبل ترامب، ستواجه الإصلاحات في مجلس النواب الديمقراطي (على فرض أنه لن يكون هناك أية مماطلة جمهورية) مصيرا غير مؤكد، مهما كانت شرعيتهم الدستورية. بقدر ما يبدو الوضع قاتما، هناك أسباب تدعو للتفاؤل الحذر. أولا، أن الإدارة الفعالة، التي يقودها الاجماع الشعبي الحقيقي، بإمكانها إنجاز الكثير. هذه الإنجازات المحتملة، بالمقابل يمكنها خلق فرص للسياسيين الذين يملكون المهارات لبناء تحالفات سياسية أوسع. لنأخذ مثلا، الاتجاه في الولايات المتحدة لتبني قانون ضمان صحي قريب من الأنظمة المتبعة في الخارج سيخفف الضغط على ميزانيات القطاع العام والخاص، بينما يخفف عدم المساواة ويجعل الملايين من الأميركيين أكثر صحة. التغير المناخي لا يمثل خطرا وجوديا فحسب، ولكن يمثل فرصة ملهمة لخلق المزيد من الوظائف الجيدة لإعادة بناء البنى التحتية المنهارة للولايات المتحدة. وخلق ثورة تكنولوجيا في مجال الطاقة النظيفة والخضراء.

 

والأكثر من ذلك، أن سياسات الحزب الجمهوري، مثل التخفيضات الضريبية لعام ٢٠١٧، التي بموجبها منح الأغنياء أرباح واموال اكثر، يمكن عكس القانون وأن تكون هناك استفادة أوسع للجميع. باختصار، المشكلة لا تكمن في شح الأفكار الجيدة، بل النظام الذي لا يستطيع تحويل هذه الأفكار إلى حقائق.

 

والسبب الآخر الذي يدعو للتفاؤل، يكمن في الأعداد المتزايدة من السياسيين وصناع القرار الذين لاحظوا أن الأولوية تتمثل بتطوير النظام الانتخابي والسياسي الذي عفى عليه الزمن. بعد انتخابات ٢٠١٨ النصفية، مجلس النواب الديمقراطي وضع حزمة من هذه الإصلاحات، قانون H.R1، على رأس أجندته التشريعية. الإصلاحات المقترحة في المقام الأول ستزيد الإقبال الانتخابي، تحجيم إعادة رسم الدوائر الانتخابية، تحجيم دور المال السياسي في الانتخابات. الأكثر أهمية من هذه التفاصيل، هو حقيقة أن الاصلاح السياسي يمثل الصدارة في التوجه التقدمي للحزب الديمقراطي. العامل المشترك بين هذه الإصلاحات، هو أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية ومن يكسب التصويت الشعبي يحكم. ينبغي أن تكون فرص الأقلية لعرقلة سن القوانين محدودة، وينبغي تعزيز قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات عامة مهمة. بعد كل شي، فإن القطاع العام الذي يفتقر إلى التمويل والخبرة اللازمة لتنفيذ سياسات طموحة، هو القطاع العام الذي يثبت حجج أولئك الذين يحاولون شله.

 

سيتبقى الإصلاحات تواجه معارضة شديدة عند كل منعطف، ولكن إذا تم حماية الديمقراطية، فلن تتمكن قوى الرد من الفوز للأبد. يزداد التسامح الاجتماعي، خاصة بين الشباب، ورئاسة ترامب سرعت من هذه الزيادة. أضف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة تنمو أقل بياضا، وأقل ريفية مع كل عام. انتخابات ٢٠١٨ اظهرت أن ترامب حفز الناخبين الشباب البيض وغير البيض وحفز خصومه على التنظيم وإعادة التموضع للدفاع عن القيم الديمقراطية. الحزب الجمهوري اتجه إلى استراتيجية الاستقطاب ومعاداة الأغلبية، وذلك لعلمه أنه في سباق مع الزمن. مع كل دورة انتخابية، تتقلص قاعدة التصويت القديمة والبيضاء للحزب. وعليه فإن جاذبية الجمهوريين باتت تجذب أعدادا أقل وأقل. إن خطاب الحزب الجمهوري يستحضر ماضيا اسطوريا، لأن الحزب بصيغته الحالية لا يمكنه البقاء في مستقبل ديمقراطي.

 

إن الحكم الفعال بعيد المنال، ليس لأن المشكلات التي يواجهها الأميركيون غير قابلة للحل، ولكن لأن الاستقطاب المتزايد قد اصطدم بمؤسسات سياسية قديمة غير مؤهلة للتعامل مع حزب جمهوري متطرف. إصلاح هذه المؤسسات لن يكون سهلا، ولن ينتقل الجمهوريون بشكل طبيعي نحو الوسط، ولكن هناك قوى قوية تضغط من أجل التغيير. هناك فرص كثيرة لتحسين المجتمع الأميركي والاستفادة منها، إذا استطاع الأميركيون إعادة تفعيل حكومتهم للعمل من جديد.

 

رابط المقال الأصلي هنا:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]