جمال زقوت يكتب: ثقافة العمل التطوعي و سبل استعادتها في تنمية القدرة على الصمود

جمال زقوت

تميزت سنوات السبعينيات و الثمانينيات بإزدهار ثقافة العمل التطوعي، وانتشارها على نطاق واسع. فبالإضافة لنشطاء العمل السياسي والمجتمعي الذين تميزوا بأداء أدوارهم الكفاحية من منطلق الانتماء الوطني وتنفيذ واجباتهم بصورة تطوعية، وإطلاقًا ليس كما بات يعرف لاحقًا ببدعة “التفرغ الحزبي” أو العمل الاجتماعي الرسمي، وقد تنافست الأطر الجماهيرية في تلك الحقبة لتنفيذ أيامًا للعمل التطوعي، سيما المؤسسات والأطر الصحية، كما انفردت الأطر الشبابية في تنفيذ حملات تطوعية لتنظيف شوارع ومؤسسات المخيمات والأحياء الفقيرة في المدن بما كان يشمل حملات نظافة للمستشفيات، و قد انتشرت هذه الثقافة في تطوير تقاليد العونة التي تركزت على مدار سنوات الاحتلال في نجدة المزارعين سيما في موسم قطف الزيتون والذي بات تقليدًا شعبيًا للتضامن مع الأهالي في القرى و البلدات المهددة بالمصادرة والاستيطان، سيما تلك الواقعة في المناطق المصنفة “ج” وخلف الجدار، ولعل ما يمكن تسميته بـ “حرب الزيتون” تشكل عنوانًا لإرهاب المستوطنين على القرى و الحقول الزراعية، مستهدفةً أشجار الزيتون التي باتت تشكل رمزًا للصمود وعنوانًا لمعركة البقاء الفلسطيني المتجذر في أرض هذه البلاد منذ آلاف السنين؛ ولعل هذا ما يفسر استهداف المستوطنين لهذه الأشجار ليس فقط لدلالاتها التاريخية ورمزيتها، بل وباعتبارها أيضًا مكونا رئيسيا للمتطلبات الاقتصادية خاصة الزراعية لقدرة الأهالي على البقاء رغم شراسة التحديات.

ناصرة توفيق زياد نموذج للتطوعية

و لعل من عايشوا تلك الحقبة، يذكرون جيدًا تلبية المئات إن لم يكن الآلاف لنداءات القائد التاريخي توفيق زياد بالانضمام لمخيم اسبوع العمل التطوعي الذي كانت تنظمه بلدية الناصرة، ليس فقط لتأكيد التضامن مع ناصرة زيّاد أو كرد فلسطيني موحد لمواجهة التمييز العنصري الذي كانت تتعرض له هذه البلدية المناضلة بقيادة جبهة الناصرة وغيرها من البلديات العربية، سيما لدور رؤساء مجالس البلديات في الداخل الفلسطيني لترسيخ يوم الأرض كعنوان وطني يوحد الشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال والعنصرية، بل وكذلك للنهوض بهذه الثقافة وتعميمها كأداة شعبية شكلت دومًا رافعة تُميِّز الكفاح الوطني ضد الاحتلال والاستيطان وسياسات القمع والتمييز، ولعل شعبنا مازال يحتفظ في ذاكرته قادة العمل التطوعي إبان المرحلة الذين كانوا دومًا رموزًا للصمود والمقاومة الشعبية بأدوات مختلفة، كان أبرز هؤلاء والذين استحقوا مكانتهم في الذاكرة الوطنية، وفي مقدمتهم المناضل حيدر عبد الشافي و المناضلة سميحة خليل و المناضلة يسرى البربري والمهندس ابراهيم الدقاق، و غيرهم من عشرات ومئات القادة الذين مازال بعضهم يقوم بواجبه بصمت بعيدا عن الإعلام والصراعات السياسية الانقسامية التي تطيح يوميًا بمكانة الكفاح الوطني والشعبي وفي مقدمته العمل التطوعي بمختلف ميادينه.

الانتفاضة الكبرى النموذج الأقوى للعمل التطوعي

لقد كان للحركة الطلابية و لطلبة الجامعات سيما جامعة بير زيت دور محوري في ترسيخ هذه الثقافة، والتي تحولت ليس فقط لمجرد تراث اجتماعي أو أداة كفاحية، بل فقد رسَّمتها جامعة بير زيت كمتطلب جامعي، سواء في الحملات التطوعية أو بعض أشكال الخدمة المدنية في مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتنمية المجتمعية بأشكالها المختلفة. و قد ساهمت هذه الثقافة في سرعة استجابة الشباب والشابات، وانخراطهم في اللجان الشعبية التي كانت بمثابة الشبكة الجماهيرية والبنية التنظيمية الميدانية للانتفاضة الكبرى 1987-1993، حيث غطت شبكة هذه اللجان باختصاصاتها المختلفة كمنظومة متكاملة جميع أحياء المدن والبلدات و المخيمات والقرى والخرب وظلت محافظة على طابعها الشعبي التطوعي، و بهذا الطابع واتساعه ودقة تنظيمه والدافعية الذاتية للممارسة الوطنية من قبل عشرات آلاف المنخرطين فيها، والجمهور المحيط بها، تمكنت الانتفاضة الكبرى من لعب دورًا حاسمًا ليس فقط في فعاليات وأنشطة مواجهة قوات الاحتلال عبر لجان المواجهة و الحراسة، بل وفي معالجة احتياجات الناس وايصالها حتى بيوتها، سيما في المناطق التي كانت تخضع لحظر التجوال أو التي كانت تحاصر وتعزل، وغير ذلك من العقوبات الجماعية التي مورست على نطاق واسع من قبل سلطات الاحتلال في محاولة لكسر شوكة الانتفاضة والمنتفضين، بما شملت أيضًا أشكال التمرد و مظاهر العصيان المدني التي ابتدعتها تلك الانتفاضة للخروج من حالة السيطرة والاخضاع التي كانت تحاول إدارة الاحتلال المدنية فرضها بالقوة في حينه، والتي اشتملت على بعض مظاهر الإدارة الذاتية لتسيير حياة الناس، بل وصلت في مراحل لاحقة لمحاولة بناء سلطة شعبية نواتها المجالس القطاعية المتخصصة التي تم تشكيلها في ذلك الوقت .

نشوء السلطة وانتكاسة العمل التطوعي

بالتوقيع على اتفاق أوسلو ونشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي لشديد الأسف منذ نشأتها افتقرت لرؤية وفلسفة للحكم تستجيب لطابع المرحلة، والتي اتسمت بتداخل مرحلة التحرر الوطني التي لم تكن قد أُنجزت، مع مرحلة البناء الديمقراطي التي تطلبتها الحالة الجديدة، و بدلًا من البناء على قيم وثقافة العمل التطوعي والكفاح الشعبي التي بلغت ذروتها في الانتفاضة الكبرى وبنيتها الشعبية التطوعية، فقد تم الإطاحة بهذه الإنجازات العظيمة، ولعل حدة الاستقطاب في الخلاف الذي أحدثه أوسلو و مبالغة الانحيازات السياسية لمعسكر الموالاة للسلطة والاتفاقات التي نشأت بموجبها، أو معكسر الرفض ولا أقول المعارضة الذي خرج أو أُخرج من مسؤولية المشاركة في بلورة عملية الربط تلك، ساهمت جميعها، وإلى حدٍ بعيد بأن تكون الانتفاضة بانجازاتها الاجتماعية والتنموية والتطوعية وببعديها المجتمعي والكفاحي الضحية الأولى لأوسلو كما خططت إسرائيل، والتي نظرت دومًا بقلق شديد ليس فقط للروح الكفاحية الجمعية التي ولدتها الانتفاضة، بل ولمنجزاتها البنيوية المجتمعية والشعبية وما ولدته من نضج الهوية الجامعة للفلسطينيين في كل أصقاع المعمورة، والتي تشكل جوهر وأساس الكينونة التي ناضل الفلسطينيون ومازالوا لانتزاعها في سياق ممارسة وتجسيد حقهم الطبيعي في تقرير المصير بأبعاده المختلفة.
بهذا المعنى شكل نشوء السلطة الوطنية انتكاسة شاملة وضربة قاصمة لثقافة العمل التطوعي بدلا من أن تكون رافعة لها، وبنية مجتمعية تستفيد منها السلطة في تحمل أعباء إنجاز متطلبات مهمتي التحرير الوطني والبناء الديمقراطي للمؤسسات الوطنية وحاضنتها الشعبية. ولشديد الأسف حتى مؤسسات هيئات العمل التطوعي، كان قد تم إفراغها من مضمونها واحتواء دورها، وباتت كما غيرها من مؤسسات العمل الأهلي تتساوق في معظمها مع أجندات المانحين التي باتت تتعامل مع القضية الفلسطينية من منظور سلطوي في خدمة مسار التسوية الذي مع مرور السنوات، ليس فقط لم يعد قائمًا، بل و تراجعت خلاله حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس فقط بتنكر إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، وفتات الاتفاقات المبرمة معهم، بل ولإنكارها مجرد وجودهم ورفض التفاوض على عبثيته معهم، ولم يتبق من هذه العلاقات سوى ما هو بحاجة إسرائيل به وبما يخدم أجندتها السياسية والأمنية سيما ما بات يعرف بالتنسيق الأمني وما تمنحه إسرائيل من فتات ما هو حق لهم وفق القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة بل وما ورد في بنود نقل الصلاحيات المدنية.

البلديات و العمل التطوعي

اليوم وفي سياق هذه المراجعة لأهمية إعادة إحياء العمل التطوعي، سيما ونحن على أبواب الاقتراع للانتخابات البلدية، وبعد ما سبقها من إطاحة بالحقوق الدستورية للمواطنين وحقهم في انتخاب ممثليهم، عندما جرى الغاء الانتخابات التشريعية، واستمرار الإصرار على رفض الانتخابات الرئاسية، وفي ظل احتمال سعى إسرائيل أو ما تخطط له من محاولات يائسة لعزل الكيانية الموحدة التي يناضل الفلسطينيون من أجلها، فإن مسؤولية كبرى أمام الناخبين بشكل عام والبلديات المنتخبة بصورة خاصة؛ تتلخص بالإضافة لمهامها الخدماتية، مسؤولية بناء حواضن شعبية لدورها التنموي، سيما في ظل إصرار الحكومة على عدم الوفاء بالاستحقاقات والديون المطلوبة منها للبلديات، ليس لجهة عدم المطالبة بهذه الحقوق، ولكن لجهة عدم الاستكانة لمضمون هذه السياسة التي ستؤدي بالنهاية وضمن عوامل أخرى إلى تحويل البلديات لمؤسسات عاجزة عن القدرة في تحمل مسؤولية دورها في التنمية الكفيلة بتعزيز صمود المواطنين. إن هذا يتطلب، وبالإضافة للتصدي لكل أشكال الترهل الإداري الناجم عن الفئوية والمحسوبية، وبالإضافة أيضًا لضرورة تفعيل مجالس الخدمات المشتركة ليس فقط بين بلديات الأرياف بل وبين البلديات الكبيرة نسبيًا، مثل بلديات رام الله و البيرة وبيتونيا، أو بلديات محافظات الخليل وبيت لحم ونابلس، وبلديات مناطق الأغوار وغيرها، من أجل التخطيط المشترك لمشاريع كبرى عبر هذه المجالس المشتركة، والتي تتطلب التصدى لكل محاولات التفكيك الجهوية أو الفئوية أو الطائفية. وحتى لا تقف موازنات إنجاز مثل هذه المشاريع بسبب تخلف الحكومة عن التزاماتها أو بفعل أجندات بعض المانحين و شروطهم، فإن الضرورة الوطنية تستدعي استلهام تجربة بلدية ناصرة توفيق زياد، وما كان قد سبقها ولو على نطاق أبسط من خلال تجربة بلدية البيرة برئاسة عبد الجواد صالح والجبهة الوطنية وغيرها من البلديات في حينه، لتنفيذ عدد من المشاريع الصغيرة و المتوسطة وحتى الكبيرة منها من خلال استنهاض أساليب مبتكرة للعمل التطوعي، سيما في محاولة بلورة حلول عملية للمشكلات الحياتية والبيئية ومشاكل الطرق والمواصلات والازدحام، والتي يمكن البحث عن حلول حقيقية لها عبر شراكات وطنية ومساهمة شعبية وغيرها من الحلول الفعالة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، لتعيد بجوهرها الاعتبار لثقافة العمل الوطني وممارسة المسؤولية الشعبية والاجتماعية لمضمون وقيم المواطنة.

الحاجة لقانون ينظم الخدمة المدنية

وفي هذا السياق فإنني أعتقد بأنه آن الأوان لاستخدام كل الوسائل الديمقراطية والجماهيرية المشروعة لبلورة قانون ينظم الخدمة المدنية و إلزام السلطة بإقراره، ورصد الموازنات اللازمة لتنفيذه كشكل من أشكال ممارسة السيادة التي تعيد الاعتبار للعمل التطوعي وبما يخدم في نفس الوقت هيئات الحكم المحلي ويمكنها من استيعاب الطاقة التشغيلية للذين ينطبق عليهم هذا القانون سواء خلال مرحلة ما قبل الدراسة الجامعية أو أثناءها أو كمرحلة تدريب وعمل مجتمعي في اطار الخدمة المدنية بعد التخرج .
بهذه الروح يُمكننا شق طريق فعَّال لمعالجة الخراب الذي ألحقته سنوات التيه والانقسام ، وتدشين مرحلة بديلة تعيد بناء وترسيخ قيم ومفاهيم المواطنة والانتماء الوطني والمسؤولية الاجتماعية على حد سواء.

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]