رغم مرور 49 عاما على رحيل زعيم عربي استثنائي، لا يزال جمال عبد الناصر رمزا في زمن عربي استثنائي أيضا، بعد أن أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، واعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم.. وهذه الرؤية للرمز الاستثنائي، عبر عنها القيادي والسياسي البارز في تاريخ النضال الفلسطيني، المناضل الراحل صلاح خلف (أإبو إياد) متسائلا بدهشة وحزن في نفس الوقت: «هل يعقل أن يغيب رجل واحد من ساحة امة فتختلف أمورها إلى هذا الحد؟! لم يكن في مقدور أحد ان يقنعني ان فردا واحدا يمكن أن يكون له التأثير، لولا أن الحقيقة أماما: قبل جمال عبد الناصر كنا في حال، وفي وجوده أصبحنا في حال، وبعده حالنا يصعب على الكافرين والله ».
واليوم، وبعد ما يقرب من نصف قرن على رحيل عبدالناصر، وبحسب تعبير ورؤية المفكر الإماراتي، علي عبيد الهاملي ، فإن نظرة إلى واقع العالم العربي، الذي تسوده النزاعات والانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية وكل أشكال الاختلاف والتمزق، تعطينا فكرة عما وصل إليه حال العرب الذين ناضل عبدالناصر من أجل تخليص نفوسهم من هذه النزعات، وحارب ليجمع الأمة على العوامل المشترَكة بينها، وتهميش المختلَف عليه.. ويضيف عبيد الهاملي: «هذا حال الأمة التي كان عبدالناصر أهم قادتها وأبرز رموزها، ولم يحظ بحب شعوبها في النصف الثاني من القرن العشرين زعيم مثلما حظي جمال عبدالناصر، ولم يؤثر في هذه الشعوب زعيم مثلما أثّر جمال عبدالناصر، بتوجهه القومي، وبخطبه التي كانت تنتظرها الجماهير العربية بلهفة، وتتجاوب معها وهي على بعد آلاف الأميال من مصر العروبة، التي اكتسبت صفتها هذه من خطب عبدالناصر، ومن مواقفه الوطنية والقومية».
وربما كفتنا نظرة واحدة على خريطة الواقع العربي، قبل وأثناء وبعد دور جمال عبد الناصر، لكي نعرف تأثير فرد في التاريخ العربي: قبل دوره كانت الأمة العربية بأسرها، تتحكم فيها وفي شعوبها وفي مواردها امبراطوريتين كبيريتين ( بريطانيا وفرنسا) ووراءها الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد وتدعم وعند اللزوم تتقدم، وفي إطار هذا التحكم الغربي العام، أقيمت دولة الاحتلال فوق الجغرافية الفلسطينية.و وأثناء دوره ، كانت هناك صورة حيّة لأمة تهب عليها رياح التغيير وروح الاستقلال الوطني والقومي تسقط الإمبراطوريات القديمة وتتعثر محاولات السيطرة الأمريكية، وحركة عربية يقظى في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم المصاعب والتحديات خصوصا بعد صدمة هزيمة 1967 إلا أن تيار المقاومة العربية كان غالبا وإرادته صلبه ..وبعد رحيل جمال عبد الناصر كانت هناك صورة أخرى لا داعي لوصفها لأنها واقع الحال الذي نراه ولا يحتاج إلى تذكير بأوضاعه أو حقائقه، بحسب تعبير الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل.
- ورغم مرور كل هذه الأعوام على رحيل جمال عبدالناصر، إلا إنه يبدو وكأنه غادرنا بالأمس، فصورته حاضرة في العقل المصري والعربي، ويبدو فيها رمزا عصيا على الرحيل والغياب، فقد عاش عبدالناصر بمقاييس الزمن حياة قصيرة، إلا أن السنوات الـ 18 من حكمه مثلت «فصلا استثنائيا» في المشهد المصرى والتاريخ العربي كله..والشاهد ان رسالته باقية حتى الآن، فقد بنى دولة رغم المؤامرات، وعرف بعلاقته الحميمة مع المصريين العاديين البسطاء ، ومع قدرته على تمثيل الأصالة المصرية، في الانتصار أو الهزيمة، وقد كان خطيبا ماهرا ومتفردا، حيث ألقى 1359 خطبة بين عامي 1953 و1970، وهو رقم قياسي بالنسبة لأي رئيس مصري.
الرحيل المفاجىء للزعيم العربي أثار الشكوك وفجر التساؤلات ـ حتى الآن ـ حول الصدمة التي تلقتها الأمة العربية.. ولكن المقربين من «ناصر» ينفون تماما مؤامرة تسميمه، أو دس السم طويل المفعول.. لسببين: أولهما: من يجرؤ على ذلك حتى ولو كان جاسوسا أجنبيا لأن أحدا لا يقاوم نظرة عبد الناصر وتأثير الكاريزما «المهيبة»؟. وثانيا أن النوبة القلبية التي أصابته لم تكن الأولى، حيث كان قد تعرض لنوبة قلبية في شهر سبتمبر/ أيلول من العام السابق أيضًا؛ لكن يومها وحرصًا على الاكتفاء بأشياء كثيرة، تم الاتفاق على الإعلان عنها بأنها نوبة أنفلونزا. وإثر تلك النوبة الأولى قضى جمال عبد الناصر ستة أسابيع في الفراش، ونصحه الأطباء بعدم إجهاد نفسه؛ لكن جمال عبد الناصر كان شخصية عنيدة ، فما إن نهض من فراشه، بعد انتهاء الأسابيع الستة، حتى أغرق نفسه في العمل الشاق. ولم يمكن لعبد الناصر أن يتغافل الظروف السياسية والعسكرية التي كانت مصر تعيشها وأيضًا العالم العربي. وسافر جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي.. وهناك فحصه طبيب القلب الروسي الشهير «شازوف» وقال له : سيدي الرئيس.. إنني أتابع من بعيد برامج عملك.. وأعرف أنك كنت أخيرًا في ليبيا وفي السودان.. وأعرف أنك تعمل أكثر من أربعة عشر ساعة في اليوم.. واسمح لي سيدي الرئيس أن أقول إن هذا خطر عليك.. وإنني أحذرك من استمرار هذا الوضع! لكن عبد الناصر لم يكن يهتم بصحته كثيرًا.. وكان في ذهنه أشياء تشغله عن الاهتمام بنفسه..وما إن عاد إلى القاهرة حتى انغمس في العمل الشاق المستمر.. واللقاءات والاجتماعات التي لا تنتهي!
ومضى هيكل، أقرب الناس إلى عبد الناصر، يروي عن نهاية ناصر قائلًا: لقد كنت قريبًا منه أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع مني الفهم الصحيح لمعانيها؟ إن ملحمة صراعه مع الألم بدأت سنة 1958، بعد حرب السويس.. وبعد المؤامرة على سوريا.. وبعد الوحدة وبعد ثورة العراق وسقوط حلف بغداد.واكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر..وكتب الأطباء تقريرًا عن حالته يقولون فيه: إن المرض يمكن السيطرة عليه..ولا بد من السيطرة عليه.، وذلك يقتضي ضبط ثلاثة عناصر رئيسية في طريقة حياته: ضبط الطعام. ..وضبط المجهود…و• ضبط الانفعالات. وقرأ عبد الناصر التقرير..وقال للأطباء وهو يمسك بالتقرير: بالنسبة لضبط الطعام ممكن بشرط واحد.. هو ألا يمتد المنع إلى الجبنة البيضاء.. وكانت الجبنة البيضاء أكلته المفضلة ثم جاءت مؤامرة العدوان سنة 1967 ويومي 9 و10 يونيو حين أعلن قرار التنحى ورفض الشعب المصري و العربي قراره، جاءت هذه التاريخ بانفعالتهما المضنية، فقد كان عمله كله في عملية إعادة بناء القوات المسلحة،وفي عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.. كان يمشي في طريقه.. وكان يدوس على كل الآلام! وخلال ذلك كله كانت مضاعفات السكر تزداد، وقد أحدثت تأثيرها في شريان القدم اليمنى، وكانت هناك في أعصاب الساقين مسببة لآلام شديدة،
ويكمل هيكل بقية قصة صراع عبد الناصر مع المرض فيقول: وفي شهر يوليو/ تموز سنة 1968 كان على موعد للسفر إلى موسكو، واقترح عليه الأطباء بأن تكون تلك فرصة.. يدرس معهم الأطباء السوفيت فيها حالته. وفوجئت بشدة آلامه وأنا جالس أمامه في الطائرة المسافرة إلى موسكو، وروعت حين وجدته في الطائرة لا يستطيع الجلوس في مقعده من شدة الألم! وفرش له الأطباء سريرًا في الجزء المخصص له في مقدمة الطائرة..وكنت أحاول أن أخفي الانزعاج..ولكنه لمح آثاره..
فقال برقة لم يكن يستطيعها غيره: سوف أنام بعض الوقت.. وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف! واستيقظ، وعاد إلى كرسيه معنا لكننا لم نشعر أن آلامه قد خفت حدتها.وحاول هو تغيير الموضوع..فقال لي: اطلب ياسر عرفات ليجيء فيجلس معنا هنا بعض الوقت، حتى لا يشعر بالغربة مع بقية أعضاء الوفد من ركاب الطائرة..وكان ياسر عرفات معنا على الطائرة ذاهبًا إلى موسكو، ولم يكن يعرف بوجوده على الطائرة أحد، ولا كان أحد في العالم قد سمع باسمه بعد؛ ولكن جمال عبد الناصر أراد أن يأخذه معه إلى موسكو ليفتح للمقاومة الفلسطينية بابًا يكون لها مصدر سلاح..وحين جاء ياسر عرفات وجلس بجواره، كان هو قد سيطر تمامًا بإرادته القوية على آثار الألم ومظاهره على ملامحه.. وفي موسكو شهدته في مراسم الاستقبال الرسمي، وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشي، ظلت سيطرته كاملة على آلامه، حتى وصل إلى قصر الضيافة، وأجرى اجتماعًا تمهيديًا مع الزعماء السوفيت،وتمشى معهم في حديث ودي في حديقة قصر الضيافة الواقع على ربو تلال لينني. وكان الزعيم السوفيتي بريجنيف يريه لأول مرة أشجار الكريز. ثم صعد إلى غرفة نومه وخلع ملابسه وتمدد على السرير..رافعًا قبضة إرادته القوية عن آلامه الشديدة الصلبة.
وبعد شهور قليلة، وفي خريف العام 1970 كان عبد الناصر في حالة نفسية سيئة بسبب نزيف الدم العربي في الأردن، وبذل جهدًا كبيرًا في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب لوضع حد لهذه الكارثة، وعندما طلب منه بعض الأصدقاء أن يراعي الجهد الخرافي الذي يبذله في المؤتمر، قال لهم: هناك رجال ونساء وأطفال يموتون..نحن في سباق مع الموت! وطوال تسعة أيام ضغط عبد الناصر على جهده وأعصابه وفكره لوقف نزيف الدم العربي، حتى تم توقيع اتفاق القاهرة. وكان اليوم الأخير في حياته ، شاهدا على ذلك، كان يشعر بإجهاد شديد، مع انتهاء أعمال مؤتمر القادة العربي ( القمة العربية الطارئة) بفندق النيل هيلتون، وقضى حتى الفجر يتابع عمل لجنة الرقابة، التي كانت قد سافرت إلى الأردن، وكان حريصًا على توفير كل الضمانات لتحقيق الهدف بحقن الدماء العربية، وفي الساعة الثانية عشرة صباحًا اتصل بمحمد حسنين هيكل ليسأله عن آخر التطورات، بعد اجتماعه – هيكل – مع ياسر عرفات وزعماء المقاومة الفلسطينية.،وفي نهاية المكالمة..قال له عبد الناصر: إنني أشعر بتعب شديد.. ولا أحس أنني قادر على الوقوف على قدمي!وقال له هيكل: الوقت قد حان لإجازة..ضحك جمال عبد الناصر..وقال لهيكل: سوف أضع قدمي في ماء ساخن به ملح.. وسوف أشعر براحة بعدها!رد عليه هيكل: الجهد كان كبيرًا، وما زلت سيادتكم في حاجة إلى إجازة وأقترح أن تقضي بضعة أيام في الإسكندرية..قال له جمال عبد الناصر: بعد قليل سأذهب لوداع أمير الكويت وأعود بعدها لأنام!وصمت عبد الناصر برهة، ثم استطرد قائلًا: أريد أن أنام نومًا طويلًا.
لم يسترح عبد الناصر بعدها طويلًا، فما لبث أنه غادر البيت في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا إلى مطار القاهرة. وهناك شعر بالتعب عقب وداعه أمير الكويت. وطلب أن تحضر إليه سيارته حيسأل عن السيدة قرينته..وسألها: هل تغديتي؟قالت له: كنت في انتظارك! قال لها: أشعر أنني لا أستطيع أن أضع في فمي شيئًا! ظلت معه حتى خلع ملابسه واستلقى على الفراش.. وشاهدته يدق الجرس ويطلب الدكتور الصاوي حبيب طبيبه المقيم. وغادرت قرينة الرئيس الغرفة فور حضور الدكتور الصاوي، كانت الساعة قد بلغت الرابعة إلا ثلثًا.. وكان الدكتور الصاوي قد أجري فحصًا مبدئيًا علي الرئيس، وعندما وجد أن الأمر خطير، طلب استدعاء الدكتور فايز منصور، الذي كان يشرف علي علاج الرئيس، وفي نفس الوقت طلب أيضًا الدكتور زكي علي والدكتور طه عبد العزيز، الذين لحق بهم الدكتور رفاعي محمد كامل، واجتمع الأطباء حول عبد الناصر في فراشه..وكان تشخيصهم الفوري أن هناك جلطة شديدة، أحدثت أزمة قلبية حادة، وأن هناك عدم انتظام في دقات قلب الرئيس!
وفي الحال..بدأ الأطباء محاولاتهم لإنقاذ حياة جمال عبد الناصر.. وبدأوا الإسعافات الأولية السريعة، واستخدموا جهاز الأوكسجين، وأجهزة الصدمة الكهربائية لتنشيط القلب، وكل ما في وسعهم من علاجات معروفة، تستخدم في هذه اللحظات الحرجة في حياة مريض القلب.
- وبينما شبح الموت يحوم حول حجرة نوم عبد الناصر، وبدأت الدقائق الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر، تحمل للأطباء النذير المروع.. كانت حالة جمال عبد الناصر تتدهور سريعا، وكان الأطباء حوله يبذلون المستحيل.. وعلي باب غرفة النوم،
انفجر الدكتور منصور فايز في البكاء، وكانت دموعه هي التي فجرت دموع كل الواقفين في غرفة النوم.. وكانت النهاية..نهاية زعيم عربي استثنائي..أوالنوم الطويل كما كان يتمنى .