كشفت الأحداث والوقائع الأخيرة، داخل الولايات المتحدة الأمريكية، عن انتهاكات سافرة لحقوق الصحفيين، وكان مشهد القبض على أندرو بونكومب، كبير مراسلي صحيفة «اندبندنت» البريطانية، بسبب تغطية تظاهرة حركة «حياة السود مهمة» في مدينة «سياتل»، مجسدا لوحشية سلوكيات الشرطة، كما لو كان سجيناً في معتقل «جوانتانامو».
وداخل المشهد حقائق عديدة، استعرضها جون سمبسون، كبير مراسلي شبكة «بي بي سي» البريطانية ومحرر الشؤون العالمية، في مقال بصحيفة «اندبندنت»، موجها رسالة للرئيس الأمريكين دونالد ترامب « لا سيدي الرئيس.. الصحفيون ليسوا أعداء الشعب».
ويرى «سمبسون»، أنه في ظل أي رئيس أمريكي سابق، كان من شأن انحطاط الشرطة الأمريكية أن يثير قلقاً فورياً، لكن ليس في ظل ولاية دونالد ترامب.
واليوم، تغلي أمريكا بالحقد والكراهية. ولم يسبق أن انحدرت أي دولة كبرى أخرى حتى الآن بهذه السرعة.
أمريكا .. في انحدار حاد
وكتب جون سمبسون: بعد 75 عاماً من الهيمنة على العالم، باتت أمريكا في إنحدار حاد، فقد سلّط «كوفيد ـ 19» الضوء على أوجه قصور زعيم يتصرف كما لو أنه خرج من صفحات مدونات المؤرخ تاسيتوس عن حياة الأباطرة الرومان. وتُصنّفه مجموعات المؤرخين بانتظام على أنه أسوأ رئيس أمريكي منذ وارن هاردينج. وبمقارنته (ذلك الزعيم)، يتّخذ حتى جورج دبليو بوش هيئة رئاسيّة.
في الستينيات..كانت صورة أمريكا مبهرة
أصبح من الصعب تذكُّر كيف كانت الولايات المتحدة ذات مرة متفوقة للغاية. ولقد زرت أميركا للمرة الأولى في صيف 1963 كشاب منبهر للغاية يبلغ من العمر 18 عاماً.
كان كينيدي لا يزال رئيساً، وبالمقارنة مع ما وجدته في أسفاري من مدينة نيويورك إلى جنوب كاليفورنيا، بدت بريطانيا كأنها أطلال سخيفة من الماضي.
آنذاك، دأب سياسيونا كبار السّن على التجمّع ببدلاتهم الصباحية وقبعاتهم الرسمية، فيما نظامنا الطبقي يخنق أمة بأكملها. في المقابل، بدت أمريكا متقدمة علينا بلا نهاية، وغنية وحيوية على نحو يتجاوز أحلامنا.
وكانت متفوقة أخلاقيا
ولقد أشار مقال في مجلة صادفتها في ذلك العام أنه «عندما نرى شيئاً شاباً ومغامراً ومثيراً، نقول إنه أمريكي».
وقال لي، الجميع من الطلاب إلى المسنين ممن تخطوا الثمانين: «إننا دولة شابة». وفي جبل «راشمور» حيث ألقى دونالد ترمب خطابه المقلق والانتقامي قبل أيام، ذكر أحد القساوسة من ولاية واشنطن «أننا المدينة المُشادة على رأس التل، يا بني». (إشارة إلى كونها مدينة فاضلة). لم تكن أمريكا مجرد الدولة الأكثر ثراءً والأقوى من كل الدول على وجه الأرض، بل كانت متفوقة أخلاقياً أيضاً.
جانب أكثر قتامة
وبالطبع، كان ثمة جانب أكثر قتامة. فقد حصلتُ على توصيلة دامت عشرة أيام من «نيوجيرسي» إلى «ساوث داكوتا»، من سائق شاحنة يضرب أشخاصاً من أجل نقابة الشاحنات، وقد أسْعَدَهُ أن يخبرني عن ذلك بتفاصيل مروعة. وفي شيكاغو ضللت الطريق إلى «نورث لونديل» فقُبِضَ عليّ «من أجل سلامتي».
وقد أمضى رجال الشرطة البيض الذين اعتقلوني الساعتين التاليتين في إخباري عن كيفية تعاملهم مع السود المتغطرسين، من دون أن يلفظوا كلمة «السود».
أما في مدينة نيويورك، فقد شاهدتُ تظاهرة، أو أعمال شغب عرقية وفق ما وصفتها صحف اليوم التالي، ورأيت كيف تعاملت الشرطة مع المتظاهرين السود بوحشية.
فقد تعرض رجل للضرب وهو ملقى على الأرض، ورُكِلَ وسُحِبَ وهو فاقد للوعي بينما نزف الدم من رأسه. لم تكن هناك إشارة لذلك في نيويورك تايمز في اليوم التالي.
في المقابل، آنذاك بدت مثل تلك الأشياء مجرد انحرافات. إذ مثّلت أمريكا «ماجا لاند»، العصر الذهبي الذي وعد به ترمب وفشل في العودة إليه.
قد يكون الأمر مزعجاً وينطوي على استخفاف ويفتقر تماماً إلى الوعي بالذات، لكنه دُعِم حينئذٍ بمبادئ أخلاقية حقيقية.
دور وطني لوسائل الإعلام
وبصفتي شخص يطمح لأن يكون صحافياً، في تلك الآونة، تحدثت إلى مجموعة واسعة من الأشخاص في الصحف والتلفزيون الذين آمنوا جميعهم بالتفوق الأخلاقي لأمريكا، حتى المشكّكين منهم.
بعد بضع سنوات، أصبح صحفيون مثل «وودوارد وبرنشتاين» أبطالاً وطنيين لأنهم تمسكوا بالمبادئ الأمريكية في مواجهة إجرام نيكسون. وقد اعتقد الناس أن ذلك ما وُجدت من أجله وسائل الإعلام.
ترامب: الصحفيون هم أعداء الشعب
وسُمح لي بمرافقة صحفيين من نيويورك في تظاهرة السود التي كنت شاهداً عليها. تصرفت الشرطة بلطف لا يخلو من قلق تجاه الصحفيين وتجاهي. لكن بالطبع، في تلك المرحلة لم يخبر الرؤساء الأمريكيون أتباعهم بأن الصحفيين هم أعداء الشعب، على غرار ما فعل الرئيس ترامب.
فقد ترسّخت هذه الرسالة، وسَمِعَتْها وتصرّفتْ على أساسها الشرطة الأمريكية، التي يجري توظيف عناصرها غالباً من القواعد الصلبة الداعمة لترامب.
وحشية مبتذلة من الشرطة الأمريكية
في الأسبوع الماضي، عندما ألقي القبض على أندرو بونكومب، كبير مراسلي صحيفة «اندبندنت» في الولايات المتحدة، بسبب تغطية تظاهرة حركة «حياة السود مهمة» في مدينة «سياتل»، تصرفت الشرطة معه بوحشية كما لو كان سجيناً في (معتقل جوانتانامو). وقد بدت مروعة، رواية بونكومب الهادئة، وغير العاطفية عن الوحشية المبتذلة التي عومل بها مع سجناء آخرين. ففي ظل أي رئيس أمريكي سابق، كان من شأن انحطاط الشرطة الأمريكية أن يثير قلقاً فورياً. لكن ليس في ظل ولاية دونالد ترامب.
ألف قتيل سنويا على يد الشرطة الأمريكية
منذ 2016، بلغ متوسط القتلى على أيدي الشرطة الأمريكية ألف شخص سنوياً. وشكّل الذكور البيض 45 في المئة منهم، والسود 23 في المئة، وتلك نسبة غير متكافئة (مع نسبة السود إلى عدد السكان)، والذكور من أصل لاتيني 16 في المئة. وقد حمل 54 في المئة من القتلى أسلحة، وعانى 25 في المئة اضطرابات عقلية واضحة. وفي معظم المدن الأمريكية الكبرى أصبحت الشرطة عبارة عن قوة شبه عسكرية، مسلحة ومدرعة مثل الجنود.
في أوقات التوتر يعاملون مواطنيهم بالطريقة التي رأيت بها الجنود الأمريكيين يتصرفون تجاه المشتبه فيهم في العراق وأفغانستان، أي بأقصى قدر من العنف المفتقر إلى التفكير. ومثلهم مثل الجنود الأمريكيين، نادراً ما يخضعون للتأديب أو العقاب بسبب ذلك.
«أمريكا ترامب» تغلي بالكراهية والعنف
واليوم، تغلي أمريكا بالحقد والكراهية. ولم يسبق أن انحدرت أي دولة كبرى أخرى حتى الآن بهذه السرعة. ففي عهد ريجان وكلينتون وأوباما، كانت لا تزال رائدة عالمياً، دولة يتطلع إليها الإنسان، ومحبوبة من قبل غير الأمريكيين من أمثالي.
والآن، انزلقت مدنها إلى العنف، بينما تأخذ الصين مكانها في العالم الخارجي. وكذلك يظهر استطلاع رأي تلو الآخر أن عدداً أقل بكثير من الأجانب أصبحوا يتطلعون إلى أمريكا ترامب. وحتى لو هُزم في نوفمبر (تشرين ثاني)، هل من المحتمل حقاً أن يجد خليفته ترياقاً للسم الذي جرى التشجيع على ضخّه في عروق دم المجتمع الأمريكي؟