حافظ البرغوثي يكتب: عندما كفر داعية «اللاعنف» بدعوته السلمية
الحراكات السلمية في الأقطار العربية في الآونة الأخيرة، كالسودان والجزائر ولبنان والعراق، جملة من التمايزات عن الحراك الذي بدأ في أقطار أخرى وانتهى بحمامات دموية، نتيجة لغطرسة النظام والتدخلات الإقليمية والدولية التي أدت الى نشوب حروب ما زالت قائمة مثل ليبيا وسوريا واليمن، وأدى تدخل الجيش المصري في أحداث مصر وانحيازه الى الشعب الى لجم حرب أهلية كانت ستلحق مصر بحالة من الفتن والعنف لا سابق لها بسبب التدخلات الخارجية لصالح جماعة الإخوان.
الحراك السلمي كما عرفته من مؤلفات داعية اللاعنف الأميركي جين شارب (1928- 2018) مستلهم من مسيرة المهاتما غاندي في صراعه مع الاحتلال البريطاني، وقد حاول داعية اللاعنف الفلسطيني الأمريكي الدكتور مبارك اسكندر عوض نقل التجربة الى فلسطين في أواسط الثمانينات، وأسس مركزا للنضال اللاعنفي في القدس المحتلة، وأحيط المركز بالشبهات الفورية، فكأنه يدعو لعدم مقاومة الاحتلال والرد على عنفه بالعنف. وشاءت الظروف أن التقي بالدكتور مبارك في مطلع 1987 بعد أن تابعت أنشطته في تنظيم احتجاجات في القدس والتوجه الى القرى المهددة أراضيها بالمصادرة وزراعة أشجار الزيتون فيها. وتعرفت عليه عن كثب، وكان يوزع كتاب النضال اللاعنفي من تأليف جين شارب.
بعد اقتناعي بجدوى نشاطه، انضممت إليه متطوعا في أنشطته، وكنت ألاحظ نقاء سريرة الدكتور عوض والدعم الذي تلقاه من الدكتور هشام شرابي في أميركا والبروفسور إدوارد سعيد، ومن الرئيس الأسبق جيمي كارتر. وعند اندلاع الانتفاضة الأولى كان الدور الذي لعبه عوض أثرا فيها، حيث عمل قبلها على تنشيط الشارع الفلسطيني بالمظاهرات في عاصمته القدس وفي القرى المهددة بالمصادرة، وحملة مقاطعة منتوجات الاحتلال والاستعاضة عنها بالناتج المحلي، وإطلاق حملة لتنشيط الاقتصاد المنزلي والزراعة وإقامة فصول دراسية مفتوحة للصغار في حالة إغلاق المدارس، إضافة الى الهبة المقدسية ضد سياسة القبضة الحديدية التي انتهجتها سياسة زير الحرب آنذاك اسحق رابين لقمع المقدسيين، وتولى الشهيد فيصل الحسيني الاشتباك مع الاحتلال حيث اعتقل، إضافة الى أسباب نفسية وعسكرية رفعت من معنويات الشعب الفلسطيني، مثل عملية الطائرات الشراعية انطلاقا من جنوب لبنان وعملية الفرار من أحد سجون غزة.
وفي مطلع الانتفاضة حضر البروفسور جين شارب الى الضفة الغربية لمتابعة الوضع عن كثب، وكان أسس معهد البرت اينشتاين للحراك السلمي، وناهض في السابق التجنيد في الحرب الكورية وسجن وحاضر في أهم الجامعات الأميركية. وأخذته في جولة الى رام الله، حيث زرنا مخيم الأمعري، وكان مغلقا ببراميل الأسمنت، واشتبكنا مع قوات الاحتلال هناك، وكان يقف صامتا يتابع بأسى ما يحدث، وعندما عدنا الى القدس أخذته في جولة الى البلدة القديمة، وصعدنا فوق أحد المنازل لتأمل البلدة وقبابها وبيوتها القديمة، وكان الجو هادئا وفجأة انهمرت علينا قنابل الغاز والعيارات المطاطية فأصبنا بالاختناق، وشاهد شارب جنود الاحتلال وهم يصوبون أسلحتهم وقنابلهم نحونا دون سبب، فلجأنا الي غرفة فوق أحد المنازل ونحن نختنق من الغاز، فقال البروفسور شارب وهو يغالب دموعه من الغاز: “أظن ان المقاومة السلمية لا تصلح عندكم”.
بالطبع واصلت والدكتور عوض نشاطنا لاحقا، الى أن جرى اعتقالي بعد شهور، ومن ضمن الاتهامات ما كتبته في صحيفة “القبس” في حينه من دعوة للعصيان المدني وإحراق بطاقات الهوية، وما إذا كنت مرتبطا بحركة فتح. وعند إطلاق سراحي بعد ثلاثة أسابيع من الزنازين والتحقيق، وفي الساعة التي خرجت فيها من بوابة السجن، كانت شرطة الاحتلال تعتقل الدكتور عوض، حيث أعتقل في سجن الرملة، وكان التحقيق معه حول نشاطه ونشاطي، وتم إبعاده الى أميركا. لكن بقيت كلمات شارب عالقة في الذهن: “النضال اللاعنفي لا يصلح عندكم”.