د.علاء أبوعامر يكتب: الكارثة الفلسطينية.. بين وعد يهوه ووعد بلفور
مئة وإثنتان من السنين مضت على وثيقة بلفور 3نوفمبر 1917، أو بتسميتها الشائعة عربياً (وعد بلفور).. وأرثر جيمس بلفور هو وزير الخارجية البريطاني في سنوات ما بين 1916 ـ 1919 من القرن الماضي، وإعلان الوثيقة هو ذكرى أليمة على عقل وقلب كل فلسطيني وعربي، فهذه الوثيقة هي التي أسست لكيان الصهاينة الذي سيُعرف عن نفسه في عام ١٩٤٨ بدولة إسرائيل.
يختصر العرب والفلسطينيون منهم الوثيقة الوعد بعبارة”وعد من لا يملك لمن لا يستحق”. وهذا صحيح فكيف لبريطانيا أو غيرها من دول الاستعمار أن تمنح أرض شعب ما لمجموعة من الغرباء؟ مهما اختلفت الدوافع والأسباب، ونحن هنا لا نتحدث عن جزيرة خالية من السكان بل عن بلد تصنف أثرياً بأقدم منطقة حضارية في التاريخ (نسبة إلى الحضارة النطوفية التي نشأت فيها منذ 12 ألفا إلى 6 آلاف عام قبل الميلاد واستمرت إلى أيامنا هذه مأهولة بالسكان أنفسهم من خلال توارث الأجداد دون تغيير في الثقافة والعادات واللغة).
السؤال لماذا صدرت الوثيقة في ذلك الوقت؟ ولماذا وجهت للورد روتشيلد دون غيره؟.. كثيرة هي الأسباب التي تطرح من قبل محللي الوثائق التاريخية والسياسية وأغلبهم من يعيدها إلى حاجة بريطانيا إلى المال ودعم اليهود لها في الحرب العالمية الأولى.
ولكن كل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تحليل أو انسياق خلف الدعاية الغربية التي تحاول بكافة السبل تضليل الرأي العام العربي حول جوهر الصهيونية ونشأتها في الأوساط الغربية .
بدأت فكرة الصهيونية العملية مع رائد حركة الإصلاح الديني رجل الدين الألماني مارتن لوثر (1483-1546) حيث نشر لوثر ترجمته الألمانية للعهد الجديد عام 1522، ثمّ أنهى ومعاونوه ترجمة العهد القديم عام 1534، ليُتمّ بذلك ترجمة الكتاب المقدس كلّه. واستمرّ على دراسة اللغات القديمة والعمل على صقل الترجمة حتى نهاية حياته، وقد ألف الأخير كتاباً بعنوان”المسيح ولد يهودياً” دعا فيه اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين ودعا دول وشعوب أوروبا لمساعدتهم، بهدف استعجال عودة المسيح إلى الأرض لأن المسيح كان يهودياً وسيخرج من بينهم.
وقد رفض اليهود الدعوة في ذلك الوقت لأنها تتعارض مع اليهودية التي تعتقد بخروج المسيح أولاً وهو من سيجمع اليهود في فلسطين، وقد أطلق على صهيونية مارتن لوثر الصهيونية العملية.
ومنذ ذلك الوقت بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين، تلوح في الأفق، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوروبا، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي الجديد بترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءاً من النسيج الحضاري الغربي، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه. وكانت أولى المطالب لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي أوليغربولي عام 1695م، الذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين، وقام بتسليمها إلى ملوك أوروبا في ذلك الوقت، وفي عام 1799 م، وكان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول زعيم دولة يقترح إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا.
وانتشرت الأفكار الصهيونية في بريطانيا واعتنقها العديد من قادتها أشهرهم بالمرستون وشافتسبري وتشرشل وغيرهم.
وعليه لم تكن وثيقة بلفور الموجهة للورد روتشيلد رشوة كما يروج لها بل إعتقاد ديني كنسي بروتستنتي مازال متأصلاً في الكنيسة وموجهاً ودافعاً للدول البروتستنتية المذهب في أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا ونيوزيلاندا وغيرها لدعم بقاء واستمرار دولة الصهاينة باعتبارها إرادة الرب ومقدمة لمجيء المخلص يسوع وهذا كله إعتماداً على تفسيرات سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي الملحق بالعهد الجديد والذي يتحدث عن معركة “هرمجدون” من قبل الكاهن مارتن لوثر واتباعه.
بينما الدعاية اليهودية الصهيونية تتحدث عن أرض الميعاد وأن فلسطين إرث قومي وديني لليهود أينما كانوا، والصهيونية كلمة أخذها المفكر اليهودي الأوروبي “ناثان برنباوم” من كلمة “صهيون” لتدل على الحركة الهادفة إلى تجميع “الشعب اليهودي” في أرض فلسطين، ويعتقد اليهود أن المسيح المخلص سيأتي في آخر الأيام ليعود بشعبه إلى أرض الميعاد، ويحكم العالم من جبل صهيون. وبتأثير من الحركة الصهيونية البروتستنية الأوروبية والأمريكية حول الصهيونيون هذا المعتقد الديني إلى برنامج سياسي لإنشاء دولة لهم في فلسطين.
ولم تكن وثيقة بلفور بعيدة عن وثيقة كامبل -بنرمان والتي نصت على: “إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم ، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات”. والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: ” ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان”.ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب الا وهي دولة اليهود واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة. كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة اليهودية، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما أبقى العرب في حالة من الضعف.
ومابين وعد يهوه المزيف لوعد إيل الإله الكنعاني إلى وعد بلفور هناك كثير من التلفيق والأدلجة التي لابد من العودة إليها لتبيان حقيقتها فالفكر الصهيوني بشقيه البروتستنتي واليهودي يستند إلى الكتاب المقدس ومقولاته. حيث سُئِل دافيد بن غوريون (بولندي الأصل، كان اسمه قبل الهجرة إلى فلسطين دافيد جرينز) يومًا، عن أحقية يهود العالم بفلسطين، فقال “إنّ الوثيقة الوحيدة التي تمنحنا هذا الحق هو أسفار التوراة”.
إذاً جُل الفكر الصهيوني هو فكر ينطلق في احتلال فلسطين من منطلقات دينية ، وقد جاء في القرآن ما يفسر قصة الوعد الإلهي لإبراهيم ويفند المقولة الرائجة بروتستنياً ويهودياً أن الله منح أرضاً لجماعة دينية أو سلالية بقوله تعالى(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِ(الأنبياء)
يفند الله تعالى تلك المقولات استناداً لمقولات إلهية وردت في الزبور أي كتاب المزامير لدواد ومن قبله يذكر النص الإلهي ان ذلك كتب أيضاً في الذكر أي كتاب التوراة، فهل مازال ذلك التص موجوداً في المزامير؟
يقول داود في الزبور: “الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ.” (مز 37: 2٩) انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاحْفَظْ طَرِيقَهُ، فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ الأَرْضَ. إِلَى انْقِرَاضِ الأَشْرَارِ تَنْظُرُ.” (مز 37: 34). “لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ (مز ٩: ٣٧). “أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ” (مز ٣٧: ١١). “الشِّرِّيرُ يَسْتَقْرِضُ وَلاَ يَفِي، أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَتَرَأَّفُ وَيُعْطِي” (مز ٣٧: ٢١). “لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ” (مز ٣٧:٢٢).
لم يكن وعد الله الذي فسره قادة المسيحية البروتستنتية وتبناه الصهاينة الاشكيناز -الخزر وعداً لفئة بشرية أو دينية أو وعداً بأرض معينة بل وعداً بوراثة العالم أي بالجنة الموعودة وهو ما يقوله أيضا الرسول بولس في أعمال الرسل.
ما حصل من استعمار لفلسطين ووضع خلفيات دينية له لا يعدو عن كونه احتلالاً أوروبياً هدفه تمزيق العرب ومنع اتحادهم وتقدمهم وأصدق مثال عليه هو وثيقة كامبل -بنرمان وما قاله بونابرت بعد هزيمته في عكا.
ستبقى فلسطين هي فلسطين وستعود لأهلها وما الاحتلال الصهيوني الأوروبي الحالي إلا ظاهرة عابرة مثلها كمثل ما سبقها من ظواهر زالت وستزول هذه الظاهرة أيضاً طال الزمن أم قصر، طالما ظل شعب فلسطين ومن خلفه أمته العربية مقاوماً صامداً متشبثاً في أرضه.
*مفكر وباحث فلسطين