زمن القرصنة.. أوهام «معبد الهيكل» تحاصر الأقصى
مع نهاية القرن التاسع عشر، كان «تيودور هيرتزل»، أحد أبرز مؤسسي الحركة الصهيونية، أول من بادر بالكشف عن النوايا الشيطانية تجاه المسجد الأقصى، قائلا: «إذا حصلنا يوما على القدس، وكنت لا أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرون».
ومقولة هرتزل في العام 1892 كانت تجسيدا للرغبة الملحة، والتي أضيفت إليها دوافع الأساطير، التي تعتمد عليها بعض الجماعات اليهودية، صاحبة الاعتقاد بوجود هيكل سليمان أسفل المسجد الأقصى، وتتبنى فكرة إعادة بناء الهيكل الجديد على أنقاض الأقصى، تحقيقا للاستقراءات الوهمية وللأساطير التي ابتدعوها.
مخطط التهويد والتدمير
وقصة التهويد والتدمير بدأت فصولها في أحضان العقيدة والأساطير، والتي تستند إليها أحلام 120 جماعة يهودية تشارك في مخطط التدمير المنظم للمسجد الأقصى، وتسري في ضمائرهم أوهام الاعتقاد بأن «الفكرة» تلامس حدود «القداسة»، والتي تفرض أحكامها وضع التصورات النهائية لتصميم الهيكل الجديد.
وفي صيف 1990 تم إعداد مخطط هندسي أعده المهندس «مائير بن دوف»، بناء على تكليف من «تيدي كوليك» رئيس بلدية القدس وقتئذ، وهو تصميم لهيكل سليمان الثالث لإقامته على أنقاض المسجد الأقصى، وقامت سلطات الاحتلال بتوزيع ملصقات الهيكل على نطاق واسع، بهدف تهيئة الرأي العام العالمي لتقبل «كارثة» تدمير الصرح الإسلامي المقدس، وتضمنت الملصقات تنويها بأن المسجد الأقصى بناه (الأمويون) في القرنين السابع والثامن الميلادي فوق الأثر الديني للهيكل.
والخطوات التدريجية تتصاعد شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام على التوالي، لبناء الهيكل المزعوم.
وفي خريف 2007 قامت منظمة «معهد الهيكل» بنصب شمعدان ذهبي أطلقت عليه اسم «شمعدان الهيكل» قبالة باب المغاربة بالقرب من الجهة الغربية للمسجد الأقصى المبارك.
الشمعدان كان قد وضع سابقا في أحد شوارع البلدة القديمة في القدس، ثم أجرت المنظمة الصهيونية إضافات عليه بتكلفة 100 ألف دولار، وقامت بنصبه على موقع ظاهر وعال يقابل المسجد الأقصى من الغرب، وتمت صناعة الشمعدان من الذهب الخالص بوزن 45 كيلو جراما من عيار 24 قيراطا وبتكلفة 3 ملايين دولار (بأسعار العام 2007).
وتعترف جماعة «معهد الهيكل» بوضع «شمعدان الهيكل» بالقرب من المسجد الأقصى في خطوة عملية أخرى على طريق بناء الهيكل الثالث، وإنهم تعمدوا نصب هذا الشمعدان في موقع يحجب رؤية المسجد الأقصى وقبة الصخرة، استعدادا لنقله إلى داخل الهيكل بعد بنائه.
أكذوبة «الهيكل أسفل الأقصى»
وتتفق الأسانيد الدينية المسيحية مع الأسانيد التاريخية حول أكذوبة «الهيكل أسفل الأقصى»، ويروي الكتاب المقدس حالة الهيكل ويتنبأ بخرابه، لأن اليهود لم يحافظوا على كونه مكانا للعبادة، فقد ورد في أنجيل متى: «ودخل يسوع إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلا، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص، يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يترك لكم خرابا».
وورد في فقرة أخرى من الإنجيل: «ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع، أما تنظرون جميع هذه، الحق أقول لكم أنه لا يترك هنا حجر على حجر لا ينقض»، ما يعني أن الهيكل دمر، وأن ما كان لم يعد حيث كان، ولم يعد كما كان، ولا وجود لما يسمى حائط الهيكل أو «حائط المبكى»، ولاأساس تقام عليه طقوسهم على «حائط البراق».
وتتمثل الأسانيد القانونية في حق المسلمين بحائط البراق في القرار الذي أصدرته عصبة الأمم المتحدة عام 1931 بعد تحقيقات مكثفة مع المسلمين واليهود، ويؤكد القرار: «أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية حائط البراق، ولهم وحدهم الحق العيني، لأنه يؤلف جزءا لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحائط المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير».
وتشكلت هذه اللجنة بناء على اقتراح من الحكومة البريطانية «حكومة الانتداب في فلسطين» في ذلك الوقت، بعد أن قام اليهود بترديد الأناشيد أمام حائط البراق ووضع كراسي وطاولات وستائر لأداء الصلاة، وهو الأمر الذي فجر «انتفاضة البراق» في جميع أنحاء فلسطين، في شهرأغسطس/ آب من عام 1929 واضطرت بريطانيا إلى الاستعانة بقوات من الجيش البريطاني من خارج فلسطين لقمع الانتفاضة، التي استشهد فيها عشرات الفلسطينيين.
ويبدو أن بريطانيا وجدت الأمر أكبر من إمكانياتها، لذلك اقترحت على عصبة الأمم المتحدة تشكيل لجنة للتحقيق حول ملكية حائط البراق، وظلت اللجنة في فلسطين على مدى شهر تستمع إلى شهادات اليهود والمسلمين، وقدم المسلمون في ذلك الوقت وثائق عديدة تؤكد ملكيتهم لحائط البراق، بينما اقتصرت مطالب اليهود على السماح لهم بالصلاة عند حائط البراق دون تقديم أي وثائق تؤكد حقهم فيه أو الادعاء بذلك.
كيف تمت صناعة أكذوبة «حائط المبكى»؟!
والفصول الأولى لقصة «حائط المبكى»، كانت تقريبا مع بداية الحكم العثماني لفلسطين، حين استغل اليهود تسامح المسلمين وكشفوا عن نواياهم بالاستيلاء على المقدسات الإسلامية، وبدأت تحركاتهم لخلق أكذوبة حائط المبكى ( حائط البراق ).
وترجع أهمية هذا الحائط بالنسبة للمسلمين إلى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ربط عنده «البراق» الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، (والبراق هو اسمٌ للدابة التي ركبها رسول الله ليلة أُسرِي به إلى المسجد الأقصى، ومنها عرج إلى السماء السابعة، وقد اشتُقّ اسم البراق من البرق لسرعته، وقيل سُمّي بذلك لشدّة صفائه ووضوح ألوانه وتلألئها)، بينما يزعم اليهود أن الحائط يمثل جزءا من جبل الهيكل «معبدهم القديم»، يبكون عنده حزنا على تدمير الهيكل.
وتتعارض المزاعم الإسرائيلية بشكل لا يدع مجالا للشك مع جميع الأسانيد التاريخية والدينية والقانونية التي تؤكد أحقية المسلمين في حائط البراق، وأن فكرة حائط المبكى لم تظهر عند اليهود قبل القرن الـ16 الميلادي، عندما طردتهم الدولة الإسبانية وسمحت لهم الدولة العثمانية بالإقامة في الأراضى التابعة لها، وبدأ تحول في سياق المزاعم اليهودية المتعلقة بالقدس الشريف عام 1520.
وبعد سنوات من الفتح العثماني لفلسطين، أصبح حائط البراق جزءا من التقاليد اليهودية الجديدة، وصار جزءا مقدسا منها، وقد تحول إلى حائط لبكاء اليهود عنده، وقبل ذلك كان اليهود يتجمعون للصلاة عند جبل الزيتون وبوابات الحرم حتى أصدر السلطان «سليمان القانوني» فرمانا يسمح بوجود مكان لليهود للصلاة فيه عند الحائط الغربي.
وكان تسامح العثمانيين مع اليهود هو السبب وراء المطامع في حائط البراق، واختراع الأكذوبة المتعلقة به.
وتؤكد الموسوعة اليهودية، أن المصادر المتعددة التي تتحدث عن اليهود خلال العصور السابقة للقرن الـ16 الميلادي لم تذكر شيئا عن تقديس اليهود للحائط الغربي أو حائط البراق، وأن التجمع اليهودي للعبادة كان يجري في جبل الزيتون، وأن المعبد اليهودي الكبير كان مبنيا في محازاة الحائط الغربي.
ولم يشر «ناحي نديس»، الذي وضع تصورا مفصلا للهيكل وموقعه عام 1267، إلى حائط البراق، ولم تتضمن تصوراته عن مزاعم «الهيكل» أية إشارة أو تلميحا لحائط البراق.
وورد في وثائق «كارين أرمسترونج» (المستشرقة والباحثة الأكاديمية البريطانية، والمتخصصة في علم الدين المقارن)، أن السلطان سليمان القانوني رأى في منامه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمره بالدفاع عن المدينة المقدسة وقبة الصخرة كعبة الأنبياء، فأمر السلطان «سليمان» بإقامة أسوار المدينة التي استغرق بناؤها عشرين عاما وتكلفت أموالا باهظة، ويبلغ طول الحائط الذي ما زال قائما 3 أميال وارتفاعه 40 قدما، وكان الحائط يحمي المدينة المقدسة، وبه أربعة وثلاثين برجا وسبع بوابات، وصمم المهندس «سنان باشا» بوابة دمشق الرئيسية التي أطلق عليها -وقتئذ- بوابة سليمان، وبعد أن تم الانتهاء من بناء السور عام 1541 وأصبحت المدينة محصنة، طلب السلطان سليمان من رعاياه الإقامة بها وخاصة اللاجئين اليهود والذين استقروا في أراض الإمبراطورية العثمانية بعد طردهم من إسبانيا المسيحية عام 1492م، ويعتبر ذلك التاريخ هو بداية هجرة اليهود إلى أرض فلسطين.
لجنة دولية تنفي وجود «حائط المبكى»
وحاول اليهود خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثماني شراء الحائط، ولكنهم فشلوا فلجأوا إلى العنف في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى عام 1929 وانتفض الشعب الفلسطيني للدفاع عنه، ونشبت معارك عنيفة بين الطرفين كادت تتحول إلى ثورة عربية شاملة في فلسطين مما دعا الحكومة البريطانية إلى التقدم لعصبة الأمم عام 1930 بتشكيل لجنة للتحقيق مع اشتراك محكمة العدل الدولية، وانتقلت اللجنة إلى القدس في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، واستمعت إلى شهود جميع الأطراف، وحققت في المستندات والوثائق، ثم أصدرت قراراها في مطلع عام 1931، وأكدت اللجنة أن المسلمين سمحوا لليهود بمزاولة شعائرهم الدينية عند الحائط على سبيل التسامح، ولذلك طلبت اللجنة من اليهود مراعاة القيود والاشتراطات التي وضعتها السلطات الإسلامية عند ممارسة اليهود لشعائرهم، وهي الشروط التي سبق وأن وضعتها السلطات البريطانية في الكتاب الأبيض، الذي أصدرته عام 1928 ومنها: عدم إحضار اليهود أية ستائر أو مقاعد أو آرائك أمام الحائط ، ويسمح لهم فقط بجلب كتب الصلاة اليدوية.
وكانت لجنة التحقيق قد أولت اهتماما كبيرا بالحقائق الموثقة تاريخيا وعمرانيا، وتؤكد بأن الحائط هو حائط «سليمان العثماني» لا «سليمان الحكيم»، كما أن مواد بنائه وطريقة إنشائه ترجع إلى العصر العثماني، بينما مواد البناء وطرق الإنشاء في عصر «سليمان الحكيم» تختلف تماما عنها في العصر العثماني الحديث، وهي المواصفات التي أقام بها المهندس «سنان العثماني» سور القدس وحائط البراق جزء منه، وليس جزءا من حائط هيكل سليمان الذي يبحثون عنه .
وفي واقع الأمر فإن حلم البحث عن هيكل سليمان، كان ملازما لحلم دولتهم في فلسطين، ولم يكن اللعب على الوتر الديني اليهودي وأساطيره لتكون فلسطين وطن اليهود الموعود والمختار، لم يكن منفصلا عن عقيدة بناء الهيكل، وبنفس المقدار وربما أشد، استجابة لمعتقدات «الفريضة المقدسة»، وأحكامها، وروادعها، لمن يتخلى عنها، لأنه ينفي حلم الوطن الموعود.