صاحب «الكلمة المقاتلة».. محمود درويش شاعر«سيدة الأرض» المباركة

تسجل الذاكرة الفلسطينية في أعلى مراتبها، «ابنا» كان متحدثا بالكلمة المقاتلة نيابة عن «سيدة الأرض» المباركة، والمحتلة.. وتسجل الذاكرة العربية، انه بعد ما يقرب من نصف قرنٍ من الإخلاص للشعر، بمثابرةٍ نادرةٍ ، ووفاءٍ عظيم ، كتب «محمود درويش» اسمه واسم أمته بكل لغة في ثقافات آسيا الوسطى و امريكا الجنوبية ، والمكتبات العامة في أطراف أفريقيا ، بل ووصل بنشيده العالي وصوته الواثق الى بلادٍ لم يكد يصلها حبر الترجمة أو شغف الكتابة  ـ بحسب تعبير الصديق الكاتب والشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم جابر ـ ولم يندفع  «محمود درويش» الى بلاد العالم ضيقاً بنسبه الوطني ، أو تبرّماً من بلاد لم تتسع له ، بقدر ما رأى أن بلاده فكرة وحضارة وتراثاً خلاقاً أثرى و أكبر من أن تحشر في هذا التابوت المتطاول بين نهرٍ قليل الماء وبحرٍ نزق المزاج !

مثلت وفاته قشعريرة وطنية عارمة

ويقول «جابر»: إن محمود درويش الذي مثلت وفاته ( 9 أغسطس/ آب 2008) قشعريرة وطنية عارمة، هزت المجتمع العربي، هو «محمود درويش» الشاعر، الفيلسوف، الرائي، والمثقف الموسوعي، الذي أصيبت الأمة بخسارة معرفية قاصمة فور غيابه، لكن الشعب الذي أنجب أكثر من مليون مقاتل وشهيد وأسير ومطارد، قادر على انجاب الآلاف منهم بعد ساعة، بينما تحتاج الذروة المعرفية الخلاقة، التي ارتقى اليها «درويش»، الى عقود طويلة من الشحذ الثقافي والذهني لتكون بوسع شاعرٍ آخر، يبدأ بعدها من حيث بدأ الشاعر الراحل!

 

«درويش» كان ضلعاً من ضِلعي خارطة فلسطين ، ومكوّناً من مكوناتها الثقافية والحضارية والجمالية.

ارتقى منصة الشعر في عواصم انحنت له ولقضيته

ولم يلبث الشاعر أن صاغ جدلية فريدة ، بين قضية تحرر وطني وكفاح ضد الاحتلال وبين الانساني والجمالي والفاتن، وبين الحرب والحب، وبين سرير الغريبة والفقد الدائم لفيء القرية الفقيدة ..فارتقى منصة الشعر في عواصم صافحته بودّ وانحنت له ولشعره، ولقضيته، ولفكرته، وفي عواصم أخرى اضطرت الى الإعتراف به فنيا وجمالياً ولم تستطع إلا احترامه كمجدّد في الشعر العالمي برمّته .

ترجمة أشواق شعبه الى أكثر من ثلاثين لغة

ويتابع الشاعر الفلسطيني إبراهيم جابر: إن الجدارة التي حققها «محمود درويش» لفلسطينيته ، انه بذل جهداً خرافياً «لتنظيف الشعر الفلسطيني من الحجارة»، ومن ركام الشعارات التي علقت به، ومن الخطابة والضجيج، ليخطو به الى «العادي والبسيط» ، والى الانسانية الأكثر اتساعاً ورحابة، والى ترجمة أشواق شعبه الى أكثر من ثلاثين لغة، محققاً بذلك إجابة موضوعية وواضحة على الذين انتقدوا خروجه من «فلسطين»، وبقوا هم يكتبون القصيدة بذات «اللغة الشعاراتية الصاخبة»، لكن أكثرية من الناس، و من المثقفين أيضاً، للأسف، لا تريد أن تفهم مقولة محمود درويش التاريخية : «اننا نناضل لنصير شعباً عاديا كباقي الناس .. إنني أحلم بيومٍ استطيع فيه أن أسبّ فلسطين!!»

 

كان محمود درويش يسعى طيلة عمره، وشعره، الى مغادرة المساحة المقدسة، والطوباوية، الى نزق العادي وتفاصيله واخطائه، كان يحلم بيومٍ بسيطٍ لشعبه : إفطار في شرفة المنزل دون أن تراقبه الطائرات ..ولدٌ لا يقضي مراهقته في المعتقل ..أمٌ تتزين للأب دون أن تفاجأ بجنود الإحتلال في غرفة الماكياج ..عائلة تجتمع بكامل أفرادها في زفاف الإبنة الصغرى ..بلدٌ بلا وزارة للأسرى أو مقبرة للشهداء !!

 

ويقول «جابر»: هكذا هي «فلسطين» التي حلم بها ، والتي حملها الى العالم بأكثر صورها وضوحاً ، وربما كان منجزه وحده في هذا السياق قد تفوق على ما حققته فصائل كثيرة منذ انطلاق العمل الوطني في ستينيات القرن الماضي ، ولا أريد أن أبدو هنا بمحلّ المتجرىء على مجمل الانجاز الوطني للثورة الأكثر تراجيدية وعطاء في القرن الآفل ، لكن علينا أن نعترف أيضاً بما تحقق في النهاية على الأرض وبحصيلة ما راكمه الطرفان : السياسي والثقافي !!

قصائده جعلت من «فلسطين» مرضاً شديد العدوى تتناقله الأجيال

ففي حين فشل المستوى السياسي الفلسطيني في السنوات الأخيرة ، بتنظيم أجيال عديدة من الشباب لصالح فكرته المترددة وخياره الذي انتابته التحولات في غير مرحلةٍ ، ومِفصلٍ ، استطاعت دواوين الشاعر أن تحشد لفلسطين شعبا كاملاً احتياطياً من مواطنيها في المنافي والذين لم يروها إلا من خلال قصائده ، القصائد التي جعلت من «فلسطين» مرضاً شديد العدوى تتناقله الأجيال على تعاقبها.

 

وحين أصاب الفلسطينيين ، والعرب ، يأس فادح من تحقق فلسطينهم الكلاسيكية على الأرض، استطاع «محمود درويش» خلق فلسطين ثانية ً جديدةً لهم ، قوامها الوعد والحلم الخلّبي والعناد الجميل الذي جعل اللاجىء المنفيّ الذي لا يجرؤ أن يفكر بالعودة الى نابلس يحلم بعد أمسية من الشعر بالعودة الممكنة الى الجليل !

 

وسيبقى صاحب «الكلمة المقاتلة»، وشاعر«سيدة الأرض» المحتلة، محمود درويش، في ذاكرة فلسطين، رمزا

«درويش»، صوت المقاومة والكلمة المقاتلة، استطاع على مدار أكثر من 30 عاما أن يهز ضمير العالم ويزرع الخوف في قلوب مجتمع الاحتلال.. قدم بعدا آخر للنضال.. شق قلب عدوه بقلمه.. وخط بكلماته خريطة الكفاح العربي الفلسطيني..أعطى بعدا ثقافيا للقضية الفلسطينية..وبأشعاره وكلماته والبعد الثقافي الذي منحه للقضية، أصبح الشأن الفلسطيني حديثا للعامة والبسطاء..وجسد بشعره القضايا القومية والعربية.. كان واحدا من أهم شعراء العصر الحديث، مليء بالخيال والخبرة الحياتية، وهو ما أعطى شعره الصدق والعمق الشديدين وجعله مختلفا عن شعراء المنطقة..العاشق لتراب الوطن المحتل:

عيونك شوكةٌ في القلب

توجعني..وأعبدها

وأحميها من الريح

وأغمدها وراء الليل والأوجاع..أغمدها

فيشعل جرحها ضوء المصابيح

ويجعل حاضري غدها

أعزّ عليّ من روحي

وأنسى، بعد حينٍ، في لقاء العين بالعين

بأنّا مرة كنّا، وراء الباب، إثنين.

في شعره هويته العربية الاصيلة

كان «درويش»على رأس هذه القلة القليلة من فرسان الشعر العربي الحديث الذين نجوا من الرطانات الأجنبية، فرغم استفادته من الشعر العالمي ـ والفرنسي خاصة ـ يظل شعره نفساً عربياً خالصاً، إن عروبية شعره لا تقبل جسماً غريباً.. و«درويش» الشاعر الذي حمل على كتفيه حملا وطنيا وقوميا ثقيلا..رفض كل عروض السلطة والمناصب، لأنه يعرف أن قيمة الشاعر أعلى بكثير من قيمة السياسي..هو تجربة شعرية كبيرة، تمثل أشعاره قمة النضال والتحدي والصمود، ورغم أن هناك شعراء كثر يكتبون عن قضايا كبرى، إلا أنهم لم ينجزوا ما أنجزه درويش الذي فقدته القضية الفلسطينية، كان بحق رمزا من رموز نضالها، والقضية الفلسطينية ما زالت في حاجة اليه.

لن أساوم وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم.

بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان.

إن كان لا بد من حلم، فليكن مثلنا وبسيطاً .

هَلْ فيْ وُسعيْ أن أختارَ أحلاميْ لئلّا أحلمَ بما لا يتحقق ! .

فلنذهب إلى  الخطأ جميعاً لانه فاتحة الصواب

فارس يغمد في صدر أخيه خنجرًا بإسم الوطن ويصلي لينال المغفرة!

ونحنُ لم نحلم بأكثر من حياةٍ كالحياة أو نموت على طريقتنا.

سلامٌ لارضٍ خُلِقَت لاجل  السلام  وما رأت يوماً سلاما .

ما دمت أحلم فأنا حي لأن الموتى لا يحلمون.

 صوت الكفاح والجرح الفلسطيني

محمود درويش أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن.. يعتبر درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه..واشتهر بكونه أحد أدباء المقاومة، وحملت الكثير من قصائده القضية الفلسطينية فلُّقِب بشاعر الجرح الفلسطيني.. كل من يريد أن يتعرف جيدا على الشاعر الكبير محمود درويش الذي خدم قضية بلاده أكثر من رجال السياسة، أن يقرأ أشعاره، عند ذلك فقط سيعرف من هو« درويش»، فقد كان صوتا للكفاح الفلسطيني، ومعبرا عن المجاهدين في فلسطين..كلماته امضى من السيف، وأقوى من جنود الاحتلال:

وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ

لاتنسَ قُوتَ الحمامْ

وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنسَ مَنْ يطلبونَ السلامْ

وأَنتَ تُسدِّدُ فاتورةَ الماءِ، فكِّر بغيركَ

مَنْ يرضعون الغمامْ

وأَنتَ تعودُ إلى البيتِ، بيتكَ، فكِّر بغيركَ

لا تنس شعب الخيامْ.

«متنبي» هذا العصر

هو بحق ـ كما يقول الشعراء العرب من المعاصرين ـ  «متنبي» هذا العصر.. ولعل ما يجمعه بالمتنبي، إضافة إلى قوة موهبته ورهافة إحساسه وفرادة لغته وصوره، هو قدرته على اختزال المواقف والهواجس الإنسانية المشتركة بعبارات مكثفة تقترب من الحكم والأمثال السائرة ويرددها الناس أينما وجدوا، من مثل قوله «وطني ليس حقيبة / وأنا لست مسافر»، أو «إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر»، أو «ومن لا برّ له \ لا بحر له»، أو «يدعو لأندلس إن حوصرتْ حلبُ». أما قولته الشهيرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» فبدت أقرب إلى الحدس الشخصي بما ستؤول إليه قصائده ونصوصه الفريدة، التي ستظل لسنوات كثيرة قادمة ترفد بماء الاستعارات صحارى العرب القاحلة وزمنهم المقفر.

 

وشعر محمود درويش هو التطور الأمثل للشعر العربي القديم، تجد فيه الملك الضليل، والنابغة، وجرير، وابن الفرزدق، وابن أبي ربيعة، وبشار بن برد، وأبا نواس، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وابن الملوح، وابن الرومي، والحمداني، وابن زيدون، وشوقي، والرصافي، والجواهري، وعلي محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل.. تجد كل هؤلاء وغيرهم، لكن في صورة جديدة متطورة ومزودة بالثقافة الحديثة منصهرين جميعاً في بوتقة تغلي بنار المحنة اسمها محمود درويش:

سجل! أنا عربي

ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ

وأطفالي ثمانيةٌ

وتاسعهُم..سيأتي بعدَ صيفْ!

فهلْ تغضبْ؟

سجِّلْ!

أنا عربي

وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ

وأطفالي ثمانيةٌ

أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،

والأثوابَ والدفترْ.

توفي محمود درويش في تاريخ التاسع من شهر أغسطس/ آب من عام 2008، في مدينة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد خضوعه لعملية القلب المفتوح التي أجريِت له في مركز تِكساس الطّبيّ في مدينة هيوستن، فبعد إجراء العمليّة دخل في غيبوبة طويلة حتّى أتى أجله، وكان قد أوصى أن تتمّ إزالة أجهزة الإنعاش عنه في حالة دخوله في غيبوبة تُفضي إلى موته فكان له ذلك، وتمّ القيام بذلك من قِبل الأطبّاء في مُستشفى ميوريال هيرمان الإنجليزيّة، وبعد وفاته تمّ إعلان الحِداد عليه ثلاثة أيّام في جميع الأراضي الفلسطينيّة، ودُفن بعد نقل جُثمانه في رام الله تحديداً في قصرها الثّقافيّ في الثّالث عشر من شهر أغسطس/ آب، كما سُمّي القصر باسمه لاحقاً تخليداً لذكراه، فأصبح «قصر محمود درويش للثّقافة».

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]