بات واضحا أن حرائق الخوف، أخطر من اندلاع النيران في مناطق تجارية، وبحسابات الخسائر السياسية تبدو حرائق الخوف من المستقبل تسري في المشاعر العامة، وتكشف عمق فجوات الإحباط العام، وتراجع أي رهانات على الحاضر، وتومئ لانفجارات اجتماعية محتملة، بحسب تعبير الكاتب والمحلل السياسي عبد الله السناوي، مشيرا في مقاله المنشور اليوم بصحيفة الشروق المصرية، إلى أن التهوين من الحرائق المتتالية بـ”الرويعي” و”الغورية” و”دمياط الجديدة” ومناطق أخرى، استخفاف بتداعياتها على مستويات الثقة العامة وهيبة الدولة.
ويرى “السناوي” أن الأسباب الاجتماعية ليست كل قصة حرائق الخوف.بذات القدر، فالأسباب السياسية حاضرة إلى حدود منذرة، وبكلام آخر لا يوجد في المشهد السياسي المضطرب ما يطمئن على استقرار ممكن، والأداء الحكومي لا يمكن أن يوفر اطمئنانا ولا ثقة في أي مستقبل منظور، وبقدر اتساع المجال السياسي تتأكد ثقة أي مجتمع في نفسه ومستقبله وقدرته على حفظ المال العام وتصويب المسارات دون ترويع أو خوف، أما في دولة الخوف لا يوجد أدنى احتمال لأية مواجهة جدية مع الفساد، ولا أية مواجهة حاسمة مع الإرهاب.
ويحذر الكاتب، المقرب من مؤسسة الرئاسة في مصر، من أنه لا يمكن لأحد إنكار حالة الترويع التي تنتاب قطاعات واسعة من الأجيال الجديدة جراء الملاحقات الأمنية ومداهمات البيوت والبحث عما يدين في «ذاكرة الهواتف» وصفحات التواصل الاجتماعي، وأن الترويع يؤدى بطبيعته إلى منزلقات الكراهية وتسرب العمل العام إلى تحت الأرض بكل ما هو عنيف، وأن وثائق التأمين السياسية لنظام الحكم الحالي قد تتبدد بأسرع من أي توقع إذا ما أخذت الانزلاقات مداها، لأن النزوع المتصاعد لتقييد حريات التعبير يأخذ من المجتمع حقه الطبيعي في التنفس السياسي ويعمق فجوات الكراهية مع الأجيال الجديدة ويمنع أية توافقات ممكنة أمام الأخطار المحدقة، كما أن النزوع للانتقام استغراق في حرائق الخوف إلى مدى يصعب تحمله في بلد قام بثورتين.
نص المقال :
حرائق الخوف أخطر من إندلاعات النيران في منطقة تجارية إثر أخرى. والتهوين من الحرائق المتتالية بـ«الرويعي» و«الغورية» و«دمياط الجديدة» ومناطق أخرى استخفاف بتداعياتها على مستويات الثقة العامة وهيبة الدولة. عندما تخفق إجراءات السلامة والأمان والرقابة في خفض فاتورة أية حرائق فإننا أمام دولة تفتقد الحد الأدنى من الجدية والكفاءة والقدرة على مواجهة الأزمات. وعندما يقال إن الحرائق لا تتجاوز «المعدل الصيفي الطبيعي» فهو تبرير للإخفاق وتحلل من أية مسئولية وانتظار لكوارث أخرى.
الأداء الحكومي لا يمكن أن يوفر اطمئنانا ولا ثقة في أي مستقبل منظور. بحساب الخسائر الاقتصادية تتبدى بالأرقام أحجامها الفادحة.وبحساب الخسائر الاجتماعية فإن مئات الأسر شردت وفقدت موارد رزقها وفقدت ثقتها فى دولتها إلى حد اتهامها بالضلوع فى الحرائق لصالح جماعات متنفذة تطلب الاستيلاء على مواقع محلاتها الاستراتيجية. وبحساب الخسائر السياسية فإن الاتهام ذاته، رغم عدم معقوليته بأي منطق، يكشف عمق فجوات الإحباط العام وتراجع أية رهانات على الحاضر ويومئ لانفجارات اجتماعية محتملة. لا يمكن إنكار أن حرائق الخوف من المستقبل تسرى في المشاعر العامة.
الرئيس نفسه يقر بالظاهرة ويرجعها إلى تفشى المحسوبية والفساد غير أنه لا يكفى أن يقول «لا تخافوا» حتى يتبدد القلق من الصدور. ولا يكفى أن يتكلم عن دولة القانون ودولة المؤسسات حتى يسود الاطمئنان، فما تحتاجه مصر أن تتسق السياسات مع التعهدات. أن يضرب الفساد في مكامنه وينزع عن الخوف أسبابه. الأسباب الاجتماعية ليست كل قصة حرائق الخوف. بذات القدر فالأسباب السياسية حاضرة إلى حدود منذرة. بكلام آخر لا يوجد في المشهد السياسي المضطرب ما يطمئن على استقرار ممكن.
لا استقرار يتأسس على قمع أو فساد أو محسوبية..يحسب للرئيس كشفه عن واقعة فساد داخل أسوار الاتحادية أحالها للمحاكمة..كما يحسب للداخلية كشف وقائع فساد مروعة تورط فيها ضباط كبار في محافظة القليوبية مع ما تسمى عصابة «الدكش» دون تفاصيل تروى من وكيف ولماذا؟ فى الحالتين إشارة إلى تغلغل الفساد بمؤسسات الدولة الحساسة والاعتراف شجاعة تستحق التحية..الفساد المالي هو أحد أوجه غياب أسس المحاسبة وانفلاته يقارب فى حالات كثيرة الجريمة المنظمة وينخر في بنية الدولة.
بقدر اتساع المجال السياسي تتأكد ثقة أي مجتمع في نفسه ومستقبله وقدرته على حفظ المال العام وتصويب المسارات دون ترويع أو خوف..في دولة الخوف لا يوجد أدنى احتمال لأية مواجهة جدية مع الفساد ولا أية مواجهة حاسمة مع الإرهاب..الثقة مسألة قوة وثبات على أرض صلبة والاطمئنان لا غنى عنه لأى استقرار..إثارة الخوف قضية أخرى تنال من كل أمن.
بوضوح كامل، فإن غياب القواعد الدستورية والقانوني أفضى إلى تفلت الأمن من أدواره وتوليه الملفات السياسية بصورة شبه كاملة..بأي تعريف لدولة المؤسسات لا يجوز تغول ما هو أمنى على ما هو سياسي..التغول مشروع خوف يأخذ من المجتمع سلامته النفسية وقدرته على بناء التوافقات العامة في لحظة حرجة من تاريخه..لا يمكن لأحد إنكار حالة الترويع التي تنتاب قطاعات واسعة من الأجيال الجديدة جراء الملاحقات الأمنية ومداهمات البيوت والبحث عما يدين في «ذاكرة الهواتف» وصفحات التواصل الاجتماعي..الترويع يؤدى بطبيعته إلى منزلقات الكراهية وتسرب العمل العام إلى تحت الأرض بكل ما هو عنيف.
هناك وثائق تأمين سياسية لنظام الحكم الحالي قد تتبدد بأسرع من أي توقع إذا ما أخذت الانزلاقات مداها..الأولى، أن «كتلة الاستقرار» النسبة الأكبر من الرأي العام، ورغم إحباطات تعترى قطاعات لا يستهان بها فإنها لا تريد أن تقامر على المجهول..والثانية، أن منسوب كراهية جماعة الإخوان المسلمين أعلى بما لا يقاس بأي ضجر من السياسات الحالية.. والثالثة، الوزن الاستراتيجي للموقع المصري، فالاستقرار طلب دولي وتقويضه يؤذى الأمن الأوروبي..بحسب السوابق فلا شىء يمكن التعويل عليه للأبد.
إذا ما تفاقمت الأزمة الاقتصادية فكتلة الاستقرار سوف يتراجع حجمها. وإذا ما زاد قمع الأجيال الجديدة فإن كتل الغضب قد تقترب من كتل النار. وإذا ما تدهور بأكثر مما هو حادث سجل الحريات العامة وحقوق الإنسان فإن ذلك يقوض أية رهانات غربية على النظام المصري.
أي كلام عن فرض الحراسة على نقابة الصحفيين انتحار سياسي كامل. والكلام تحت قبة البرلمان عن «ذبح الصحفيين» ثمنه فادح في العالم والحساب عليه عسير. لا أحد فوق القانون لكن لا قضية أخرى فى العالم أكثر قداسة من حرية الصحافة. يستحيل هزيمتها بالضربة القاضية أيا كانت ضراوة الضغوط عليها..حرية الصحافة الداعم الرئيسي لأى إنجاز وكل بناء..رغم أية إنجازات عمرانية من مشروعات تشيد وطرق تشق فإنها لا تؤسس بمفردها لأى استقرار..الاستقرار مسألة مسار سياسي مؤسساته حاضرة وأدوارها فاعلة.
في أزمة نقابة الصحفيين، كما في أزمتي نقابة الأطباء والتخلي عن جزيرتي «تيران» و«صنافير»، كان العوار السياسي كاملا. حيث كان ممكنا تطويقها مبكرا جرى تصعيدها بردات الأفعال، وأحيانا بدواعي كسر هيبة «الصحفيين» وحصار أي اجتهاد خارج السياق الرسمي..وضع تضاد بين ضرورات الأمن وحرية الصحافة جريمة كاملة..بلا أمن فالمجتمع مستباح أمام ضربات الإرهاب والجريمة المنظمة، لا يقوى على استقرار ولا يقدر على جذب استثمارات.وبلا حرية صحافة فهو خارج عالمه، يفتقد إلى أية قدرة على تداول المعلومات والأفكار.
عندما يدعو الرئيس إلى نبذ الخلاف بين عناصر وأطياف المجتمع المصرى، قاصدا بصورة لا تخفى «الصحفيين» و«الداخلية»، فهذه خطوة تخفض الاحتقان لكنها تستوجب المكاشفة بالحقائق إذا أردنا التحول بجدية إلى دولة مؤسسات وقانون بنص تعبيراته..لا يمكن التقدم خطوة واحدة للأمام إذا لم تلتزم كل مؤسسة بأدوارها الدستورية، لا تتجاوزها ولا تتغول على غيرها..التغول يؤسس لدولة أمنية تتصور أن من حقها تطويع الأحزاب والجامعات والمجتمع المدنى والنقابات المهنية والمؤسسات الصحفية..دور الأمن أن يحفظ ويصون لا أن يتغول ويهدد.
أية قراءة في أزمة «الصحفيين» تنبئ عن دولة خوف تطل برأسها وحرائقها على المجتمع كله. لا يمكن تقبل استدعاء مذيعة مخضرمة في الإذاعة المصرية للتحقيق معها بطلب من الأمن فيما تكتبه بصفحتها على شبكة التواصل الاجتماعي لا على أية تجاوزات في عملها. هذه محاكمات للضمائر وخفايا الصدور لا تصح بأية دولة حديثة أو محترمة و«مكارثية» لا سابق لها. النزوع المتصاعد لتقييد حريات التعبير يأخذ من المجتمع حقه الطبيعي في التنفس السياسي ويعمق فجوات الكراهية مع الأجيال الجديدة ويمنع أية توافقات ممكنة أمام الأخطار المحدقة.
كما أن النزوع للانتقام استغراق في حرائق الخوف إلى مدى يصعب تحمله في بلد قام بثورتين.