يرى الكاتب والمحلل السياسي عبد الله السناوي، أن نكبات العرب لم تقف عند جرح نكبة 1948 الذي لم يندمل أبدا، وسقطوا في مصائد سياسية، وصولا إلى مصيدة 2016 التي تنذر بعواقب استراتيجية.. ويقول السناوي، في مقاله المنشور اليوم بصحيفة «الشروق» المصرية، أن ما حدث في النكبة الأولى، سجله الضابط الثلاثيني، جمال عبدالناصر، بخط يده «لم تكن حربا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط قتال، ولا استكشافات، ولا معلومات».
وتبدت المفارقة التراجيدية في القصة كلها أن بعض ما انتقده عام ١٩٤٨ تكرر معه عام ١٩٦٧، كان ذلك جرحا لم يفارقه حتى رحيله رغم حرب الاستنزاف وتضحياتها وإعادة بناء الجيش من تحت الصفر ليحرر سيناء بالقوة.
ويشير السناوي، إلى نكبات عربية، وسقوط في مصائد سياسية، بدءا من حرب أكتوبر 1973 وقد تناقضت نتائجها السياسية مع بطولاتها العسكرية،
وصولا إلى أخطر ما تمخضت عنه «كامب ديفيد» من عزلة مصر عن عالمها العربي، وتآكل أوزانها في إقليمها وقارتها وعالمها، ثم جاءت المصيدة الفلسطينية في «أوسلو» نكبة رابعة بآثارها السلبية على وحدة الشعب والقضية والانخراط في احترابات أهلية بين رام الله وغزة، أو فتح وحماس.
ويخلص الكاتب إلى القول، إنه لا ضياع فلسطين آخر النكبات ولا التخلي عن «تيران» و«صنافير» نهاية المصائد.
نص المقال:
ما بين جرح نكبة ١٩٤٨ الذى لم يندمل أبدا وشبح مصيدة ٢٠١٦ الذى ينذر بعواقب استراتيجية لا سبيل للتخفيف من وطأتها يطرح السؤال نفسه: هل ندرك حقا تاريخنا المعاصر، أحلامه المحبطة ودروسه القاسية؟ أسوأ ما تتعرض له أية أمة أن تخفت ذاكرتها إلى حد نسيان معاركها التي دفعت أثمانها دما وألما.. ما يوصف في الخطاب الإسرائيلي بـ«عيد الاستقلال» هو نفسه «ذكرى النكبة». لم يكن هناك تنبه حقيقي في العالم العربي إلى حجم الخطر ومواطنه حتى داهمته المذابح الصهيونية ضد فلسطينيين عزل من السلاح لاستدعاء التهجير الجماعي من أراض هي أرضهم حاملين معهم مفاتيح بيوت لم يقدر لهم أن يعودوا إليها.
تحت صدمة النكبة جرت مراجعات واسعة لأسبابها، تطرقت لأوجه الخلل في بنية المجتمعات العربية بالفحص والتشريح، وانتقدت الفكر العربي على نحو غير مسبوق، نشأت حركات سياسية من فوق أنقاضها، وجرت تغييرات جوهرية بنظم الحكم..لم يعد هناك شىء على حاله والتغير شمل كل ما كان يتحرك في العالم العربي. أية مراجعة على شىء من الجدية تكتشف بيسر أن القضية الفلسطينية كانت نقطة المركز التي تجرى حولها التفاعلات الصاخبة وتصطدم الإرادات المتنافسة، أو محور كل حركة وفكرة وحوار ينظر إلى المستقبل.
كانت ثورة ٢٣ يوليو إحدى تجليات ما بعد النكبة.بعد عودته من ميادين القتال في فلسطين باشر الضابط الثلاثيني «جمال عبدالناصر» إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» وتشكيل هيئته التأسيسية والتوجه إلى إطاحة النظام كله بمقوماته وقصوره فى «عابدين» و«الدوبارة» و«لاظوغلى». خط يده كتب في مذكراته الشخصية تحت وهج النيران في فلسطين: «لم تكن حربا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط قتال، ولا استكشافات، ولا معلومات!». وتبدت المفارقة التراجيدية في القصة كلها أن بعض ما انتقده عام ١٩٤٨ تكرر معه عام ١٩٦٧كان ذلك جرحا لم يفارقه حتى رحيله رغم حرب الاستنزاف وتضحياتها وإعادة بناء الجيش من تحت الصفر ليحرر سيناء بالقوة.
ما بين النكبة والنكسة بدا التناقض فادحا بين ضيق النظام واتساع المشروع..في ضيق النظام نشأت ظواهر بالغة السلبية نحرت بنيته ومهدت للإجهاز عليه مثل تغول بعض المؤسسات الأمنية كأنها «دولة داخل الدولة» بتعبير «عبدالناصر» نفسه..بعد النكسة دعا إلى «المجتمع المفتوح» و«دولة المؤسسات» و«الحوار مع الأجيال الجديدة» التي ترفض أسبابها وتطلب توسيع المشاركة السياسية، لا قمعها والزج بها خلف قضبان السجون، غير أن العمر لم يطل به لوضع برنامجه الجديد تحت التنفيذ.
على النقيض تماما كان مشروع «يوليو» رحبا في أفكاره وسياساته، اتسع لقضايا عصره التي تبناها وخاض معاركها في محيطه العربي وقارته الأفريقية وعالمه الثالث. بعد حرب «السويس» ١٩٥٦ خرجت مصر، المستعمرة السابقة، كقوة توضع في كل حساب وباتت عاصمتها القاهرة إحدى المراكز الدولية التي لا يمكن تجاهل رأيها..للأدوار تكاليفها، فلا يوجد دور مجانى في التاريخ.
من السويس حيث تأميم قناتها وخوض حرب غير متكافئة مع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بالإضافة لإسرائيل إلى دمشق حيث أول وآخر مشروع وحدوي عربي لم تغب القضية الفلسطينية عن حركة الأحداث الكبرى..كل شىء ارتبط بها على نحو وثيق، كأنه استطراد لصراعاتها في ميادين أخرى..فيما بعد قال زعيم «يوليو»:«إن أول دبابة انفصال كانت هي أول دبابة دخلت سيناء..نكسة يونيو كانت النكبة الثانية بالنظر إلى توظيفها لتكريس مشاعر الهزيمة رغم النصر العسكري فى حرب أكتوبر ١٩٧٣.
كان أسوأ ما جرى بعد «أكتوبر» أن نتائجها السياسية تناقضت مع بطولاتها العسكرية، وأن الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا جوائزها بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل». وفق المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية عادت سيناء بلا سيادة كاملة، وشملت ملاحقها العسكرية قيودا صارمة على السلاح في المنطقة «ج» التي تدخل فيها جزيرتي «تيران» و«صنافير»، لم تبد السعودية أية مسئولية عن استعادة الجزيرتين لا حربا ولا تفاوضا، كأن هناك من يحارب ويضحى ويفاوض بالنيابة.
كان أخطر ما تمخضت عنه «كامب ديفيد» عزلة مصر عن عالمها العربي، وتآكل أوزانها في إقليمها وقارتها وعالمها، وسيادة لغة تستهجن الانتماء العربي أو أي دفاع عن القضية الفلسطينية. هكذا بدأ الانهيار في المكانة المصرية واستباحة أمنها ومصالحها مازلنا ندفع فواتيره حتى الآن.
تلك كانت النكبة الثالثة التي شتت العالم العربي. خسارة المعاني الكبرى تفضى مباشرة إلى السقوط في المصائد واحدة إثر أخرى.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٤ مصيدة واحتلال بيروت من القوات الإسرائيلية عام ١٩٨٢ إحدى نتائج الوقوع فيها.
بإرادة المقاومة اجبرت القوات الإسرائيلية على الانسحاب غير أن الصراعات المذهبية لا تسمح رغم كل التضحيات بتجاوز أية مصائد جديدة قد تدفع البلد إلى مجهول مرعب. وكان الاجتياح العراقي للكويت مطلع التسعينيات مصيدة أخرى أذنت بانهيار النظام الإقليمي العربي وعجزه شبه الكلى عن مواجهة تحدياته وأفسحت المجال تاليا لاحتلال بغداد عام ٢٠٠٣، وبانهيار مشرقه دخل الأمن العربي كله في انكشاف تاريخي توارت خلفه القضية الفلسطينية وبات مطلوبا التخلص من صداعها.
تتحمل القيادة الفلسطينية المسؤولية الأولى في الوقوع بـ«مصيدة أوسلو» منتصف التسعينيات التي شهدت سلاما بلا أرض، بتعبير المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أو احتلالا منخفض التكاليف لا يعيد أرضا ولا يحقق سلاما. بصورة أو أخرى بدت المصيدة الفلسطينية في «أوسلو» نكبة رابعة بآثارها السلبية على وحدة الشعب والقضية والانخراط في احترابات أهلية بين رام الله وغزة أو فتح وحماس.
في كل أزمة مصيدة وعند كل منحنى نكبة.. قد تقسم الدول العربية من جديد بعد مائة عام من توقيع اتفاقية «سايكس ــ بيكو» ببلطات القوة لا الخرائط الجاهزة..هذا سيناريو وارد في كل حساب.. وقد تدخل مكوناتها في احترابات أهلية بلا نهاية.. وهذا سيناريو آخر على ذات القدر من الخطورة.
بأي استشراف للنتائج الاستراتيجية، التي سوف تترتب على التخلي عن «تيران» و«صنافير»، فإننا أمام مصيدة توسيع «كامب ديفيد» ودمج إسرائيل في معادلات المنطقة دون أدنى التزام بأية تسوية للقضية الفلسطينية..المعنى كل شىء مقابل لا شىء.
بأثر الاتفاقية تصبح السعودية دولة جوار مع إسرائيل، وقد بدأت الاتصالات الدبلوماسية والاستخبارتية والعسكرية تخرج للعلن. ذلك سوف ينال من أية رهانات لديها في قيادة العالم العربي، فالقضية الفلسطينية رمانة الميزان في وزن الأدوار والأحجام. وبآثر الاتفاقية سوف تتراجع أية رهانات ممكنة على الدور المصرى فى إقليمه. وتلك خسارة استراتيجية فادحة تنال في وقت واحد من أمنها القومي وهيبتها وأي آمال معلقة عليها.