علي الصراف يكتب: احتلال واحد.. أم احتلالان
السؤال الخطأ، لا يُفضي إلا الى الجواب خطأ.
لقد انشغل الفلسطينيون طويلا، بسؤال: دولة واحدة أم دولتان؟ وقُدمت للإجابة عليه قراءات كثيرة، وتصورات، وحسابات، وعولجت من منطلقات براغماتية تارة، وأيديولوجية تارة، وكلها كانت خطأ. لأنها سبقت السؤال الأكثر جدارة بالاعتبار، وهو: ما نوع الدولة المنشودة أصلا، وكيف يمكن الوصول إليها؟
وثمة الكثير من الأسئلة التي يمكنها أن تتفرع من هذا السؤال، من قبيل، ما هي أسسها الدستورية؟ وما هي معاييرها الأخلاقية؟ وما هي الضمانات التي يتعين أن تتوفر لتكون دولة مؤسسات، لا دولة عشائر؟ وكيف يتعين حمايتها من الفساد؟ وما هي المعايير القانونية التي تكفل للفلسطينيين بأن تُحترم حقوقهم السياسية وحياتهم الشخصية؟ وما هو دور المؤسسة الأمنية فيها؟ وكيف يمكن محاسبة المسؤولين عن أخطائهم وانتهاكاتهم؟ وهل هناك ما يضمن حق القول، وحرية الفكر؟ وما السبيل الذي يضمن لسلطة هذه الدولة أن تكون ممثلا ليس لإرادة الأغلبية فحسب، بل وضامنًا لحقوق الأقلية أيضا؟
التجربة تثبت اليوم أن السلطة الفلسطينية، السلطتان بالأحرى، انتهتا إلى أنهما سلطتا عشيرة، لا سلطة شعب. وضاعت الدولة المنشودة بين أقدام العشائريين الجدد في مؤسساتٍ لاتزال تزعم أنها تمثل إرادة الشعب الفلسطيني.
ولكن، بالانتهاكات وأعمال التعسف التي بلغت حد التصفيات الجسدية والاعتقال العشوائي والتعذيب، فقد انتهت السلطتان الى أنهما تحولتا الى احتلال آخر.
ما من شيء، مثل الذي عرفته أحداث الصراع بين العشيرتين الكبيرتين، كان متوقعا أو محسوبا. ولو عدت الى كبار مفكري السؤال: دولة واحدة أم دولتان، فإنهم كانوا سيلطمون على رؤوسهم عجبا مما حدث. ولكنه إنما حدث لأن السؤال الصحيح لم يُطرح أصلا. وهو لم يُطرح، لأنه ما كان لأحد أن يتخيل، في بيئة قدسية كبيئة الصراع مع المشروع الصهيوني، أنه يمكن للسلطة الفلسطينية أن تتحول الى سلطة فساد، أو انتهاكات أو جرائم ضد أبناء شعبها بالذات، لتكون بالتالي احتلالًا إضافيا فوق الاحتلال.
وقوفا عند هذه الحال، يجدر السؤال عما إذا كان الفلسطينيون بحاجة إلى سلطة تخذلهم، وتخذل المبدأ من وجودها، أو تتنكر للقيم القدسية نفسها، حتى وهي تزعم أنها تحميها أو تنطلق منها، على أساس الشعار، أو الحيلة، أو الخداع.
الجواب البديهي، هو أننا إذا كنا في احتلال، فما حاجتنا الى احتلال آخر؟
ولئن كان الفلسطينيون يقاومون احتلالا بشتى السبل، فإن وجود احتلال إضافي قد أنهك قدرتهم على مناهضة الاحتلال الأول. وشتت طاقاتهم، كما أزاغ البصر والبصيرة عن النظر في المأساة التي يعانون منها. كما أعجزهم عن تطوير المقاومة نفسها ضد الاحتلال. ببساطة لأنهم انشغلوا بما تفعله السلطتان، وبما تتنكر له، وبما تمارسه من توريات.
لقد قدمت السلطتان الفلسطينيتان الكثير جدا من الأدلة على الفشل السياسي والإداري والقيمي والأخلاقي. وصار في يدها دماء فلسطينيين آخرين أيضا. وهذا وحده كاف، للقول إنها تحولت من مكسب سياسي، إلى ضرر جسيم، يكاد يعجز المرء عن إحصاء عواقبه الكارثية.
سلطة الفشل هذه، بما تراكم لديها من قدرات تسلطية، وبنى عشائرية، تحولت إلى عائق يكاد يحسم السجال الأساسي، حول “حل الدولتين”. ذلك أن مؤسسة سياسية غير قادرة على أن تقيم دولة شعب، لا دولة عشيرة، لم يعد من الصحيح ولا من اللائق أن تُمنح صفة الدولة. وبات من الأفضل لشعب واقع تحت الاحتلال أن يقاتل احتلالا واحدًا لا احتلالين.
حل سلطتي الفشل، وتسليم المفاتيح لدولة الاحتلال، هو الحل الوحيد الصحيح، لكي يمكن للمقاومة ضد الاحتلال أن تنهض من جديد. وذلك حتى يُصبح بالإمكان بناء دولة حقيقية على دستور وأخلاقيات وقيم، وحتى تتوفر الأسس والمعايير التي تضمن ألا تتحول السلطة الفلسطينية إلى احتلال آخر.
الإسرائيليون ليسوا كلهم وحوشًا. ومن المفيد حتى للوحوش منهم أن تكون دولتهم قائمة على أسس أخلاقية وقانونية صحيحة.
وهو ما يعني أن النضال الفلسطيني من أجل العدالة والمساواة يمكن أن يتحول الى قوة كبرى داخل “الدولة الواحدة”.
الاحتلال الذي يبدو اليوم، وكأنه سيطرة أمنية وعسكرية على الأرض، سوف ينكشف على وجهه الآخر، كجريمة ضد الإنسانية بما يمارسه من انتهاكات تتعدى مجرد الاستيلاء بالقوة على الأرض.
التجربة العملية أظهرت، بنفسها، أن وجود سلطة فلسطينية غير ناضجة دستوريا ولا أخلاقيا، لا يمكنها أن تنطق بلسان قضية إنسانية مقدسة كالقضية الفلسطينية، ولا أن تمثل شعبها.
سلطة العشيرة، ليست كسلطة الشعب. والمخادعات يحسن أن تتوقف. وكلما أسرع الفلسطينيون بتفكيك هذه السلطة، كلما أصبحت قدرتهم على مواجهة الاحتلال أفضل، وكلما توفر المزيد من السبل للمقاومة أن تواجه الجريمة الأساس.
فلسطينيو العام 48، لا يعانون المرارات على نحو مضاعف، مثلما يعاني فلسطينيو السلطتين. وهم يقاومون الاحتلال وجرائمه بوسائل لا حصر لها. وما من شيء فيها إلا وكان فعالا. من السياسة الى الفن. ومن التقاليد الاجتماعية الى التراث. ومن القصيدة الى المشاركة في المؤسسات. وإذا شئت الحقيقة، فإن قدرتهم على التأثير السياسي والأخلاقي تتحول يوما بعد آخر الى قوة حاسمة. وهم الذين يقلصون مساحة الوحشية بين الإسرائيليين الذين يكتشفون أنهم، هم أيضا، بحاجة الى العيش بسلام.
وجود سلطة فلسطينية تعجز عن الارتفاع الى مستوى القيم الأخلاقية والدستورية العالية، إنما يرفع عن كاهل الإسرائيليين العتب، ويدلق الماء على ما ترتكبه حكومتهم من انتهاكات ضد “الغير”. وذلك بما أن سلطة الغير تفعل الشيء نفسه.
احتلال واحد يكفي. ومصيبة واحدة خير للضحايا من مصيبتين.
تحتاج العودة الى خيار “الدولة الواحدة”، أن تبدأ من قراءة الفشل الذي جسدته السلطتان على امتداد عقدين من الزمن، وكذلك من المعوقات التي جعلت إسرائيل تخاف منه.
شعبان في دولة واحدة، يمكن أن يكون خيارا قابلا للدرس، بحيث لا تقع “الدولة الديمقراطية الواحدة” تحت تهديد “القنبلة الديمغرافية”، ولا يبقى الاحتلال احتلالا، ولا يتواصل القهر والتمييز والعدوان.