علي الصراف يكتب: ساحة التحرير والغلّ العتيق
كل ساحات العراق هي ساحة تحرير. وكل شوارعه هي شوارع احتجاج ضد سلطة المليشيات الإيرانية. فلا تحسبن تجريف ساحة التحرير نصرا لتلك المليشيات، ولا تحسبن الانتفاضة لن تتجدد. ولا تحسبن الضحايا ألقوا رحلهم إلى غير رجعة. سقطوا مضرجين، ولكنهم جعلوا أقدامهم أعلى من رؤوس الحاكمين. ماتوا لتحيا قيم الحرية في كل ساحات التحرير، لا في ساحة تحرير واحدة.
الأسباب هي ذاتها الأسباب التي جعلت من العراق بلدا يئن تحت وطأة الفقر والجهل والمرض. والوباء هو ذاته وباء الطائفية الذي سعت سلطة المليشيات أن تجعله سُلّمها الى الجريمة.
ولذلك لم يخش المتظاهرون كورونا. لأن الوباء الأكثر فتكا كان يفتك بكل مظهر من مظاهر الحياة، في كل ما حولهم.
انتفض العراقيون لأنهم ما كانوا ليخسروا شيئا إلا أغلالهم. أما الغل الصفوي، فقد ظل يعتمل فيهم قتلا وتجريحا.
إنه غل 500 عام. بل أنه غل 1350 عاما. بل أنه غل 4500 عام.
في الأقرب من هذا السجل، كان أحفاد الشاه إسماعيل الصفوي يُحركون غلمانهم في العراق، فحاصروا بغداد وجوعوها وأشاعوا فيها القتل والدمار، كما عاد ليفعل اليوم غلمان الولي الفقيه.
وفي مرتبة الغل الثاني، انهزم الفرس المجوس أمام جيش المسلمين في القادسية ولكن ولي النار ظل يوقد جمراته تحت رماد الكراهية للإسلام وللعرب أجمعين.
وكانت الحضارة السومرية، في رقيها وغناها وأدبها، سببا لغزوات قطعان الهمج، على الجانب الآخر، التي طغى عليها الحقد والغيرة، فجعلهم لصوصا يسرقون الخيرات مثلما يفعل اليوم مليشيايو الولي الفقيه على نحو شديد التشابه، يا سبحان الله.
إنه غل عتيق. صنع من بلاد فارس أرض جريمة لا تعرف لماذا لم تلتفت شرقا لتخلي غلها في غيرنا، وبقيت عينها مصوبة الى العراق كعيني أفعى تنتظر أن تنفث سُمها فيه، أو لتسرق عشبة الخلود.
إنه غل عتيق، لا تعرف كيف لم يشف حتى بعد مرور 4500 سنة، أو ما الذي جعله يتقد حقدا تحت رماد العصور، بل وحتى بعد أن وقعت المصيبة بأن أصبح المجوسُ مسلمين، فحولوا الدين الى طائفة، والطائفة الى مجزرة.
فلما انتفض العراقيون، وهم تحت سلطة ميليشيات إيران، تسارع لفيف الظلام لكي يُثبت قدرته على القتل والترويع.
رأوا في تلك الانتفاضة مُرّ هزائمهم على مَرِ التاريخ، فهبوا إليها بالرصاص الحي وبالسكاكين. وما كانوا ليهدأ لهم بال حتى حولوا ساحة التحرير الى ساحة مجزرة.
الساحةُ التي شهدتْ انتفاضةَ عامٍ كاملٍ، قُتلتْ في نهاية المطاف. إنها الشهيدُ الأخير.
ستُمئةِ متظاهرٍ وساحة، قتلوا برصاصِ قواتِ الأمن والمليشياتِ الخاضعةِ لإمرةِ الولي الفقيه.
ستمئةِ متظاهرٍ وساحة، جُرح في جوارهم أكثر من 300 ألف متظاهر، بينما جروح الساحة نفسُها تحولت الى حرائقَ تم نشبُها في خيامِ المتظاهرين من جانب أنصار المليشيات الذين تسللوا الى الصفوف المفتوحة، ليرشوا ملح الانتقام على الجراح المفتوحة.
عدائيةُ المليشياتِ التابعةِ لإيران، ونفاقُ بعضها الآخر، انتهت الى أن حوّلت الساحةَ وجوارَها الى أرضِ مجزرةٍ ضد عُزّل. وحققت نصرًا على ركامِ الحريقِ، وصورِ الشهداءِ وبقايا العرباتِ التي كانت تنقل الجرحى. إلا أنه لم يكن نصرا على الصوتِ الصَديحِ ضد نظامِ الجريمة والفساد.
هي أطولُ تظاهرةِ احتجاجٍ في تاريخ العراق. ولكن طولَها لم يكن طولَ زمنٍ امتد الى عامٍ كاملٍ، بل طولَ جغرافيا امتدتْ الى مختلفِ مدنِ العراق ومحافظاته.
شيءٌ سوف يظلُ بمثابةِ علامةٍ على طريقِ التحرير الطويل، من البصرة حتى ساحة التحرير.
مصطفى الكاظمي لم يجد ما يقوله، في تأبين الساحة، إلا المواساةِ، قائلا في تغريدة له “إن العراقَ لن ينسى شبابه. وإن الانتخاباتِ الحرةِ النزيهة هي موعدُ التغييرِ القادم الذي بدأه الشبابُ بصدورهم العارية”.
بقي أن تكون الانتخابات حرةً ونزيهةً فعلا، وهو ما قد لا يتحقق، ما بقيَ الميليشياويون سادةَ الباطنيةِ والتزوير.
أحدُ مغردي الحرية كتب على تويتر يقول إن “ما ترفعه الجرافةُ ليست أنقاضا، بل تاريخَ شعبٍ وقصصَ ضحايا كُتبت قبل عام، وما زالت تكتب”.
ساحةُ التحرير التي كانت رمزًا تجاوزَ كلَّ العهود، ستبقى رمزًا. حتى أنها الآنَ أبلغُ قيمةً بما اصطبغتْ به من دماء، وبما رَجّ أركانَها من هتاف.
والانتفاضةُ لم تنطفئ. والقصصُ لا تزالُ تَسردُ ملحمةً ليستْ أقلَ طولاً ولا معنىً من ملحمة جلجامش. فالصراعُ بين الخيرِ والشر، هو قصةُ العراقِ التي لا تنتهي. ويَصعبُ أن ترفعها جرافات، ولا أن يواسيها تأبين. ولئن سُرقت عشبة الخلود، مرة بعد مرة، فإنها مسعى كُتب على العراقيين أن يسعوا إليه.
والغل هو الغل. بدأ قبل 4500 سنة، وسيظل قائما لـ 4500 سنة أخرى. لن تشفيه تبدلات العصور ما بقي ولي النار ينفخ في جمر الحقد العتيق.