علي الصراف يكتب: طالبان.. فرصة أخيرة للفهم
لن يطول الوقت قبل أن تشعر حركة طالبان بالندم على اليوم الذي سارعت فيه بالعودة إلى حكم أفغانستان.
عادت طالبان لتدخل إلى كابول من الباب العريض، إنما لتكتشف أن نجاحها هو ذاته الفشل، وأن انتصارها السريع كان هو الهزيمة.
بعض دوافع إدراك الفشل المبكر، أو الصدمة المبكرة للنجاح المفاجئ، أقنع قادة هذه الحركة بأن يعلنوا أنهم تغيروا، وأنهم لن يمارسوا أعمال القمع التي مارسوها من قبل، وأنهم يعتزمون إقامة “حكومة شاملة”، ويحترمون حق المرأة بالتعليم والعمل، ولن يسمحوا بتحويل أفغانستان الى مرتع لمنظمات الإرهاب، وغير ذلك من الوعود التي ما تزال يتعين على الواقع أن يُثبت صدقها. ولكنها لن تصدق. لا تتوفرُ أسسٌ لصدقها أصلا.
الدوافع البراجماتية التي تقنع الحركة بتقديم كل تلك الوعود، لا تتوافق مع موقفها الإيديولوجي. وتنظيم قادم من معايير الريف ومفاهيمه، لن يستطيع أن يتوافق مع معايير المدينة ومفاهيمها. واقتصاد تجارة الخشخاش إذا كان قد وفر للحركة موارد لتمويل أعمالها المسلحة، فانه لن يكفي لإدارة دولة تبلغ ميزانيتها نحو 12 مليار دولار سنويا، 80% منها كان مساعدات أمريكية. والمجتمع الافغاني الذي حكمته بين عامي 1996 و2001، لم يعد هو نفسه. وإذا كانت سمعة طالبان السيئة قد سبقتها، فإن طبيعتها المليشياوية، لن تفعل سوى أن تزيد هذه السمعة سوءا. والحديث عن إقامة “إمارة إسلامية” يكشف أنها ما تزال أبعد بنحو 10 قرون عن معنى بناء دولة. ولئن سمح القمع الشديد والإعدامات في الشوارع لطالبان أن تحكم 15 سنة بعد انهيار حكومة نجيب الله عام 1996، فإنها في ورطة إذا لم تمارسه، وفي ورطة أكبر إذا عادت إليه. والعالم الذي يحيط بأفغانستان لم يعد هو نفسه أيضا. حكومتها السابقة كسبت شيئا من فوائد الصراع بين القوتين العظميين. أما حكومتها الحالية، فإنها لم تكسب اعتراف أحد. ولا قبولا غير مشروط من أحد. وليس من المتوقع أن تحصل على مساعدات عاجلة من أحد.
كل هذا يعني أن حركة طالبان عادت لتدخل كابول، عبر ممر سريع، من الكهف إلى عالم لا تعرف أوله من آخره. كما لا تعرف من هم الذين تريد أن تحكمهم، وما شكل الإدارة التي يتعين أن تنهض بحياتهم، ولا من أين ستأتي بالموارد لتوفير الأساسيات. ولا كيف ستدفع رواتب ملايين الموظفين الحكوميين، أو ما إذا كانت ستتركهم يتضورون جوعا.
لقد صُعق الأفغان بتقدم مقاتلي الحركة الخاطف. ولكن لم تمض سوى أيام على توليها السلطة، حتى بدأت أولى مظاهر المقاومة المدنية تظهر في احتجاجات ترفع العلم الوطني.
نساء وشباب من الجيل الذي لم تتعرف طالبان عليه، ولم تفهمه، هو الذي يتصدر هذه المقاومة. وهي تبدو لهم خارجة من كهف أيديولوجي لا علاقة له بما يعرفونه من شرائع دينهم وقيمه وأخلاقياته.
ولو توفر للحوار الذي يجريه قادة الحركة مع بعض أركان النظام السابق، أن يتوصل الى التزام واحد هو الكفُّ عن القمع والوحشية، فهذا وحده سوف يكفل سقوط إمارة الحركة، وسوف يُريها من تكون بالنسبة لملايين الأفغان.
التراجع أمام مقاتلي حركة طالبان كان مذهلا. ومن دون حاجة الى “نظرية مؤامرة”، فإنه كارثة حقيقية على حركة صار يتعين عليها أن تتدبر شؤون البلاد، من دون أن تعرف كيف، أو من أين تبدأ، أو بماذا؟
يستطيع المرء أن يتخيل السيناريو التالي: “أتقاتلون من أجل السلطة؟ تعالوا، لتأخذوها من دون قتال، الباب مفتوح، لنرى ماذا ستفعلون”.
ولأن الواقع أكثرُ تعقيدا وأبلغُ تدبيرا من أي مؤامرة، فلقد كان هذا هو ما حصل.
حكمة الحياة، هي الفخ الذي نصبه “المتراجعون” أمام طالبان لتتعثر بنجاحها نفسه.
الفرصة متاحة الآن، لكي تفهم هذه الحركة أنها لم تفهم شيئا. ولتعرف أنها تجهل ما تغير في مجتمعها ولم تستطع أن تراه، ولم تتعرف على أسسه.
طالبان لن تنجح، ليس لأن هناك مقاومة مسلحة قد تنهض ضد سلطتها في بعض الأقاليم، وليس لأن تنظيمات الإرهاب القريبة منها سوف تظل شوكة في القدم، وليس لأنها لن تعرف كيف تتدبر شؤون البلاد الاقتصادية، وليس لأن الأزمات سوف تظل تلاحقها الواحدة بعد الأخرى، وليس لأنها وقعت في الوسط بين مطالب العالم وبين عجزها، بل فوق هذا كله، لأنها عادت لتحكم شعبا مختلفا، لم يسبق لها أن تعرفت عليه، حتى ليبدو لها شعبا عجيبا، وحتى لتبدو هي له، كائنات أعجب.
عشرون عاما مضت بين سقوط حكومة طالبان الأولى وبين عودتها الى كابول، كفلت ظهور جيل مختلف، وعلاقات اجتماعية مختلفة، ونظام حياة مختلف. ولسوف تندم حركة طالبان على اليوم الذي عادت به لتحكم من قبل أن تتاح لها الفرصة لتفهم ما يحيط بها.
الذين تراجعوا أمام طالبان يتعرضون للانتقادات. ولكن طالبان نفسها هي التي سوف تسألهم: “لماذا تركتم لنا الباب مفتوحا؟ أما كان يجب أن تمنحونا الفرصة لنفهم؟”
الإشارات التي تقدمها طالبان للتصالح مع شعبها والعالم، هي محاولة للفوز ببعض الوقت لكي تفهم ما تغير من حقائق بين إدارتها السابقة لأفغانستان وبين “نصرها” الراهن.
سوف تفهم أنه لم يكن نصرا. إنه محنة ومشروع فشل طويل الأمد.