علي الصراف يكتب: وصفة للنصر المؤجل
كلما كانت معركةُ الحريةِ كبيرةً، كلما تطلبت أحراراً أكبر. تلك هي أولى خطى النصر، إذا كنت حريصا عليه، وهي.. “أول الوصفة”.
والنصر قد يبدو صعبا، إلا أنه ليس مستحيلا. وغيرنا جربوا “وصفته” مراتٍ ومرات. يكفي أن يكون الأحرارُ أحراراً فعلا حتى تنبتُ بذرة النصر بين أيديهم.
العراقيون، مثلهم مثل الفلسطينيين، يخوضون معركة حرية لا أكبر منها ولا أعتى. ولكن ثمة أحرار، في صفوفهم، و”أنصاف أحرار”.
لا تفهمني خطأ. نعم يوجد أحرار على كفايةٍ من الثبات، إلا أن الجدب والفوضى واضطراب الخيارات تُظهرهم وكأنهم زبد، رغم أن كل شيءٍ عداهم، هو الزبد.
وهذه أيامٌ عظيمةٌ لمن يراقبون كيف يحفرُ التاريخُ مجراه. فالكلُّ يرى، بالخبرة المباشرة، أنك عندما تتعامل مع قضية الحرية ببصيرة الدفاع المستميت عن الحق، تكونُ شيئاً. وعندما تتعامل معها بـ”بصيرة” السمسار، تكون شيئا آخر.
السياسةُ السائدةُ هي السمسرة. ونموذجُها صارخٌ في العراق وفلسطين. ففي كلا المكانين توجد حكومات سمسرة. ويوجد سماسرةٌ يبيعون ويشترون ويبحثون عن “الممكن”، ليس في الحكومة وحدها، بل وفي “مقاومتها” أيضا. فينتهون بتنازلاتٍ، ثم تلي التنازلاتِ تنازلاتٌ أوطأ منها. فلا يخرج أحدٌ منها كاسباً، إلا الغزاة.
لقد عثر الأميركيون والإسرائيليون على “أفضل” ما يناسبهم في الشعبين من نماذج للسياسة. وهؤلاء لم ينزلوا من الفضاء. لقد نبتوا هناك. على تلك الأرض. انهم جزءٌ لا يتجزأ من “الشعب” الذي تحولت قيمُ الحريةِ فيه الى زبدٍ يصارعُ من أجل البقاء. الأحرارُ يُقتلون أو يذهبون الى السجون. أما السماسرةُ فيشكلون حكوماتٍ ويرتقون وزارات، لأن هذا هو المطلوب بالضبط.
هل تشعر بالقهر عندما ترى الزيف والانتهازية والعمالة تقدم نفسها على أنها “انتصار”، وعلى أنها “سياسة”، وعلى أنها “وطنية” أو “نضال”؟
أعرفُ ما تشعر به، فأنا أعانيه مثلك. ولكن هناك سبب. وهو أن بعض أحرارك ليسوا على عنادِ الأحرارِ بعد. وليسوا، مع بصيرة الحق، على رباطٍ بعد. وبفضل قلة الأحرار “ينتصر” الزبد، وتنقلبُ الأشياء حتى لتبدو العمالةُ وطنيةً، والمقاومةُ إرهاباً، والسمسرةُ سياسةً!
ثمة ما ينقص في معترك الحرية الذي نخوضه. والقتلة والمجرمون والفاسدون والمنافقون لا يسودون لأنهم جاءوا على ظهور الدبابات، بل لأن قيماً بكاملها هي التي اندحرت قبل أن يأتي الغزاة!
وثمة من الأحرار مَنْ صار أقل حرية، لأن ضيق العيش صار يدفعهم الى البحث عن “طرقٍ سريعةٍ” و”صفقات”، حتى بدوا وكأنهم ماضون في الطريق ليكونوا جزءا من مشروع الاحتلال.
الذين كانوا يحتلون العراق ليسوا هم الأميركيون. انحطاط القيم هو الذي يحتله الآن حتى بعد أن تركه الغزاة. فكّر بالأمر، وستجد أن من المستحيل على 150 أو 300 ألف جندي أن يحتلوا بلدا فيه 25 مليون حر. لو وزّعت كل أولئك الجنود على المدن، فلن تجد واحدا في كل عشرة شوارع. فمن أين جاء الاحتلال؟
والاسرائيليون ليسوا هم الذين يحتلون فلسطين. ولو ضرب الفلسطينيون أقدامهم بالأرض بتوقيتٍ واحدٍ كلَّ صباح، لعرف الإسرائيليون لمَنْ تعود هذه الأرض. ولكان الأمرُ نشيداً يومياً من أناشيد الحرية… بالأقدام، أبلغُ تأثيراً من الصواريخ.
ولكن الأحرارَ هنا، بقلةِ الأحرارِ هناك.
ولا تخطئ. لسنا بحاجة الى “جماهير” بالمفهوم السطحي السائد. نحن بحاجة الى أدلاء يدلون شعبهم على الطريق الى الحرية؛ الى مناضلين يقيمون الدليل بزهدهم، على أنهم أحرار؛ يترفعون فيما بينهم عن كل اختلاف؛ يركزون أنظارهم على عدوهم وحده، ويضعون الحقَّ نصب العين، ولا يطلبون نصفه، بل أقصاه!
فالحقُّ لا يكون حقاً بالأنصاف.
والذي يبيع شَعرةً واحدة من حقه، سيكون من “الواقعية” أن يبيع رأسه في آخر المطاف.
ولسنا بحاجة الى “حركة جماهير” عفوية تصنع لنا الثورات. نحن بحاجة الى حركةٍ وطنيةٍ بصيرةٍ، تحتكمُ الى الضمائر، وتنتصرُ للحق، ولا تساوم عليه؛ فتقدم للجماهير المثال، وتقودها بقيمه وأخلاقياته. وتقبل المشي على درب الآلام من أجل الحق. وتقبل كوي النار. لأنه سيكون بردا وسلاما عليها، كما كانت بردا وسلاما على إبراهيم.
كلُّ عبقرية الثورة التحررية العظمى في الجزائر تكمن في أنها عرفت كيف ترسم الحد بين الحق والباطل، وعرفت كيف تتمسك به حتى النهاية. فانتصر الحقُّ (لأنه حق)، وزهق الباطل (لأنه باطل).
ولحفظ المسافة بين الحق والباطل، كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقول: “والله، لو قال الفرنسيون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لما قلتها”. وهو رجل دين أمضى عمره يردد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لترى كم هي عزيزة عليه تلك الكلمات.
فحتى لو كان الفرنسيون قد رفعوا راية “لا إله إلا الله” على رؤوس الأشهاد، فما كان ذلك ليعفيهم من أنهم غزاة. فكُتبت لهم الهزيمة.
بصيرةُ زهدٍ، حرةٍ، مستقيمةٍ، عنيدةٍ، هي ما كان يقف وراء الأحرار في الجزائر. وهي ما كان رباطهم، حتى هرب الغزاة.
تذكّر هذا، واسأل نفسك: مَنْ هم الذين يقولون الشيء نفسه للاحتلال الصفوي في العراق أو الصهيوني في فلسطين، وستعرف كم يوجد لديك من أحرار!
لا يقلقني أن يظهر عملاء الاحتلال وكأنهم حقيقة مطلقة. لأنهم زبد. ولكن يقلقني أن يتصرف الأحرار، حيال قضيتهم، وكأنهم زبد، بلا بصيرةٍ وبلا رباط.
كان المهاتما غاندي يقول: “حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي تخشاه”.
فهل حققنا “انجازاتٍ عظيمةً” بالصاروخِ والقذيفةِ والمتفجرة؟ شكراً. لقد كان ذلك مفيداً، إلا أنه لم يكفل النصر بعد.
مقاتلون يضعون الحقَّ نصب أعينهم، لا يقدمون تنازلاتٍ للباطل، لا يفتحون البابَ موارباً لعدوهم، ولا يتسللون إليه من الشباك. أولئك هم الأحرار.
لو كان الأحرارُ الجزائريون “واقعيين” ويتعاملون مع “فن الممكن”، لكان شمال أفريقيا كله اليوم فرنسيا!
السياسة مع الغزاة ليست “فن الممكن”، بل فن المستحيل.
تلك هي “الواقعية” الوحيدة. وكلُّ ما عداها سمسرةٌ وتسويةٌ مع الباطل.
ويساوم بعض الفلسطينيين على حق شعبهم، ولكن هل تعرف لماذا؟ لا، ليس من أجل أن يأخذوا راتبا أكبر فقط، بل لكي تمتد دويلة “اسرائيل” من النيل الى الفرات.
وهناك اليوم على جناحيها سمسارٌ يثرثر هنا، وسماسرةٌ يثرثرون هناك. فما أتعس الحياة بما يثرثرون.
ولكن، ضع السماسرة جانبا، وسترى أن “الممكن” الصحيح الوحيد هو ما يبدو مستحيلا. وهناك من تاريخ الثورات الكثير مما يُثبت الحقيقة، المدهشة في صوابها، وهي أنك لكي تكون واقعيا، يجب أن تطلب المستحيل.
كلُّ الانتصارات الكبرى، كانت في وقتٍ من الأوقات، مستحيلات. من المسيحية الى الإسلام الى كل الثورات،.. حيث كان العالمُ برمته شريكاً في إحلال الظلمات.
يوم كان المسلمون يحفرون الخندق حول المدينة، خوفا من غزوة “الأحزاب”، شكا المسلمون من صخرة عصيت عليهم. فنزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إليها بمعوله، “فقال بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر. وقال الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا. ثم قال بسم الله، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال بسم الله وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا”.
المنافقون ضحكوا. قالوا: المسلمون يحفرون خندقا من الخوف، ونبيهم يرى أبواب الشام والمدائن واليمن. ولكن، صدق الله وعده للأحرار الذين لم يقبلوا التسوية، وأصروا على المستحيل، فتحقق.
نعم، السياسة هي “فن الممكن” بين أمير ميكافيلي وآخر. ولكنها ليست كذلك بين الضحية والجلاد.
عندما تكون العلاقة بين الضحية والجلاد قائمة على “فن الممكن”، فالجلاد هو الذي ينتصر فيها دائما.
فلا تخدع نفسك بالباطل، ولا بإمكان العيش في منطقة وسطى بين الحق والباطل.
اقرأ من فصول التاريخ ما شئت، وسترى أن معارك الحرية الكبرى لا تقبل أنصاف الحلول، ولا أنصاف المقاتلين، ولا أنصاف الأحرار.
وأن تُمسك بالعروةِ الوثقى، ذلك هو الرباط، وذلك ما يخشاه الغزاة.
فاقبض بكلتا يديك على جمرة المستحيل، وعلى أرض الحق رابط. فبذرة النصر تُزرع هناك.