علي شندب يكتب: بايدن والمشاريع الإقليمية وحراك تونس
كلنا يذكر الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما من على مدرج جامعة القاهرة. غنه الخطاب الذي كشف عن التخادم وزواج المصلحة بين الإدارة الأوبامية وحركات الإسلام السياسي السنية والشيعية. وهو الخطاب الذي كانت شيفرته غير السرية عبارة “السلام عليكم” التي استهل بها أوباما خطابه القاهري. وهي العبارة التي بدت كأمر عمليات لتنفيذ ما تضمّنه عقد زواج التخادم بين قطبي الإسلام السياسي.. الغخوان، وتركيا وملحقاتهم في الساحة السنية من جهة، وحزب الدعوة وغيران وأذرعتها في الساحة الشيعية من جهة أخرى.
وقد عمل طرفا الإسلام السياسي السني والشيعي بتناغم وتنسيق وتكامل في بعض الدول، مثل تونس، مصر وليبيا التي قاتلوا فيها جميعا تحت رعاية الناتو وراياته بهدف اغتيال القذافي وإسقاط الدولة الليبية التي نالت منها تحريضات زعيم حزب الله حسن نصرالله ومرشده خامنئي بذات القدر الذي نالته من البوارج التركية والأساطيل الناتوية.
وما جمع أطراف الإسلام السياسي في هذه الدول، فرّقهم في سوريا بشكل واضح، حيث وقف الإيرانيون وأذرعتهم إلى جانب الدولة السورية. فيما وقف الأتراك إلى جانب الإخوان والفصائل الموالية لهم. لكن هذا الافتراق في سوريا لم يتحول اقتتالا بين أتباع تركيا وإيران. فقنوات التواصل لم تزل مشرعة، وكذلك الجهود التي يتبرع بها نصرالله لمحاولة ترميم العلاقة بين حركة حماس والقيادة السورية بهدف إرساء مصالحة بينهما تقتضيها المصلحة الإيرانية العليا.
وإلى ترسيخ وتمدّد نفوذها وأذرعها في دول المنطقة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وغزّة، حصدت إيران من زواج المصلحة والتخادم مع الإدارة الأوبامية اعترافا ثمينا بمشروعها النووي من خلال الاتفاق الذي وقعته مع دول 5 +1 بالإضافة الى رفع العقوبات الأميركية عنها وليس انتهاء بالإفراج عن مليارات الدولارات المجمّدة في خزائن “الشيطان الأكبر”، وهي تتطلع اليوم إلى ترميم الاتفاق الذي مزّقه دونالد ترمب مع سلفه بايدن.
في حين حصدت تركيا والإسلام السياسي الإخواني، فرصة استلام السلطة كليا أو جزئيا في مصر، تونس وليبيا، دون أن يتمكنوا من الحكم، وقد فشلوا في تقديم أنفسهم كنموذج يمكن البناء التراكمي عليه. فقد أثبتت الوقائع أنهم ونظراءهم من الميليشيات الشيعية عناوين بارزة للفساد ونهب المال العام وإشاعة الفوضى والتغوّل على الدول والمجتمعات التي تضمهم، فضلا عن وصمهم جميعا بالإرهاب الذين استُخدموا كأدوات لمحاربته، وبعد انتهاء استخدامهم صنفوا كإرهابيين من قبل الراعي الأول لمكافحة الإرهاب.. الإرهاب الذي بات بيد أميركا كالسيف الذي تنتقم به ثم تنقتم منه. وثمة وقائع كثيرة تتحدث عن ذلك، لعلّ آخرها إدراج فالح الفياض رئيس الحشد الشعبي، ورموز الحوثيين في اليمن على لوائح الإرهاب الأميركية.
وإذا كانت ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد اتسمت بتنفيذ تعهداته لمواطنيه خلال حملته الانتخابية، فينبغي علينا التوقف عند الجملة غير العابرة التي تضمنتها الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي الجديد جون بايدن.
فعبارة “إن شاء الله” التي استخدمها بايدن في سياق السخرية من غعلان ترمب عن نيته دفع الضرائب عن ثرواته المالية والعقارية، فعلت فعلها في أوساط المدرجين على لوائح الإرهاب من جماعات الإسلام السياسي التي تمنّي نفسها بأن تكون “إن شاء الله البايدنية” استكمال لـ “السلام عليكم الأوبامية”. استكمال نراه في احتفاء إيران والمتأيرنين وأيضا الإخوان ومن في حكمهم من سقوط ترمب في الانتخابات المنصرمة.
وما يدفعنا إلى سوق مفاعيل السلام عليكم الأوبامية هو تداعياتها التي حولت المنطقة حريقا لم تنطفىء نيرانه بعد، فهل ستكمل البايدنية فعليا من النقطة التي بلغتها الأوبامية؟
ما يلح في طرح السؤال، أن أغلب فريق عمل البيت الأبيض الجديد، الممسك بمفاتيح الأسلاك الدبلومسية والسياسية في الخارجية والبنتاغون فضلا عن وكالة المخابرات المركزية الـ CIA، هو ممّن ساهم وبشكل جوهري ومحوري في صياغة عقد زواج التخادم بين حركات الإسلام السياسي والإدارة الأوبامية، وخصوصا الاتفاق النووي مع ايران، وهو الفريق الذي كان فيه بايدن يجلس على يمين اوباما. وهو الفريق الذي وبغض النظر عن المصلحة الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة لديه ثأر شخصي مع ترامب وسياساته الداخلية والخارجية، وهو ما تراقبه دول وشعوب المنطقة باهتمام لمعرفة حجم التعديلات والتغييرات التي سيدخلها بايدن على الاستراتيجية الأميركية تجاه الدول العربية خصوصا تلك التي حُقنت بإبرة الثورة، فاستثيرت عصبياتها ومكنوناتها دون أن تثُر.
وفي هذا السياق الثوروي، احتلت تونس الصدارة هذه الأيام في حراك مستجد وصفته نخب تونسية متباينة الآراء بالحراك التخريبي وليس الثوري، سيما وأن هذا الحراك قد انطلق وبوتيرة واحدة حرقا وتكسيرا ومواجهات مع القوى الأمنية بشكل تزامني بين الولايات التونسية من القصرين وسوسة والمونستير وباجة وسيدي بوزيد وغيرهم وصولا الى العاصمة تونس.
إنها الاحتجاجات المعتملة في النفوس بسبب الأوضاع المعيشية والاقتصادية والسياسية الرديئة التي ضاعف من قساوتها جائحة كورونا وهي تفرض على الناس حجرا إلزاميا بهدف مكافحتها والحد من انتشارها. وهي الاحتجاجات التي فجّرها ضرب شرطي لراعي أغنام وإهانته، إنها الإهانة التي فجّرت مكبوتات مؤلمة وذكرى متجذرة في وجدان التوانسة الجمعي تتمثل بتلك الصفعة التي تلقّاها محمد البوعزيزي من شرطية تونسية فأحرق نفسه دون أن يدُر في خلده أنه سيشعل ثورة تطيح بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، لتركب موجة الثورة وظهر التونسيين معا حركة النهضة التي تأتي احتجاجات اليوم العنيفة ضدها وبهدف سؤالها أيضا عن أسرار وأسباب ثراء أعضائها.
عنفية الاحتجاجات التونسية أدت لتوقيف الشرطة اكثر من 600 محتج تونسي تجاوزوا حرية التعبير بحسب الرئيس قيس سعيد الذي سأل المحتجين عمّن يقف وراء الاحتجاجات الليلية المظلمة قائلا “إن الأطراف التي تقف وراء الاحتجاجات التخريبية لا تتحرك إلا في الظلام، وأنها تهدف ليس لتحقيق مطالب الشعب، وإنما لبثّ الفوضى في المجتمع”.
سؤال قيس سعيد عن الواقفين وراء الاحتجاجات يشي وكأن “الاحتجاجات التخريبية” وهي تتوسّل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة لتخفي أجندات أكبر في تونس وجوارها. ما دفع المحتجين الى التظاهر السلمي نهارا لتكتظ بهم الشوارع الرئيسة المحيطة بشارع الحبيب بورقيبة الذي أقفله الأمن التونسي مخافة الهجوم على وزارة الداخلية. لكن أصوات شباب تونس التي ارتفعت بغاية الوضوح رفعت مطالب واضحة تتمثل بإسقاط النظام الذي يشمل البرلمان والحكومة، كما وحلّ جميع الأحزاب السياسية وسط هجوم مركز على حركة النهضة ورئيسها الغنوشي.
فما قاله الشباب التونسي وعبروا عنه في احتجاجاتهم هو تصحيح لمسار الثورة التي سرقت منهم، وهم رددوا نفس الشعارات التي سبق ورفعتها ثورة 17 تشرين اللبنانية وأيضا ثورة تشرين العراقية الذين صبّوا جام غضبهم على كامل الطبقة السياسية التي سرقت البلاد ونهبت الأموال العامة وأشاعت الفساد في كل زوايا وهياكل الدولة حتى بات عمودها الفقري هو الفساد.
ورغم أن الاحتجاجات العنيفة التي مهّدت لمظاهرات الثلاثاء هدفت الى توجيه رسالة تحذيرية قاسية لكل الطبقة السياسية التونسية، إلا أن حركة النهضة كابرت وأصرت على وصفها بالحراكات التخريبية. وإن إصرار النهضة على “التخريبية” يعني أنها وجدت في هذه الاحتجاجات ما من شأنه أن يخرب مشروعها في تونس كما في جوارها وخصوصا في ليبيا، حيث القدم العليا في غربها باتت للأردوغان الذي يتطلع لاستعادة نفوذ أجداده في مستعمرات تركيا السابقة، بنفس القدر الذي تتطلع فيه إيران وعبر حركة التشيّع التي تعتمدها، كما يستند وجودها في المنطقة الى ما هو أعمق من الحقبة التركية، وتعني به “الدولة الفاطمية” التي تستثمر إيران على إعادة بعثها وضمّها الى كنفها، ولذلك استلت خناجرها في غفلة عن عيون زرقاء اليمامة التي أصيبت برماد الثورة، وأنشأت الجسور لنشر التشيّع في شمال افريقيا عبر إثنية الأمازيغ التي تتبع المذهب الأباضي في ليبيا وعبرها مع غيرهم من أمازيغ تونس والجزائر والمغرب فضلا عن تواصلها المعروف مع جبهة البوليساريو نكاية بالمغرب حيث أعلنت الولايات المتحدة مؤخرا اعترافها بمغربيتها في سياق تبادل المنافع التطبيعية.
ما تقدّم يشي بأن المنطقة لم تزل تقيم على فوهات البراكين والحرائق وخطوط الزلازل السياسية وشرائطها الحدودية المهتزة والمتبدلة الألوان والخطوط، خصوصا إذا ما فعلت “إن شاء الله البايدنية” فعلها، وجدّدت زواج المصلحة وعقد التخادم مع حركات الإسلام السياسي السني والشيعي.