علي شندب يكتب: عن لبنان وماكرون ومشروع بايدن للتقسيم
أغلب الظن أن ظاهرة الترامبية التي وسمت السياسات الأميركية طوال أربع سنوات مضت، لن تكون صفحة عابرة وتطوى. سيما أن ما أرساه الرئيس الأميركي السابق
دونالد ترامب داخل الولايات المتحدة وخارجها، كان مغايرا لنسق الرؤية الأميركية التي التزم بها قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا رغم بعض الهوامش وتبايناتهما الطفيفة.
فما فعله وقرّره ترامب داخليا وخارجيا، ستظل آثاره، وليس أطلاله، شاخصة أمام المؤسّسة الأميركية العميقة المنتصبة على مداميك الديمقراطيين والجمهوريين الذين استشعروا بعد فوات الأوان، خطر ذلك الذي أمسك بمفاتيح البيت الأبيض في غفلة عنهم. ولهذا كان السوط الجمهوري الذي جُلد به ترامب في أيامه الرئاسية الأخيرة، أفعل من سوط نانسي بيلوسي التي جهدت لعزل الرجل ولم تزل. إنه العزل الذي يعني اغتيال المستقبل السياسي لترامب، بحيث تكسر قدمه عن ولوج البيت الأبيض مرّة أخرى، ويشاطر بيلوسي في ذلك بعض الجمهوريين في مجلس الشيوخ.
نعم، لقد شكل ترامب ظاهرة منافسة للحزبين الحاكمين، خصوصا بعد غزوة الكابيتول الشعبوية، وأيضا ما تلاها من إعلان ترامب عقب مغادرته البيت الأبيض عن نيته تأسيس الحزب الثالث. ما سيطرح السؤال حول إخراج الديمقراطية الديمقراطية من ثنائية الحزبين باتجاه “المثالثة”، التي كثُر تداولها في سياق “مؤتمر تأسيسي” يعكس توازن القوى الجديدة في لبنان ويعالج تعقيدات أزمة حكم مستفحلة تعصف بالكيان وباللبنانيين معا.
معلوم أن سياسات ترامب وقراراته كما ومقارباته وتصريحاته اتسمت بنوع من المباشرة بعيدا عن الدبلوماسية والتورية السياسية. فالفجاجة سمة ميّزت سلوك ترمب مع غيره من رؤساء الدول، حتى الدول النووية المالكة للفيتو الدولي. فترامب حقّق نتائج حروب لم يشنّها، ولم يحرك الأساطيل لأجل خوضها. بل نفذ وعده وسحب الكثير من القوات الأميركية وأعاد انتشارها حول العالم. والابتزاز سمة الترامبية التي تموضعت لسنوات على كرسي الدولة العظمى، وكان تويتر منصة صواريخ الرجل الفتاكة، فغالبية المعارك حسمها ترامب بتغريدة او تغريدتين، لذلك استعجل المجمع الصناعي العسكري التكنولوجي في نزع مخالب ترامب التويترية أولا.
تفرّد ترامب عن نظرائه في دول الـ 5+1 بتمزيق الاتفاق النووي، وفرض عقوبات غير مسبوقة على إيران. وهدّد بفرض عقوبات على كل من يخرق هذه العقوبات، وتحديدا أوروبا التي غادرت شركاتها الكبرى إيران لتنجو من سيف العقوبات الترامبية. وقد بدت أوروبا عبر السلوك الترامبي التهميشي لها، عجوزا أكثر ممّا وصفها دونالد رامسفيلد ظهيرة غزو العراق.
وقد تكرّرت صفحات هذا التهميش في انسحاب ترامب من قمة باريس للمناخ، وأيضا في تقريعه لساسة أوروبا ومطالبتهم بدفع “الإتاوة” ورفع مساهماتهم المالية لحلف الناتو جرّاء حماية الولايات المتحدة لهم، ما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون بعد اعتباره حلف شمال الأطلسي في حالة موت سريري الى ضرورة إنشاء ناتو أوروبي يتولى حماية أوروبا، وهو ما وافقته عليه مستشارة ألمانيا السابقة أنجيلا ميركل.
الأمر الذي دفع ترامب لإضاءة الشارة الخضراء أمام طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فتوغلت أساطيله المعزّزة بالمرتزقة من السوريين وغيرهم غربي ليبيا. وكاستكمال ترامبي لتحجيم النفوذ الأوروبي وخاصة الفرنسي في ليبيا وعبرها، أكمل الأردوغان غزوته باتجاه شرقي المتوسط في اليونان وقبرص بحثا عن النفط والغاز والطاقة وتوسيع مروحة النفوذ التي فرملها الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي فوق مدينتي سرت والجفرة الليبيتين، ما دفع الأردوغان للتوجه الى التخوم الأذربيجانية ليكرّر في ناغورني كاراباخ الأرمينية، ما فعله مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في أدلب السورية ومحيطها.
بعد انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي، أكمل ترامب سعيه لتحجيم النفوذ الأوروبي عبر تقويض المبادرة الفرنسية في تشكيل حكومة مهمة لإنقاذ لبنان تمنح الثنائي الشيعي حصرا وزارة المالية. فكان القرار الأميركي بتشكيل حكومة بعيدا عن حزب الله بمثابة الفيتو الموضوعي على المبادرة الماكرونية التي لا تقصي حزب الله. لكن حزب الله ومن خلفه طهران أشاحوا بنظرهم عن ماكرون ومبادرته، والتزموا الصبر الاستراتيجي ليفاوضوا بايدن على أوراق اللعب التي بحوذتهم.
وفي هذا السياق بدا الرئيس الفرنسي بعد الاتصال الهاتفي الأول الذي أجراه مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، وكأنه يتنفّس الصعداء. سيما وأن هذه المهاتفة أفصحت عن ملامح خارطة طريق لمقاربات مشتركة حول البرنامج النووي الإيراني والوضع في لبنان، بالإضافة إلى التقارب الكبير في وجهات النظر مع بايدن، الذي شمل بحسب الرئيس الفرنسي جائحة كورونا وقضية المناخ والقضايا الدولية الأساسية والسلام في الشرقين الأوسط والأدنى.
بدون شك فإن إمساك بايدن بمفاتيح البيت الأبيض من شأنه أن يعيد بعض التوازن للعلاقات الأميركية الأوروبية التي لم تدفع ماكرون وحده لتنفس الصعداء. فإيران بدورها تنفست الصعداء، بعدما كانت طوال أشهر مضت تعيش كوابيس كبرى لحرب قد يشنّها ترامب في أي لحظة.
إنها الكوابيس المتناسلة من الانفجارات الغامضة التي أصابت الكثير من منشآتها الصناعية والصاروخية والتخصيبية قبل أن تتوّج باعلان ترامب مسؤوليته عن اغتيال جنرال إيران القوي قاسم سليماني، والذي لحقه اغتيال المرشد الروحي لقنبلة إيران النووية محسن فخري زاده، واللذين زامنهما قصف اسرائيلي معلوم للكثير من المواقع والمعسكرات الإيرانية الحسّاسة في العراق وعلى امتداد الجغرافيا السورية من القنيطرة الى البوكمال والقائم مرورا بمصياف وحماه التي تردّد أن القصف الإسرائيلي الأخير استهدف فيها مصنع طائرات إيران المسيّرة.
لكن درّة تاج غنجازات ترامب تمثل في غطلاقه قطار التطبيع بين بعض الدول الخليجية والعربية مع غسرائيل. وهو القطار الذي أنتج واقعا جيواستراتيجيا جديدا جعل من غسرائيل دولة مجاورة لايران، بنفس القدر أو أكثر من الذي بدت فيه إيران عبر حزب الله والحوثيين وحماس مجاورة لإسرائيل. لكنه التجاور غير المتكافئ في ميزان القوى المختل لصالح مصر والدول الخليجية وإسرائيل.
إنه التجاور المستجد الذي ضاعف من أهميته الاستراتيجية قمة العلا في السعودية والمصالحة مع قطر التي تخللتها، والتي انعكست توترا ورفضا إيرانيا واضحا تعبر عنه الصواريخ الحوثية التي تستهدف السعودية، كما قابلها ترحيب تركي أوضح من جهة أخرى. ما يرجح بأن قمة العلا أرست معادلات ومقاربات جديدة في المنطقة بينها رباعية مصر، تركيا، قطر وروسيا الضامنة بعيدا عن ايران، للاتفاق بين السلطة الفلسطينية وحماس للانتخابات الفلسطينية المرتقبة.
كل هذه التحولات الجيوسياسية المعلنة في المنطقة سوف يبني عليها بايدن رؤية الولايات المتحدة واستراتيجيتها الجديدة في العالم، ومنها مقاربته للعلاقة النووية مع طغيران وفي المنطقة، وهي الرؤية المتقاربة مع الرؤية الفرنسية كما عبر ماكرون الذي سبق وأعلن عن تعرضه لحفلة “خيانة جماعية” من المسؤولين اللبنانيين في بيروت، وهي الخيانة التي يرجح أن ماكرون سيثأر من مرتكبي فعل الخيانة بحقه، لكنه هذه المرة مزوّدا بالقفازات الأميركية الخشنة.
فهل يتمخض عن التقارب الأميركي الفرنسي الجديد، مقاربات مشتركة تسمح باجتراح حلول لأزمات المنطقة، وهل المبادرة الفرنسية التي أصبحت بعهدة الاتحاد الاوروبي لانقاذ لبنان، ستصبح مبادرة أوروبية أميركية، أم أن بايدن الذي سينصرف داخليا لتضميد الجراح الأميركية المثخنة كورونيا وانتخابيا، سيستأنف خارجيا الاستراتيجية الأميركية التي انطلقت مع احتلال العراق عام 2003، عبر تفعيل قانون تقسيم العراق الذي يحمل بصماته والذي أقرّه الكونغرس عام 2007؟.
إنه التقسيم الذي يعتبره “المشروع الوطني العرقي” وغيره من القوى العراقية واقعا حتما، إذا لم يبادر أهل العراق الى استنقاذه، من خلال تفكيك مشروع الاحتلال المزدوج الأميركي الإيراني المستمر عبر العملية السياسية التي صاغها الحاكم المدني للعراق بول بريمر، وارتدى جبتها وعمامتها قادة أحزاب العملية السياسية كافة.
وهو التقسيم الذي في حال الشروع به ستنتصب الخرائط الجديدة للشرائط الحدودية المهتزة التي أثخنتها الحروب على امتداد المنطقة بدءًا من سوريا المفيدة، وليس انتهاء بلبنان، حيث سبق لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، أن أعلن غير مرة عن استعداده “للذهاب الى ما هو أبعد من الفيدرالية”.. أي “التقسيم”، الذي يعتبر مشروع بايدن الأصيل للمنطقة.