علي شندب يكتب: غزوة الأردوغان تستهدف تاريخ ليبيا أيضا
توازيا مع عودة تركيا للتلويح بالتصعيد العسكري في ليبيا، وبعيدا عن مدخلات ومخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي، ولجنة 5 + 5 وغيرهما من مسارات الحوار الدستورية والمالية. تسيّد المشهد الليبي في الأيام الماضية قضية “المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية” والذي تطالبه هيئة الأوقاف التابعة لحكومة الوفاق (في سياق نزاع مزمن بينهما اتخذ منحى خطيرا حاليا) بإخلاء مقره خلال أيام، بحجة عدم دفعه بدلات الإيجار التي رفعت قيمتها الأوقاف بشكل تعجيزي يفوق موارد المركز المالية.
وقد ضاعف استحصال الهيئة على أمر قضائي أولّي بإخلاء المركز استشعار الليبيين “أن في الأمر إن” معزّزة بشبهات مبيّتة قد تهدّد مصير نحو 27 مليون وثيقة تاريخية من كتب ومخطوطات ودوريات وترجمات وخرائط وصور وتسجيلات مسموعة ومرئية لشهادات حيّة، تتعلق بتاريخ المقاومة الليبية ضد الاحتلالين التركي والإيطالي، بالإضافة إلى حدود ليبيا البرية والبحرية وتسلسل أنساب الليبيين في ليبيا وجوارها، كما وتعريض هذه الثروة الأرشيفية الثمينة لخطر التصرّف بها، أو الإتلاف والإفساد بما يهدّد هوية وتاريخ ليبيا وتراثها. فأطلق الصحفيون والأدباء والأكاديميون والنشطاء الليبيون ومن كل مناطق ليبيا العرائض المتضمنة صرخاتهم التحذيرية الغاضبة، ما جعل “المركز” قضية رأي عام كبرى تتفاعل ككرة نار، دفعت مكتب النائب العام الطلب الى وزارة الداخلية في طرابس بتوفير الحماية الأمنية اللازمة للمركز حتى يُصار الى تسوية القضية قانونيا بين الطرفين.
فما هي الأبعاد الحقيقية لنوايا هيئة الأوقاف في طرابلس تجاه المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية؟
بداية يجدر التنويه إلى أن المركز تأسّس عام 1977 بتوجيه من الزعيم الراحل معمّر القذافي، باسم “مركز بحوث ودراسات الجهاد الليبي” وحدّدت اللجنة الشعبية العامة (أي مجلس الوزراء) أقسامه وشعبه وموارده البشرية والمالية وأهدافه وإدارته وبرنامج عمله وتبعيته القانونية، كما وتغيير تسميته التي استقرت على اسم مركز “جهاد الليبيين للدراسات التاريخية” والذي سبق وصنفته منظمة الاونيسكو كأحد أبرز مؤسّسات التراث الإنساني في ليبيا.
بعد عدوان الناتو عام 2011، عمد الحكام الجدد من الإخوان وحركات الإسلام السياسي الوافدين على متن البوارج الأطلسية والتركية الى تعديل الإسم مجددا ليصبح “المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية”، وهو التعديل الذي تشي تطورات اليوم بأنه لم يكن بريئا، سيّما في ظل اعتبار الكثير من الكتاب والصحفيين والأكاديميين في العاصمة الليبية طرابلس “أن قرارا تركيا يقف خلف مطالبة هيئة الأوقاف بإخلائه”، وذلك في سياق الأطماع التركية الساعية للاستحواذ على الثروات الليبية المختلفة ومنها الثروة الأرشيفية الهائلة المتعلقة بحقبة الاحتلال التركي لليبيا لأكثر من 350 عاما.
وهي الثروة الأرشيفية التي سبق لرئيس هيئة الأوقاف محمد العباني أن عرض على منسق وكالة “تيكا” التركية (التي تعتبر ذراع أردوغان الاستخبارية التي تتوسّل التعاون الثقافي والأعمال الخيرية والمساعدات الإغاثية) الاستثمار في الأوقاف والعمل مع الهيئة العامة للأوقاف التركية على أرشفة الأوقاف الليبية، ومن خلال قيام وكالة تيكا بتنظيم الأوقاف وتحديثها وتطويرها الكترونيا، بحيث تتم السيطرة على أرشيف ليبيا وذاكرتها والعبث بهما وتحويرهما وفق المصالح والأهداف التركية أيضا.
فبعث وإعادة بثّ فضائل العهد العثماني الذي تنتهجه وكالة تيكا عبر ترميم بعض المباني العائدة لفترة الاحتلال التركي في عدة مدن ليبية ومنها “مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية” في طرابلس التي أنشئت عام 1871 كشف حقيقة الأهداف الأردوغانية لعودة الاحتلال التركي مرة أخرى كما أفصح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ومن طرابلس بأنهم “لن يتركوا أرض الأجداد مرة أخرى، وسيبقون في ليبيا الى الأبد”.
هدف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من محاولة السطو على الأرشيف الليبي والتحكم به إذن، هو فبركة تاريخ جديد وتغيير ذاكرة الليبيين الذين لطالما سمعوا بعض النخب التركية تردد وبلغة استعلائية أن “ليبيا وغيرها من نتاج سايكس بيكو”، ما دفع نخبا ليبية وازنة للقول “إن الاحتلال التركي كان احتلالا أسود مريرا”، والى رفع صوتها ومخاطبة الأردوغان بالقول “إن أجدادك المحتلين قد سلّموا ليبيا إلى الاستعمار الإيطالي عام 1911 ولم يدعونا نقرّر مصيرنا بأنفسنا”.
إذن السطو على الأرشيف الليبي، هو استكمال لسيطرة القوات التركية وميليشيات المرتزقة من السوريين التابعين لها على غربي ليبيا وقد أحدثوا انقلابا في موازين القوى لصالح حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج على محيط طرابلس انطلاقا من قاعدة الوطية وصولا إلى مدينة ترهونة، حيث باتت القدم العليا في غربي ليبيا لتركيا التي أخذ رئيسها يستدعي المسؤولين الليبيين من المستويات العليا والوسطى والسفلى. فإضافة لفايز السراج، استدعى الأردوغان محافظ مصرف ليبيا المركزي ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط ورئيس المؤسسة الليبية للاستثمار فضلا عن بعض الوزراء والمسؤولين وبينهم هيئة الأوقاف وآمري الميليشيات وبعضهم لزوم المجاملات وبعض الشكليات.
لكن الاستدعاء الأهم الذي بقي بعيدا عن الإعلام، كان لمسؤولين في “مصلحة أملاك الدولة الليبية” سبق أن زاروا تركيا، وتردّد أنهم وقعوا اتفاقا مع وزارة المالية وهيئة الأوقاف الإسلامية التركية يقضي بتعداد وحصر المباني والآثار والمساجد العائدة لحقبة الاحتلال التركي وذلك بهدف إعادة تسجيل وتثبيت ملكيتها بإسم الدولة التركية الأردوغانية.
ما يعني أن الأطماع التوسعية التركية في ليبيا لا تقف عند حدود الثروات المالية والنفطية والمنجمية والتي تحدثنا عنها في مقال سابق بعنوان “مناجم القذافي.. هدف لغزوة الأردوغان أيضا”، بل تتركز اليوم في محاولة السطو على ذاكرة الليبيين وأرشيفهم وتاريخهم، وهو السطو الذي سمح للأردوغان في سياق تبريره لغزوته بالقول “إن في ليبيا مليون ليبي من أصول تركية”. وهي الأصول التي فتح لأجل إعادة تنسيبها وتجنيسها قنصلية في مدينة مصراتة، وفق عنصري الولاء القومي التركي خصوصا الموالين له من التركمان وأقلية “الكراغلة”، والولاء الديني الذي يوفره الإخوان وحركات الإسلام السياسي من جهة أخرى.
محاولة الأردوغان السطو على الأرشيف الليبي، لم تقترب منها إيطاليا الحالية بوصفها وريثة الاستعمار الإيطالي. فإيطاليا اعتمدت مقاربة مختلفة قطعت فيها مع حقبة الاستعمار، وعبّرت عن ذلك من خلال الاعتذار والتعويض اللذين شكّلا ثوابت معمر القذافي في علاقات متكافئة مع إيطاليا. في حين أن تركيا لم تمتلك شجاعة الاعتذار عن ماضيها الاستعماري، بل إنها تغالي في الإنكار وفي تأبيد سياسة الاستعمار.
وبالكلام عن الأرشيف والوثائق التاريخية، فقد سبق لنا زيارة متحف الأرشيف الإيطالي رفقة وفد من أمانة الثقافة والإعلام الليبية، حيث نظم مؤتمرا صحفيا للأديب الليبي “علي فهمي خشيم” والمخرج السوري “نجدت أنزور” حول فيلم “الظلم.. سنوات العذاب” الذي يقارب محطات مريرة أيضا خلال حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا، لكن تطورات وظروف كثيرة لم تسمح بإنجاز الفيلم المذكور وخروجه إلى النور.
وبالكلام عن التاريخ والأرشيف أيضا، فقد التقيت “مصطفى العقاد” مخرج فيلم عمر المختار أثناء زيارته العاصمة الليبية طرابلس عام 2005 خلال سعيه لإنتاج فيلم عن “صلاح الدين الأيوبي” وكانت بيننا دردشة حول فيلميه العالميين الرسالة وعمر المختار، وأيضا حول آفاق الوضع العربي المأزوم والهزوم بعد احتلال العراق وغزوه، ويومها سألت الرجل إن كان برنامجه مع القذّافي يتضمّن تصورا لفيلم حول الحقبة العثمانية أو “الاحتلال التركي” لليبيا وللبلاد العربية؟ وأجاب العقّاد باقتضاب: “الفكرة موجودة لكنها غير متناسبة مع ظروف المرحلة”.
لكن الظروف غير المتناسبة وقتذاك، بدت متناسبة ومناسبة حاليا للأردوغان في سعيه المحموم للقيام بحصر إرث ليبيا. “حصر إرث” يبدو أنه يتجاوز الثروات المادية، إلى الثروات المعنوية المتمثلة بمحاولة الرئيس التركي فبركة تاريخ وصناعة ذاكرة جديدين لليبيين وعبرهم لكل من رزحوا تحت الاحتلال التركي، لأن الذاكرة القديمة تؤلم الأردوغان بذات القدر الذي تعيق فيه أطماعه التوسعية.
إنهما التاريخ والذاكرة اللذان لأجل صونهما وحمايتهما والحفاظ عليهما، انتفض الوجدان الجمعي الليبي رفضا وغضبا في داخل ليبيا وخارجها، ما وضع حكومة الوفاق في موقف يزداد حراجة كل يوم، جراء اتهامها من قبل جموع ليبية وازنة بالتفريط بالتاريخ والذاكرة الجمعية، بعدما فرّطت بالسيادة والثروات الوطنية.