فؤاد أبو حجلة يكتب: نعم هرمنا.. لكننا عشنا اللحظة
في ذروة النشوة بهزيمة أمريكا في الأمم المتحدة وبداية الانحسار للنفوذ الأمريكي في العالم، وفي غمرة الفرح بصدمة الإدارة الأمريكية برد الفعل العالمي غير المسبوق بتحدى عنجهية وبلطجة واشنطن في العالم، أعترف بأنني واحد من عشرات ملايين الفلسطينيين والعرب المتشفين بالانكسار الأمريكي.
أعترف أيضا بأنني هرمت وأنا أنتظر هذه اللحظة التاريخية، لكنني رأيت اللحظة وعشتها، وهذا يكفي في حياة عشت فيها وأبناء جيلي الكثير من القهر والإحباط واليأس من قدرة العالم على التمرد على طغاة العصر في أمريكا وفي محيط نفوذها.
كان رائعا مشهد الأمم المتحدة التي تحولت يوم الخميس إلى بوابة من بوابات القدس، وكان ممتعا امتقاع وجه مندوبة أمريكا بالقهر وبالغضب وهي تخرج خائبة من قاعة الجمعية العامة بعد أن تجاهل العالم كله تهديداتها ووقاحة موقف إدارتها التي اختارت الانتحار السياسي في القدس.
ولعل من تابع المشهد على الشاشات يدرك أن خروج المرأة المستفزة من القاعة كان يعني بالفعل خروج الولايات المتحدة من عباءة الرعاية الكاذبة لعملية التسوية.
العالم لم يكن، وليس الآن حديقة خلفية لأمريكا، ولم تعد واشنطن قادرة على لعب دور القبطان إلا إذا كان العالم كله نسخة محدثة من سفينة “التايتانك”.. وهو ليس كذلك. ومن لا يزال يؤمن بأن تسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة في يد أمريكا فإن عليه أن يعيد النظر في هذا الإيمان البائس الذي انكشف زيفه في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي.
أكدت وقائع الأسابيع الثلاثة الماضية أن الاعتقاد بقدرة أمريكا على تطويع العالم ليس إلا وهما مرضيا يسكن في نفوس الكائنات اليمينية، وأكدت وقائع التصويت في الأمم المتحدة أن معظم شعوب العالم وخاصة شعوب الدول الفقيرة ترفض مقايضة كرامتها الوطنية وقرارها المستقل بحفنة من دولارات المساعدات الأمريكية، ولعل من المهم في هذا السياق أن يستعيد بعض المتشككين والمرتجفين والمرعوبين مضامين كلمة بنجلاديش في اجتماع الجمعية العامة.
أدرك الأمريكيون قبل غيرهم هذه الحقيقة، فانكفأوا، واختاروا التوقف عن الكذب وترويج الضلال السياسي، فألغى نائب الرئيس الأمريكي زيارته إلى المنطقة، واعترف مسؤولون مرافقون للموفد الأمريكي جرينبلات، خلال زيارته لإسرائيل، بعدم وجود أفكار أمريكية للتسوية، وبعدم وجود صفقة كبرى سماها المتحمسون لها صفقة القرن.
وهكذا تبين أن الحديث السابق عن الصفقة ما كان إلا مناورة لتهيئة المنطقة لقبول صدمة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل.
إلى أين نحن ذاهبون الآن؟ وهل يقودنا انسحاب الولايات المتحدة من رعاية عملية السلام إلى المجهول؟
واقع الأمر أن الخروج الأمريكي من هذه العملية يحمل بشرى بالقدرة على إعادة التموضع الفلسطيني، والانتقال من حالة التنسيق الأمني مع العدو إلى حالة الاشتباك مع هذا العدو، سواء كان الاشتباك ميدانيا (شعبيا) أو سياسيا (سلطويا)، وذلك يتطلب، بطبيعة الحال، تحرر السلطة الفلسطينية ورئيسها من أوهام الرهان الوحيد على المفاوضات، ومن أوهام العلاقة الهادئة مع الاحتلال والعلاقة الدافئة مع واشنطن.
ورغم كل تحفظاتنا على بطء هذا الانتقال، إلا أن الشارع الفلسطيني أثبت قدرته على دفع السلطة للخروج من مربعات الحصار التسووي، واتخاذ خطوات جريئة (بمقاييس السلطة) وتحدى الهيمنة الأمريكية.
ولعله من الإنصاف القول إنه ما كان ممكنا الوصول إلى هذه الحالة من دون الهبة الشعبية الفلسطينية، والاحتضان الدافيء لها في شوارع القاهرة وعمان توأما القدس والعمق الحقيقي للفلسطينيين.
إنها مرحلة جديدة ينبغي فيها الانفتاح على العالم، والعودة إلى الأمم المتحدة، لكي نعيش لحظات بهية أخرى كالتي عشناها في الأيام الماضية.
