في زمن مبكر .. أدرك الفلسطينيون حجم المؤامرة التي تحيط بالوطن ، ودور السياسة البريطانية التي تلعب بأقدار المنطقة وبمن عليها ، وأن الحارس الواقف على بوابات فلسطين بالإنتداب حتى هذه اللحظة ، يمهد الأرض للمستوطينين اليهود والأفواج القادمة منهم ، ويغض الطرف تماما عن العمليات الإرهابية العدوانية وممارسات العصابات الصهيونية .. فاندلعت نيران الثورة في فلسطين مع حادث 17 إبريل / نيسان 1936 حين قتل اليهود إثنين من العمال العرب قرب نهر العرجا بقضاء يافا، وبعد يومين قامت مظاهرات بمدينة يافا ، وهاجم المتظاهرون الأحياء اليهودية ، وقتلوا وجرحوا ستين يهوديا ، وتدخل البوليس البريطاني ، وإشتبك مع السكان العرب ، وفرض نظام منع التجول ، وقتل فلسطينيان ، وأعلن الشعب العربي في فلسطين الإضراب العام الذي إستمر 176 يوما ،إضرابا عاما لم يسبق له مثيل في الوطن العربي ، قدم الشعب الفلسطيني خلاله أقصى ما يمكن أن يقدمه شعب مستميت في البسالة والتضحية والثبات والصبر .
إضراب لم يسبق له مثيل في الوطن العربي
وكانت بداية الإضراب حين قرر أهل يافا في إجتماع عقده فريق منهم في 20 أبريل/ نيسان ، الإضراب العام « برا وبحرا» وأصدروا بيانا وافقت عليه جميع المدن والقرى في فلسطين ، وشمل الإضراب جميع مرافق الحياة الإقتصادية والإجتماعية ، فأغلقت جميع المخازن والمصانع والمقاهي ، وتوقفت الحركة التجارية ، فلم يرق ذلك لحكومة الإنتداب البريطاني، وحاولت إرغام التجار على فتح مخازنهم ، فنقلوا بضائعهم إلى بيوتهم ، وكتب عدد منهم على مخازنهم « برسم الإجار والمخابرة مع الحكومة !! » .. وقرر المحامون العرب في إجتماع عقدوه في مدينة « يافا » الإضراب ، وعدم حضور المحاكمات إلا للمرافعة في القضايا الناشئة عن الإضراب والحركة الوطنية ، وعقد رؤساء البلديات إجتماعا سريا في بيت رئيس بلدية رام الله ، في 31 مايو/ آيار، وقرروا إيقاف أعمال البلديات ، وإستثنوا من ذلك أعمال التنظيف حفظا للصحة العامة ، إلا أن « عمال الكنس » أصروا على المشاركة في الإضراب ، وساءت حالة المدن ، فخابرت حكومة الإنتداب أحد مشايخ شرق الأردن ليرسل رجاله للقيام بأعمال «كنس » مدينة القدس ، فأجاب ذلك الشيخ قائلا : ليس رجالي أقل وطنية من « كناسي » مدينة القدس .
وتركت الأحزاب السياسية تخاصمها ، وإجتمع رؤوساؤها وقرروا تأسيس « لجنة عربية عليا» لتوحيد القيادة ، وللإشراف على الحركة الوطنية ، وتألفت اللجنة العربية العليا من رؤساء الأحزاب الخمسة ، وخمسة آخرين من رجالات البلاد ، وكان أعضاؤها : الحاج أمين الحسيني ، راغب النشاشيبي ، أحمد حلمي عبد الباقي ، الدكتور حسن الخالدي ، يعقوب فراج ، عوني عبد الهادي ، عبد اللطيف صلاح ، الفرد روك ، جمال الحسيني ، ويعقوب الغصين .. وانتخب السيد أمين الحسيني “مفتي فلسطين ” رئيسا ، والسيد أحمد حلمي عبد الباقي أمينا للصندوق ، والسيد عوني عبد الهادي سكرتيرا وأعتقل السيد عوني فانتخب مكانه السيد دووزة ، وأعتقل أيضا ، فانتخب السيد فؤاد سابا خلفا له.
شرارة الثورة الفلسطينية
وأخذ الإضراب السلمي يتسع رغم تعسف القوات البريطاني واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني ، والتمادي في سياسة الإعتقال والحبس .. وظهرت عمليات مسلحة للمقاومة الفلسطينية قادها الشيخ عزالدين القسام والذي أستشهد في معارك الثورة ، وحمل معظم القرويين وكثير من أهل المدن السلاح ، وأخذوا يقاومون القوة بالقوة ، وكان القتال في كل مكان في الليل والنهار، وتصاعدت حدة المواجهة في منطقة القدس « معركة باب الواد » ، و في سائر فلسطين : «معركة نور شمس ، و معركة عين جارود ، و معركة وادي عزون ، ، و معركة بلعا الأولى» .. وعندما دخل فوزي القاوقجي فلسطين في الثلث الأخير من شهر أغسطس / آب 1936 ، دخلت الثورة في دورها الثاني ، وبعد أن استلم الجنرال ( ديل ) القيادة العليا للقوى البريطانية في فلسطين وشرق الأردن وجعل مركزها القدس ، ودارت معارك « نور شمس عنبتا ، و ترشيحا ، و جبع ، و حلحول ، ومعركة برقة ـ بيت أمرين ، ومعركة الخضر، ومعركة كفر صور ، وغيرها ..» وتمددت ثورة شعب متوحد الصفوف دفاعا عن سيادة فلسطين عربية ، وإنقاذها من مطامع الصهيونية.
ولجأت حكومة الإنتداب البريطاني إلى عنف المواجهة ، وفرض الغرامات ، ومصادرة الأموال والأملاك ، والتفتيش وإلقاء القبض والإعتقال لمجرد الشبهة ، وتم نسف قسم كبير من مدينة يافا القديمة ، وأحرق اليهود عشرات المنازل للعرب معظمها في منطقة تجاور تل أبيب .. وتأججت نيران الثورة ، وتدخل ملوك العرب وأمرائهم ، بتوجيه نداء إلى اللجنة العربية العليا ، بإعطاء فرصة للحكومة البريطانية لإعادة تقييم الأمور ، وإستجابت اللجنة العربية العليا في 31 أغسطس / آب 1936 لنداء الوساطة العربية .. ولم تفعل الحكومة البريطانية الصديقة للعرب شيئا ، وعادت نيران الثورة تتأجج مرة أخرى ،وتواصلت على مدى ثلاث سنوات ، حتى أضطرت الحكومة البريطانية إلى عقد مؤتمر دولي في لندن سنة 1938 بمشاركة بعض الدول العربية ، وأصدرت بريطانيا «كتاب أبيض » سنة 1939 يشرح تصورها لحل المشكلة الفلسطينية ، ويتضمن إستقلال مشروط لدولة فلسطينية بعد فترة إنتقالية مدتها عشر سنوات ، مع السماح بدخول 15 ألف مهاجر يهودي كل سنة إلى فلسطين لمدة خمس سنوات !!
كانت الثورة الفلسطينية مفاجأة قاسية لسلطة الإنتداب البريطاني، ومفاجأة صادمة لحركة الإستيطان الصهيوني ، وقررت الحكومة البريطانية أن تبعث بلجنة تحقيق تتقصى أسباب الثورة ، وجاءت اللجنة برئاسة اللورد « بيل » وأصدرت توصية بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ، ودولة عربية يتم دمجها مع شرق الأردن ، على أن يظل الإنتداب البريطاني قائما عبر الضفتين ، ورفضت قيادة الثورة الفلسطينية إقتراح التقسيم ، وطالبت بإنشاء دولة فلسطينية واحدة مستقلة توفر الحماية والحقوق المشروعة لليهود وغيرهم من الأقليات .. واستمرت الثورة تهز فلسطين ، وقدم الشعب الفلسطيني خمسة آلاف شهيد في معاركها.