بعد 71 عاما.. لا يزال التساؤل قائما: ماذا حدث في الخامس عشر من مايو/ آيار 1948؟ وكيف دارت المواجهة بين الجيوش العربية وعصابات اليهود وميليشيات المستوطنين؟ لمن كانت الغلبة قبل السطو على الجغرافية الفلسطينية واغتصاب وطن عربي؟! الصورة الكاملة للحقائق لا تزال غائبة، بينما دولة الاحتلال ترسم صورة للتفوق اليهودي مقابل العجز العربي.. ولكن شهادات المؤرخين والأكاديميين والمثقفين الإسرائيليين، تدحض زيف الادعاءات التي تأسست عليها قواعد دولة الاحتلال.. وقد بادر الباحث مردخاي بار أون، الذي خدم عام 1948 في الجيش الإسرائيلي برتبة ضابط قبل أن يصبح رئيس قسم التاريخ فيه، وعضو كنيست، لتحطيم هذه الأسطورة التاريخية في دراسة بعنوان «داوود مقابل جوليات»، تتناول بالتفصيل: ماذا حدث عام 1948 وما هي الحقيقة في أسطورة غلبة الأقلية على الأغلبية؟! مؤكدا أن تثبيت هذه الأسطورة كحقيقة مضر للأجيال الإسرائيلية.
هجمات تفوق فيها العرب
ويستهل الباحث مردخاي دراسته، مؤكدا أنه «كانت هناك هجمات تفوق فيها العرب، كما حصل يوم وصل المصريون إلى أسدود، ففي تلك الليلة كدت أن أتبول في سروالي لشدة الخوف. كنت ضابطا شابا ومتأكدا أن المصريين سيزحفون في اليوم التالي بدباباتهم وسيكون يومي الأخير عندئذ، لكنهم لم يصلوا.. وأن الزعم الجارف بأن الجيش الإسرائيلي انتصر على العرب : أقلية مقابل أكثرية، فهذا ادعاء خاطئ من ناحية الحقائق وينقصه فهم عوامل الانتصار واستخلاص الدروس المطلوبة.. ويشير المؤرخ الإسرائيلي، إلى أن الكثير من النجاحات الفلسطينية الميدانية وقتها نسبت للشهيد عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدس في منطقة القدس الذي استشهد قبل 71 سنة تماما في معركة القسطل».
.
- ويؤكد الباحث والأكاديمي، مردخاي بار أون، برؤية شجاعة نادرة في المشهد الإسرائيلي الراهن، أن «مصدر المصيبة هو أن الإسرائيليين لا يرغبون بالسلام، وقد اختار هذا الشعب حكومة لا تريد السلام. وهذا ليس من الآن،هذا منذ زمن بعيد»..وكشف عن تشاؤمه الكبير حيال مستقبل إسرائيل، نظرا للتوجهات الديموجرافية والسوسيولوجية في دولة الاحتلال.
«بن جوريون» زرع أسطورة تفوق الأقلية في معركة 1948
ويقول، إن وزارة التعليم ربت الإسرائيليين جيلا بعد جيل على أن أقلية يهودية شجاعة تفوقت على أكثرية عربية في 1948 وتكريس هذه الأسطورة من فوق إلى تحت، كان برعاية وتوجيه رئيس حكومة الاحتلال الأول دافيد بن جوريون، «لكن حينما نعود لفحص الحقائق يمكن ملاحظة أن بن غوريون نفسه اعتقد بخلاف الأسطورة التي شجع على تنميتها وتكريسها، ففي اجتماع لجنة الخارجية والأمن في فبراير/ شباط 1960 اعترف بن غوريون بوضوح بأنه في أغلب مراحل حرب 1948 تمتع الجيش الإسرائيلي بأغلبية عددية لا كيفية فحسب، مقابل دول العدو. وقد أوجز استعراضه بالقول مقابل دهشة أعضاء اللجنة حتى وإن بدا غريبا قليلا «فقد امتلكنا وقتها جيشا أكبر من جيشهم». ويوضح الضابط السابق والمؤرخ الإسرائيلي « بار أون» الذي يشير لرقم الوثيقة التي يستند لها في أرشيف الدولة بهذا المضمار إلى الحاجة للسؤال اليوم بعد 71 عاما على النكبة وقيام إسرائيل: ماذا كانت حقيقة موازين القوى في 1948 وأين تختبىء الحقيقة خلف الأسطورة المذكورة؟
عدد الجنود اليهود فاق عدد الجنود العرب بثلاثة أضعاف
ويؤكد الباحث الإسرائيلي في دراسته التاريخية، أن عدد الجنود اليهود فاق عدد الجنود العرب بثلاثة أضعاف، لأن دولا عربية اكتفت بإرسال عدد هامشي من الجنود، فيما امتنعت أخرى عن التدخل في الحرب، والحقيقة أن الانتصار في الميدان هو من نصيب من يمتلك القوات والطاقات وليس «لأننا أقلية مقابل أغلبية ..غولدا مئير جندت 50 مليون دولار والعرب جندوا 25 ألف ليرة»..ويضيف «لم ينجح هذا العالم العربي الكبير بتجنيد ما يكفي من جنود لمنع النكبة، أما ضعف الفلسطينيين في البلاد فمرده قمع الانتداب لقواتهم خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. كما ينبغي الأخذ بالحسبان تجنيد المال والموارد. لم تفلح اللجنة العربية العليا في جمع أكثر من 25 ألف ليرة في مستهل القتال، أما جيش الهاجاناه وحده فقد بلغت ميزانيته وقتها ثلاثة ملايين ليرة. أم جولدا مئير وحدها فقد جمعت حتى مارس/ آذار 1948 أكثر من 50 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا».
كيف ولماذا انتصر اليهود في حرب 48؟
ويضيف «بار أون»، إن القوات الصهيونية تعرضت لخسائر فادحة في «معارك الطرق» أبرزها قافلة بن عامي من عكا إلى الجليل الأعلى في مارس / آذار 1948 وغيرها، إن الأفضلية كانت في البداية للعرب، لكنه يعتبرها «صورة مضللة»، مشيرا إلى سبب إضافي لانتصار العصابات والميليشيات اليهودية في المعركة، وهو سبب مرتبط بالمتطوعين الأجانب، ويكشف أن 150 جنديا من الجيش البريطاني انتقلوا للمساندة والقتال إلى جانب اليهود، وانضم لهم 250 يوغسلافيا و 32 ألمانيا لكنهم جميعا بقوا عددا هامشيا مقارنة مع آلاف المتطوعين المدربين والخبراء بسلاح البحرية والجو الذين تطوعوا إلى جانب الجنود اليهود.. ويتابع في دراسته الأكاديمية: «إن الزعم الجارف بأن الجيش الإسرائيلي انتصر على العرب : أقلية مقابل أكثرية، فهذا ادعاء خاطئ من ناحية الحقائق وينقصه فهم عوامل الانتصار واستخلاص الدروس المطلوبة..لا بأس من رواج الأسطورة لدى عامة الإسرائيليين لكنها تصبح مضرة جدا عندما تدخل رؤوس الجنرالات»، مؤكدا وجود فرصة لتعلم الدروس من التاريخ.
- ويؤكد « بار أون» أن إحدى خلاصات حرب 1948 هي عدم الاستخفاف بالعرب الذين لم يكونوا قادرين على الانتصار بالحرب..
الرواية «الوثائقية» العظيمة
ويرى الوزير والبرلماني الأردني السابق، محمد داودية، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الدستور الصحفية، أن رواية «أرض الميعاد» الصادرة عن دار التقدم عام 1979 للكاتب الروسي يوري كوليسنيكوف،سلطت الضوء على الممارسات اللاانسانية الوحشية داخل دولة الاحتلال .. وتساءل: لا أعرف سببا حال ويحول دون طباعة الرواية بكل لغات العالم وتوزيعها مجانا وبملايين النسخ ليعرف العالم الحقائق المذهلة التي كشفتها الرواية «الوثائقية»، وتتحدث عن شاب يهودي يدعى «حاييم فولديتير»، هاجر قبيل الحرب العالمية الثانية إلى «أرض الميعاد» فلسطين، متأثراً بالدعاية الصهيونية التي صورت فلسطين أرضا يهودية تحتلها قبائل العرب الهمج المتخلفين، مما يستوجب الهجرة إليها والاستيطان فيها وانقاذها وتحريرها من غاصبيها ووضعها على مسار التقدم والحداثة والاشتراكية.
بداية الأحلام للعودة إلى «أرض الميعاد» !!
ركب «حاييم» الشاب اليهودي الطيب، الباخرةَ من روسيا متوجها إلى أرض الميعاد تملأ قلبه الحماسة والأشواق التي توارثها من الأجداد والآباء والتي أعادت الصهيونية بعثها في قالب عدواني شوفيني اقصائي ضد الأغيار على قاعدة: الأغيار هم الجحيم، أو الآخرون هم الجحيم. كان اليهودي المتدين يتلو صلاة مباركة الطعام صباحا وظهرا ومساء ويقسم قبل تناول الطعام: «شُلّت يميني ان نسيتك يا اورشليم». تحطمت الباخرة التي تُقلّه ومئات من المهاجرين اليهود على شاطئ قبرص وعثر عليه الرهبان بعد أيام وهو بين الحياة والموت، ينزف ويوشك على الهلاك جوعا وعطشا. تولّت فتاة قبرصية مسيحية مصابة بالصمم، العناية بـ«حاييم» في أحد الأديرة لمدة عدة أشهر تماثل بعدها للشفاء في ما يشبه المعجزة. كان وقع في غرام الفتاة الطيبة التي تفانت في خدمته والتي ثابرت على القيام بعمل انساني مضنٍ راقٍ فأنقذته من موت محقق. وكانت الفتاة وقعت في غرامه. هو لا يدري عن ديانتها وهي لا تدري عن ديانته. لكن المؤكد انه لم يكن متدينا.
المأساة الطاحنة في «أرض الميعاد»
أبلغ «حاييم» الرهبانَ برغبته في مواصلة سيره الى فلسطين. عرض على ممرضته الصمّاء الجميلة الزواج به والسفر معه الى أرض الميعاد والأحلام، وفي ميناء حيفا استقبل مندوبو الوكالة اليهودية جموع المهاجرين وتولوا نقلهم الى كيبوتسات. تحصّل على غرفة رثة مؤقتة في «كيبوتس غوري» في منطقة مليئة بالبعوض والذباب والزواحف والأفاعي التي لا يطيق أن يسمع اسمها فعاش كوابيس مرعبة طيّرت النوم من عينيه. خفف عنه المشقة، أنه حظي بجيرانٍ طيبين، كان يخدمهم ويساعدهم في الكثير من الأعمال والإصلاحات المنزلية، فأصبح يشار إليه بالبنان، باعتباره اليهودي الطيب، وتوجت فرحته بمولد أول ابنة لهما، وحينئذ حلت به وبأسرته المأساة الطاحنة عندما علم اهلُ الحي أن اليهودي الطيب متزوج من مسيحية وليس من يهودية!! تعرض هو واسرته الى تنكيل ونبذ وحصار ومضايقات ترقى الى حد محاولة حرق منزله والتآمر عليه وتلفيق أكثر من تهمة له أدت الى طرده من المنطقة التي استقر فيها ثم من المنطقة التي رحل اليها ومن كل منطقة رحل إليها حتى طلب العودة من حيث أتى دون موافقة، مما اضطره إلى مغادرة أرض الميعاد تهريبا، لأنه اكتشف زيف الدعاية الكاذبة عن المساواة والإخاء والاشتراكية.