في لحظة مبكرة من تحريك المسألة اليهودية على المسرح الأوروبي، كانت ورقة نابليون اليهودية، هي الوثيقة التي تستحق الإهتمام في السياق التاريخي، لأنها الأثر الإستراتيجي الباقي في المنطقة من تلك الأيام وحتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين .. وكانت ورقة «نابليون بونابرت» من خارج أسوار القدس ـ مع بداية الحملة الفرنسية على مصر 1798 ـ وعدد اليهود في فلسطين لم يزد على ألفين.. تقول إحدى فقراتها : «إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به ، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه ، قد إختار القدس مقرا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي إستهانت طويلا بمدينة داود وأذلتها» .. في تلك الأيام كان الكلام عن العودة إلى فلسطين نداء يتردد على لسان أحد الحاخامات بين حقبة وأخرى، وربما مرة كل ثلاثين أو أربعين سنة، ولم يكن هناك من يأخذ هذا النداء جديا، أو يعلق عليه بأكثر من أنه حنين يجتر الوهم، لأن العودة خلط متعسف للأسطورة بالتاريخ.
وقد كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتكثيف الإستيطان في القدس بالذات، واحدة من أهم ركائز الدعوة لتحقيق هذا الهدف (ولم تكن هناك قاعدة يهودية كافية تستطيع أن تتحمل عبء هجرة يهودية مؤثرة)..ويكفي أن نذكر أن عدد اليهود في فلسطين عام 1488 لم يتجاوز سبعين أسرة يهودية، وفي عام 1521 أصبح عددها ألف وخمسمائة أسرة، وفي عام 1841 بلغ عدد اليهود في فلسطين 3200 نسمة، ورغم ذلك كان الحلم الأكبر لايزال فاعلا داخل وجدان حاخام القدس، وهو يرسل بإسم العشرات فقط من سكان القدس « حجاب » واق من الشر إلى الملكة « فيكتوريا» 1849 في أعقاب مؤتمر يهودي صغير عقد في لندن برعاية أسرة «روتشيلد» يطلب من الحكومة الإنجليزية أن تسهل لليهود إستعمار فلسطين على نمط ما يحدث في مناطق أخرى من حركة الإستيطان الأوروبي في أفريقيا وإستراليا وكندا !!
الوعد الأمريكي
وكما ورد في المادة الثامنة من إعلان مؤتمر بلتيمور الذي عقد في نيويورك 9/11/1942 بـ «فندق بلتيمور»، وبمشاركة كل التنظيمات الصهيونية في أوروبا وأمريكا، وحضور كل من حاييم وايزمان، ودافيد بن جوريون، وناحوم جولدمان، ( أن يهود أوروبا استطاعوا الحصول على الوعد بالدولة «وعد بلفور» وقد أوشكوا على تحقيق قيام الدولة بمقتضاه، وعلى يهود أمريكا أن يستكملوا الطريق بتحقيق هدفين ) ـ وقد تحددا بوضوح بشأن الواجبات المستقبلية، خلال جلسات المؤتمر.. وهما:
- 1 ـ « تأكيد وتثبيت قيام الدولة»
وقد تحقق، وزاد عليه الالتزام والتعهد الأمريكي الشهير الذي أعطاه هنري كسنجر لإسرائيل، كتابة وبتوقيعه كوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس «ريتشارد نيكسون» 1973، وقد سبقه تعهد آخر في ولاية الرئيس «ليندون جونسون»، وهي شروط مكتوبة تقّر بأن الولايات المتحدة تتعهد بأن تحفظ لإسرائيل تفوقا عسكريا .. وتتعهد بأن تحول دون أي قرار في الأمم المتحدة يوجه اللوم لها .. وتتعهد بأنه مهما كانت الظروف لن تمارس أي ضغط على إسرائيل تحت إلحاح أصدقائها من العرب .. وهي التعهدات الضامنة لوجود إسرائيل، وأمنها، وقوتها، وأضيف إليها «التعهد بألا تتقدم أمريكا بأية مقترحات في أية مفاوضات تجرى بين الأطراف إلا بعد أن تتفق في أمرها مع إسرائيل» .. ثم أضيفت قائمة بتعهدات أخرى تمثل حواكم لفعل السياسة الأمريكية وقراراتها بشأن الصراع في المنطقة !!
- 2 ـ «تحقيق اعتراف العرب بقيامها».. باعتبار أن ذلك هو الضمان الشرعي الوحيد لبقائها، و«تستقر الشرعية حين يقدم الضعيف اعترافه بالأمر الواقع، حتى وإن كان مفروضا علي ».
وقد تحقق الهدف الثاني أيضا، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لأول اتفاقية سلام بين أكبر دولة عربية «مصر» وإسرائيل، ثم لحقتها المملكة الأردنية الهاشمية ، وأضيفت إليهما اعترافات بعلاقات ومكاتب اتصالات تجارية من المغرب وقطر وتونس وموريتانيا!!
والحاصل أنه بعد نحو خمسة وثلاثين عاما تقريبا من مؤتمر بلتيمور، كان الهدفان قد تحققا وزيادة .. وقد أعطى العرب وقدموا من الدلائل والتأكيدات والتنازلات ما لم يكن يخطر على بال أحد من المشاركين في «مؤتمر بلتيمور» حتى في أكثر الأحلام جموحا وإغراقا في الخيال!!
المثلث المشؤوم
هذه العلاقة وصفها نعوم تشومسكي في كتابه «المثلث المشؤوم: الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيون» إصدار عام 1983، بأنها علاقة فريدة لا مثيل لها في تاريخ العلاقات الدولية .. ويصفها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بقوله: «لقد آمن سبعة من رؤساء الجمهورية أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة. لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، لا يمكن تقويضها لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه»، كما نبه بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي العرب إلى هذه العلاقة بقوله: «إن على العرب أن يفهموا بأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأمريكية العربية، لأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي والروحي الذي يتعزز باستمرار بواسطة النشاط السياسي لليهود الأمريكيين!!»
خطيئة ترامب
وجاءت خطيئة ترامب في تتمة قصة الاغتصاب والسطو على التاريخ والجغرافية الفلسطينية .. في خطوة لم يجرؤ أحد من رؤوساء أمريكا السابقين عليها (الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، ومنح الشرعية لأحلام الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر) .. حققها ترامب في الاعتراف ونقل السفارة للقدس المحتلة، وفي توقيت مقصود (ذكرى النكبة).
كانت «خطيئة» ترامب، توثيقا للرؤية الصهيونية، بأن امتلاك اليهود للقدس وإتخاذها عاصمة لإسرائيل، هو سعى لإمتلاك تاريخ المدينة نفسها، وأن من غير القدس ستكون إسرائيل بلا تاريخ ولا تراث.. كانت الأحلام والمطامع، أن يرتبط التاريخ بالجغرافية.. وحيث توفر القدس لليهود ما يحتاجون من رسم جغرافي معلوم على الكرة الأرضية، بقدر ما توفر لهم تاريخا عريقا، فهي جغرافيا في قلب فلسطين ومركزها، وهي رابطة العقد لكل الطرق الممتدة في كل إتجاه على طول الأرض الفلسطينية وعرضها.. ومن ثم هي وحدها الكفيلة جغرافيا بتحقيق حلم الصهيونية، لإقامة إسرائيل الكبرى.. وكذلك لن تستقر القدس يهودية صهيونية إسرائيلية، إلا إذا تم تهويدها وطرد الفلسطينيين ـ سكانها ـ بالقوة، وبالعدوان على كل القوانين والأعراف والشرعية الدولية والقيم الإنسانية !!