في ذكرى رحيل الرجل الكبير.. «ناصر» سيبقى عصيّا على الموت والغياب
يبدو أن عبد الناصر «الرمز» سيبقى عصيا على الموت والغياب، بشخصيته المتفردة، عاش بمقاييس الزمن حياة قصيرة، فقد رحل عن 52 عاما و8 أشهر و13 يوما، ظهر فيها على مسرح التاريخ لمدة 18 عام، مثلت فصلا استثنائيا في التاريخ العربي كله، «زعيم استثنائي» أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد، حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها، وحول أرضها، وفي العالم.
- ثم تبدل«الحال العربي».. وانهارت ثوابت وقيم.. وترهلت مشاعر القومية العربية.. وضرب الانكسار قلب الأمة وأطرافها !!
وهذه الرؤية للرمز الاستثنائي، عبر عنها القيادي والسياسي البارز في تاريخ النضال الفلسطيني، المناضل الراحل صلاح خلف (أبو إياد) بعد سنوات من رحيل عبد الناصر..متسائلا بدهشة وحزن في نفس الوقت: «هل يعقل أن يغيب رجل واحد من ساحة أمة فتختلف أمورها إلى هذا الحد؟! لم يكن في مقدور أحد أن يقنعني أن فردا واحدا يمكن أن يكون له التأثير، لولا أن الحقيقة أمامنا: قبل جمال عبد الناصر كنا في حال، وفي وجوده أصبحنا في حال، وبعده حالنا يصعب على الكافرين والله».
قبل 51 عاما، وفي مساء يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970 ، انقطع فجأة الإرسال العادي للراديو والتليفزيون في مصر، ورنت في الأرجاء آيات الذكر الحكيم، وخالج الجميع شعور بالتساؤل عن سر ما يجرى، وفجأة ظهر أنور السادات على شاشة التليفزيون ليعلن بصوت باكٍ نبأ وفاة الرئيس عبد الناصر، لينفجر فور إعلان النبأ طوفان رهيب من البكاء والنحيب والحزن في كل أنحاء الوطن العربي، وفي كل مكان في العالم توجد به جاليات عربية، ولمدة 3 أيام حتى يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1970.
كان الحدث الأكبر في تاريخ مصر المعاصر، ومع فاجعة الرحيل المفاجئ، هو يوم تشييع جنازة الرئيس عبد الناصر..وفى اليوم التالي 2 أكتوبر/ تشرين الأول 1970، كان مانشيت جريدة التايمز البريطانية (أنه أضخم تجمع بشري في التاريخ)، وجاء تقرير مجلة نيوزويك الأمريكية على جنازة الرئيس عبد الناصر، أكثر وأوضح تعبيرا، عن ظاهرة جنازة تاريخية وغير مسبوقة، وكتبت المجلة الأمريكية عن رجل كانت تهاجمه بالأمس: (لم يشهد العالم جنازة تماثل في ضخامتها جنازة عبد الناصر، وسط مشاهد من عويل المصريين والعرب عليه، بلغت حد التخلي عن الموكب الجنائزي، عندما ضغطت الألوف المؤلفة على الموكب في محاولة لإلقاء نظرة أخيرة على النعش، الذي يحمل جثمان بطلهم الراحل، إن جنازات كيندى وستالين وكمال أتاتورك، تبدو كصور فوتوغرافية إذا ما قورنت بجنازة عبد الناصر، لقد أحس العرب أنهم فقدوا الأب والحامى لهم).
واليوم، وبعد ما يقرب من نصف قرن على رحيل عبدالناصر، وبحسب تعبير ورؤية المفكر الإماراتي، علي عبيد الهاملي ، فإن نظرة إلى واقع العالم العربي، الذي تسوده النزاعات والانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية وكل أشكال الاختلاف والتمزق، تعطينا فكرة عما وصل إليه حال العرب الذين ناضل عبدالناصر من أجل تخليص نفوسهم من هذه النزعات، وحارب ليجمع الأمة على العوامل المشترَكة بينها، وتهميش المختلَف عليه.
- ويضيف عبيد الهاملي: «هذا حال الأمة التي كان عبدالناصر أهم قادتها وأبرز رموزها، ولم يحظ بحب شعوبها في النصف الثاني من القرن العشرين زعيم مثلما حظي جمال عبدالناصر، ولم يؤثر في هذه الشعوب زعيم مثلما أثّر جمال عبدالناصر، بتوجهه القومي، وبخطبه التي كانت تنتظرها الجماهير العربية بلهفة، وتتجاوب معها وهي على بعد آلاف الأميال من مصر العروبة، التي اكتسبت صفتها هذه من خطب عبدالناصر، ومن مواقفه الوطنية والقومية».
الرحيل المفاجىء للزعيم العربي أثار الشكوك وفجر التساؤلات، حول الصدمة التي تلقتها الأمة العربية.. ولكن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، أقرب الناس إلى عبد الناصر، يروي عن النهاية قائلًا: لقد كنت قريبًا منه أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع مني الفهم الصحيح لمعانيها؟ إن ملحمة صراعه مع الألم بدأت سنة 1958، بعد حرب السويس.. وبعد المؤامرة على سوريا.. وبعد الوحدة وبعد ثورة العراق وسقوط حلف بغداد.واكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر..وكتب الأطباء تقريرًا عن حالته يقولون فيه: إن المرض يمكن السيطرة عليه..ولا بد من السيطرة عليه.، وذلك يقتضي ضبط ثلاثة عناصر رئيسية في طريقة حياته: ضبط الطعام. ..وضبط المجهود…وضبط الانفعالات. وقرأ عبد الناصر التقرير..وقال للأطباء وهو يمسك بالتقرير: بالنسبة لضبط الطعام ممكن بشرط واحد.. هو ألا يمتد المنع إلى الجبنة البيضاء.. وكانت الجبنة البيضاء أكلته المفضلة ثم جاءت مؤامرة العدوان سنة 1967 ويومي 9 و10 يونيو/ حزيران حين أعلن قرار التنحى ورفض الشعب المصري و العربي قراره، جاءت هذه التاريخ بانفعالتهما المضنية، فقد كان عمله كله في عملية إعادة بناء القوات المسلحة،وفي عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.. كان يمشي في طريقه.. وكان يدوس على كل الآلام!
وخلال ذلك كله كانت مضاعفات السكر تزداد، وقد أحدثت تأثيرها في شريان القدم اليمنى، وكانت هناك في أعصاب الساقين مسببة لآلام شديدة، وفي شهر يوليو/ تموز سنة 1968 كان على موعد للسفر إلى موسكو، واقترح عليه الأطباء بأن تكون تلك فرصة.. يدرس معهم الأطباء السوفيت فيها حالته. وفوجئت بشدة آلامه وأنا جالس أمامه في الطائرة المسافرة إلى موسكو، وروعت حين وجدته في الطائرة لا يستطيع الجلوس في مقعده من شدة الألم! وفرش له الأطباء سريرًا في الجزء المخصص له في مقدمة الطائرة..وكنت أحاول أن أخفي الانزعاج..ولكنه لمح آثاره.
- فقال برقة لم يكن يستطيعها غيره: سوف أنام بعض الوقت.. وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف! واستيقظ، وعاد إلى كرسيه معنا لكننا لم نشعر أن آلامه قد خفت حدتها.وحاول هو تغيير الموضوع..فقال لي: اطلب ياسر عرفات ليجيء فيجلس معنا هنا بعض الوقت، حتى لا يشعر بالغربة مع بقية أعضاء الوفد من ركاب الطائرة..وكان ياسر عرفات معنا على الطائرة ذاهبًا إلى موسكو، ولم يكن يعرف بوجوده على الطائرة أحد، ولا كان أحد في العالم قد سمع باسمه بعد؛ ولكن جمال عبد الناصر أراد أن يأخذه معه إلى موسكو ليفتح للمقاومة الفلسطينية بابًا يكون لها مصدر سلاح.
وحين جاء ياسر عرفات وجلس بجواره، كان هو قد سيطر تمامًا بإرادته القوية على آثار الألم ومظاهره على ملامحه.. وفي موسكو شهدته في مراسم الاستقبال الرسمي، وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشي، ظلت سيطرته كاملة على آلامه، حتى وصل إلى قصر الضيافة، وأجرى اجتماعًا تمهيديًا مع الزعماء السوفيت،وتمشى معهم في حديث ودي في حديقة قصر الضيافة الواقع على ربو تلال لينني. وكان الزعيم السوفيتي بريجنيف يريه لأول مرة أشجار الكريز. ثم صعد إلى غرفة نومه وخلع ملابسه وتمدد على السرير..رافعًا قبضة إرادته القوية عن آلامه الشديدة الصلبة.
وبعد شهور قليلة، وفي خريف العام 1970 كان عبد الناصر في حالة نفسية سيئة بسبب نزيف الدم العربي في الأردن، وبذل جهدًا كبيرًا في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب لوضع حد لهذه الكارثة، وعندما طلب منه بعض الأصدقاء أن يراعي الجهد الخرافي الذي يبذله في المؤتمر، قال لهم: هناك رجال ونساء وأطفال يموتون..نحن في سباق مع الموت! وطوال تسعة أيام ضغط عبد الناصر على جهده وأعصابه لوقف نزيف الدم العربي، حتى تم توقيع اتفاق القاهرة. وكان اليوم الأخير في حياته..
- وبينما شبح الموت يحوم حول حجرة نوم عبد الناصر، وبدأت الدقائق الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر، تحمل للأطباء النذير المروع.. كانت حالة جمال عبد الناصر تتدهور سريعا، وكان الأطباء حوله يبذلون المستحيل.. وعلي باب غرفة النوم،
انفجر طبيبه الخاص، الدكتور منصور فايز في البكاء، وكانت دموعه هي التي فجرت دموع كل الواقفين في غرفة النوم.. وكانت النهاية..نهاية زعيم عربي استثنائي..أوالنوم الطويل كما كان يتمنى .
وانخلعت قلوب المصريين حزنا فكتب الأدباء والكتاب كلمات أدمت القلوب..
- وقال الأديب يوسف إدريس: يا أبانا الذي في الأرض..ياصدرنا الكبير الحنون الذى كنا في ظله نكتب ونخطئ وننتج ونكبت ونصرخ ونحارب ونثور، يا أكبر من حملت به مصر وأنجبته العروبة، يامن فاجأتنا جميعا بثورتك..أكان لابد ان تفاجئنا بموتك، إذا كان ناصر الجسد قد مات فإن عبد الناصر الروح والشعب لا يموت.
- وقال الشاعر عبد الرحمن الأبنودى: يا من يتساءل: أين مضى عبد الناصر / يا من يتساءل:هل يأتي عبد الناصر / السيد موجود فينا..موجود في أرغفةِ الخبزِ..وفي أزهار أوانينا / مرسومٌ فوق نجومِ الصيف،وفوق رمالِ شواطينا..موجود في أوراقِ المصحف /في صلوات مصلينا..موجود في كلمات الحب..وفي أصوات مغنينا..موجود في عرقِ العمال../ وفي أسوان.. وفي سينا..مكتوب فوق بنادقنا..مكتوب فوق تحدينا..السيد نام.. وإن رجعت أسراب الطير.. سيأتينا..
- وقال الأديب نجيب محفوظ: حياك الله يا أكرم زاهد، إنى أحنى رأسى حبا وإجلالا، نحن من الحزن في ذهول شامل، يعزينا بعض الشئ إلى جنة الخلد تمضى، وسيسعدنى أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة، وراءك فراغ لن يملأه فرد، ولكن يملأه الشعب الذي حررته،سيكون أحب الطرق إلى نفسى الطريق إلى مسجدك، كلنا ماضون ومصر هي الباقية.
- وقال الشاعر نزار قبانى: قتلناك يا آخر الأنبياء /ليس جديد علينا اغتيال الصحابة والاولياء / نزلت علينا كتابا جميلا / لكنا لا نجيد القراءة / وسافرت فينا لأرض البراءة / ولكننا ماقبلنا الرحيلا / وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء.
- وقال الكاتب توفيق الحكيم:أعذرنى يا جمال القلم يرتعش في يدى، فليس من عادتى الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر، لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن القلب تفجعا عليك.