في مذكرات عمرو موسى: قصة الـ37 دقيقة مع أندريا غاندي.. وشهادتي على غزو الكويت

في الحلقة الرابعة، من  الجزء الأول من مذكرت السياسي العربي البارز، عمرو  موسى، يستعرض أجواء ومناخ الواقعة العربية الكبرى «زلزال الخليج» بغزو العراق لدولة الكويت، ويشير موسى إلى علاقاته مع «آل غاندي» في الهند، مرورا بوقائع الإشتباك السياسي مع دول عربية في محافل إقليمية عقب تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية .. ومذكرات عمرو موسى ، التي ستصدر قريبا في كتاب ، اختار لها عنوان «كِتَابِيَهْ»، الذي استمده من الآية القرآنية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيَهْ (الحاقة – 19)؛ ليخط فيها شهادته على الأحداث التي عاصرها من المواقع المختلفة التي شغلها طيلة حياته المهنية، كاشفاً الكثير من الأسرار التي ستحظى باهتمام المواطن المصري والعربي في كل مكان.

37 دقيقة مع أنديرا
تسلمت عملي سفيراً لمصر في الهند في 30 ديسمبر/كانون الأول 1983. كنت أدرك وقتها أن العلاقات المصرية الهندية ليست على ما يرام منذ عهد الرئيس السادات، الذي صرح للصحفيين المصريين على هامش زيارته للعاصمة النمساوية فيينا في 12 أبريل/نيسان 1976 بما معناه أن الهند تقاعست عن تقديم خدمات للطائرات المصرية، لأن نيودلهي فقدت إرادتها السياسية، وأصبحت تخضع لتعليمات الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن على وفاق معه خلال تلك الفترة.

أول تواصل معي بعد وصولي نيودلهي كان مع سفير الأرجنتين. جاء الأمر بمحض الصدفة، ذلك أنني وصلت وعائلتي يوم 30 ديسمبر/ كانون الأول  1983، وفي اليوم نفسه كان هذا السفير يقيم حفل عشاء دعا إليه سفير مصر الجديد وزوجته دون أن يعرفهما، وعندما ذهبت وجدت عدداً كبيراً من سفراء دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وعلى رأسهم عميد السلك الدبلوماسي، ولم يكن هناك أي سفير عربي أو إفريقي ضمن المدعوين!.

أذكر أن عميد السلك الدبلوماسي (سفير الأوروجواي) اصطحبني لبعض الحديث عما يجب أن أعرفه فيما يتعلق بالمراسم التي سوف يواجهها السفير الجديد. سرنا معاً في حديقة منزله الجميلة، راح يسدي إلي بعض النصائح، فقال لي: أنت ستقدم أوراق اعتمادك لرئيس الجمهورية، ثم سيحددون لك موعداً لمقابلة رئيسة الوزراء، أنديرا غاندي، جميع السفراء هنا لم يكونوا سعداء بمقابلة هذه السيدة؛ لأنه لا صبر لها على الجلوس معنا؛ فبعد دقيقة أو دقيقتين ستجدها بدأت بالانشغال عنك بالتقليب في أوراقها، وتتركك تسترسل في الحديث لعدة دقائق بينما تنظر في أوراقها إلى أن تستشعر أنت الحرج وتضطر للاستئذان في الانصراف وتنتهي المقابلة في دقائق.

لا أستطيع أن أصف وقع نصيحة عميد السلك على نفسي. أدركت أنني في موقف صعب جداً قد لا أستطيع تحمله برغم أنني دبلوماسي محترف؛ لأنني لا أتصور أن يمارس أحد عليّ نوعاً من التعالي وأنا سفير لمصر، وبصرف النظر عن الاحتراف ومداه فأنا بتكويني النفسي لا أقبل مثل هذه المعاملة على المستوى الشخصي، ولا على المستوى المهني بصفتي سفيراً لدولة كبيرة في الشرق الأوسط، لها حضورها على المستويين العربي والإسلامي وعدم الانحياز.

(سائقو الشاحنات) مع أنديرا غاندي
في الأيام الأولى من يناير/كانون الثاني 1984 أبلغتني السلطات الهندية بأن موعد تقديم أوراق اعتمادي لرئيس الجمهورية سيكون خلال أسبوعين من وصولي نيودلهي في 30 ديسمبر/ كانون الأول 1983. وفي أوائل مارس/آذار 1984 وجهت لي السلطات الهندية دعوة لمقابلة رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في العشرين من نفس الشهر. قلت «جالك الموت يا تارك الصلاة» بالتعبير المصري الدارج. ذهبت إلى مكتب أنديرا في البرلمان في الموعد المحدد. انتظرت فترة ثم دعيت للدخول فوجدت مكتبها في غاية الأناقة. كراسي الضيوف التي أمام المكتب تبعد عنه نحو مترين، وملحقاً به صالون فخم. لم تجلسني في الصالون (كما تقتضي أمور الضيافة)، بل أشارت لي بأن أجلس أمامها وهي جالسة على مكتبها قلت لنفسي (معلهش فوّت دي).

مدير مكتب أنديرا شينموي جاري خان كان المندوب الدائم للهند في الأمم المتحدة، وكانت بيني وبينه صداقة منذ ذلك الحين. أشار لي بأن أبدأ الحديث. قلت لها: يسعدني ويشرفني أن أكون سفيراً لمصر في الهند؛ نظراً للعلاقات القوية والتاريخية التي تجمع بلدينا، وأن الرئيس حسني مبارك يبعث إليك بتحياته.. إلى آخر هذه الكلمات المعتادة. لاحظت أنها بعد دقيقة أو دقيقة ونصف الدقيقة بدأت لا تهتم بكلامي؛ لأنها معتادة على مثل هذا الكلام الذي يقوله السفراء، وفجأة وجدت يدها اليسرى قد امتدت لتأخذ ملفاً من على يسارها. أيقنت أنها ستبدأ معي لعبة «التطفيش والإهمال» لإجباري على الاستئذان في الانصراف. بدون تجهيز سابق مني نظرت إليها قائلا: يا سيادة رئيسة الوزراء.. خلال الفترة القصيرة التي قضيتها هنا في الهند قمت بجولات للتعرف على بلادكم وزرت ولاية راجستان حيث «تاج محل» وخلال هذه الجولة اكتشفت تشابهاً كبيراً بين المصريين والهنود.

وضعت الملف الذي سحبته أمامها وقالت لي بصوتها الرفيع وأمارات الاهتمام بادية عليها: ?«what similarity» أي تشابه؟. قلت لها على الفور: «truck drivers» (سائقي الشاحنات)، فنظرت إلي وقالت: «سائقو الشاحنات؟»، وكان شيئاً غريباً أن نبدأ حديثنا عن سائقي الشاحنات أو اللوريات!.

قالت لي: هل تعلم يا سيادة السفير أنني كنت منذ 10 سنوات في زيارة للأرجنتين وكنت ذاهبة لزيارة مصنع من المصانع على بعد عدة كيلومترات من «بوينس آيرس» وكان معي وزير خارجيتي، ولاحظت أن هناك تشابهاً في الطرق بين الأرجنتين والهند، وقلت ذلك لوزير الخارجية فقال لي ما التشابه يا رئيسة الوزراء؟ فقلت له: «سائقو الشاحنات»، وضحكنا على ذلك. ثم قالت عبارة «very interesting».

هنا بالضبط أدركت أن انتباهها كله بدأ ينصب نحوي؛ فباغتها بأسئلة عن القضايا الثلاث التي كانت تهيمن على الشرق الأوسط خلال تلك الفترة، والتي تتمثل في: الحرب العراقية ـ الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، والقضية الفلسطينية؛ فتحدثت رئيسة الوزراء عن الموقف في المنطقة. بعد ذلك دعتني إلى الجلوس في الصالون الملحق بالمكتب، وطلبت مني أن أشرح الموقف المصري من القضية الفلسطينية وما نراه ممكناً، فعرضت موقفنا. استمر اللقاء لمدة 37 دقيقة بالتمام والكمال، في حين أنها لا تمنح معظم السفراء ـ كما علمت بعد ذلك ـ أكثر من 15 دقيقة على الأكثر مهما كانت أهمية العلاقات أو الموضوعات المطروحة. خرجت منتشياً، شعرت أنني انتصرت على طريقة هذه السيدة في التعامل مع السفراء. صارت ال37 دقيقة التي أمضيتها مع أنديرا غاندي حديث السلك الدبلوماسي كله في نيودلهي، وكيف أن السفير المصري الجديد في جلسته الأولى معها نجح في اقتناص كل هذا الوقت منها.

اشتباك مع السوريين

كانت أول مهمة أمامي في الولاية الثانية لإدارة الهيئات الدولية بعد عودتي من الهند هي مشاركة مصر في مؤتمر القمة الإسلامي في الكويت، الذي انعقد في الفترة من 26- 29 يناير/ كانون الثاني  1987، وقت المقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقية السلام مع «إسرائيل» سنة 1979. كان الجو العربي العام قد بدأ يهدأ مع مصر من مختلف الدول العربية إلا سوريا، التي توقعت الصدام معها خلال هذا المؤتمر. أتاح لي منصبي أن أكون الرجل الثاني في الوفد المصري فعلياً بعد الوزير عصمت عبدالمجيد وإن لم يكن بروتوكولياً، حيث كان بالوفد بعض قدامى السفراء من مساعدي الوزير، فرأست الوفد على مستوى السفراء.

افتتحت سوريا الاجتماعات بهجوم عنيف على مصر، ما أعاد تذكيري بالمعارك التي خضناها في المنظمات الإقليمية والدولية المختلفة ضد محاولات دول جبهة «الرفض» لطرد مصر منها. كان الهجوم السوري قاسياً علينا في الاجتماع التحضيري المنعقد على مستوى السفراء تمهيداً لانعقاد القمة. تحدث ممثل سوريا بالكثير من العصبية. اتهم مصر ب«الخيانة والتخلي عن الحقوق والثوابت العربية» .. قررت شن هجوم مضاد كاسح، اعتمدت فيه على عنصر المفاجأة. قلت بأعلى الصوت أمام الاجتماع: «الآن.. الآن فقط تستطيع مصر أن تفضح من يزايدون عليها وعلى عروبتها وهي قائدة هذه الأمة.. ها هي وثيقة أكشف عنها أمام الاجتماع تفضح اللقاءات السرية بين «الإسرائيليين» والسوريين، الذين يملؤون الأرض حديثاً عن الكفاح والنضال وانتقاد الآخرين الذين يعملون في العلن ولا يوجد لديهم ما يخفونه».

تكهرب الجو في القاعة.. وران الصمت على الجميع؛ فالكل يريد أن يعرف تفاصيل هذه اللقاءات التي تحدثت عنها بمن فيهم أعضاء الوفد السوري نفسه الذين أخذتهم المفاجأة التي أعلنت عنها، والتي كانت إحدى الجهات المصرية قد كشفت عنها لوزير الخارجية عصمت عبدالمجيد، وأخبرني بها قبل ذهابنا إلى الكويت لحضور هذه القمة. كان كل ما يقوله السوريون في الهجوم على مصر كلاماً مكرراً ومعاداً؛ فاهتم الجميع بما سأكشف عنه، وتعلقت الأبصار والآذان في اتجاهي حين طلبت الكلمة وأعطيت لي على الفور. قدمت للمجلس ـ وفيه ممثلون لكل وفود الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي التي أصبحت تدعى الآن منظمة التعاون الإسلامي ـ ما يشبه الوثيقة عن اللقاءات السورية – «الإسرائيلية» التي تتم في السر. كانت المعلومة التي أفادتنا بها إحدى الجهات المصرية تقول: «إن لقاءات سرية تتم بين السوريين و«الإسرائيليين» في العاصمة السويسرية «برن»، فقمت بعمل إخراج فيه شيء من التشويق على عصب هذه المعلومة. قلت إنه في الساعة كذا من يوم كذا في المنزل رقم كذا بشارع جانبي في العاصمة السويسرية التقى وفد سوري بوفد «إسرائيلي» وتم الحديث فيه عن الوضع الفلسطيني وعن التعاون فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والجولان، وأن الأمر لم يكن قاصراً على لقاء واحد بل لقاءات متعددة، وصدر عنها اتفاقات سرية تتصل بضمان موقف سوري حقيقي مطمئن «للإسرائيليين» فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. والآن يحاول الإخوة السوريون أن يعطونا دروساً في الوطنية وفي العروبة!.. وجهوا لأنفسكم هذا الكلام أولاً.. إلخ.

المعلومات التي لدينا تشير إلى أن اللقاءات تمت في المساء في أحد الشوارع الجانبية الصغيرة، لكنني تعمدت أن أضع ساعة وتاريخاً بعينه من عندي إمعاناً في تأكيد المعلومة وإضفاء جو من الدراما عليها. كاد الجنون يعصف بأعضاء الوفد السوري وهم يسمعون هذا الكلام.. بعضهم أراد مقاطعتي لكن رغبته الأكيدة في الاستماع إلى مزيد من الأسرار التي أكشف عنها حالت دون ذلك. خرجت من اجتماع السفراء حيث تهافتت الوفود لمعرفة المزيد من التفاصيل عن اللقاءات السورية ـ «الإسرائيلية» السرية، لكنني توجهت إلى حيث يجلس عصمت عبدالمجيد في أحد الصالونات بمقر انعقاد القمة بالكويت، ومعه عدد من وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية المشاركة في القمة. كانوا قد سمعوا بما حدث وكانت تعليقاتهم تتجه نحو أن ما جرى من نقاش إنما يشكل أمراً طريفاً أكثر منه أمراً خطيراً.

مندوب دائم لمصر في الأمم المتحدة
تسلمت عملي كمندوب دائم لمصر في الأمم المتحدة بنيويورك في أول فبراير/شباط 1990. لا أستطيع أن أصف حجم شعوري المفرط بالسعادة وأنا أدخل أروقة المنظمة الدولية الأكبر في العالم لأول مرة كسفير ورئيس لوفد بلادي لديها. خلال الفترة التي ترأست فيها الوفد المصري الدائم اشتبكت في قضيتين كبيرتين هما: «المبادرة المصرية لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط» و«الغزو العراقي للكويت».

أما عن المبادرة فهي في الأساس اقتراح تقدمت به إلى وزير الخارجية وطلبت أن تتبناه الدولة المصرية، ففي 2 أبريل/ نيسان  1990 ورداً على التهديدات «الإسرائيلية»، بالهجوم على العراق، ألقى صدام حسين خطاباً في حفل تكريم كبار القادة العسكريين العراقيين، بثته الإذاعة والتلفزيون. وقال: «إننا سنرد على «إسرائيل»»، إذا استعملت ضدنا أسلحة نووية». ثم أقسم أنه إذا تعرض العراق لهجوم نووي «إسرائيلي»، فإنه سيستعمل أسلحة متطورة، تحرق بالنار نصف «إسرائيل».

أثارت تصريحات الرئيس العراقي ردود فعل واسعة عالمياً وإقليمياً وعربياً، وأمام هذه الضجة رأيت أنه لا بد لمصر من تحرك ما يستغل هذا التصعيد العراقي ضد «إسرائيل» ـ بإعلانه عن امتلاك سلاح بصورة أو أخرى يعد رادعاً لـ«إسرائيل»، وإن بدرجة أقل من سلاحها النووي ـ في جني مكاسب للعالم العربي كله على صعيد نزع السلاح النووي«الإسرائيلي»، واقتراحي في هذا الصدد تمثل في مبادرة كتبتها وأرسلتها لوزير الخارجية عصمت عبدالمجيد. وقلت إن مصر يجب أن تتبناها، خاصة وأن مبادرتي تتجاوز المبادرة السابقة لمصر مع إيران والخاصة بإنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط، إذ إن المبادرة التي اقترحتها تطالب بإنشاء «منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل»، ذلك أنني قدرت أن وقت طرح هذه المبادرة فرصة لا تعوض للمطالبة بصيغة عمل لا استثناء فيها (أي لإدخال ««إسرائيل»» في أي عملية لتحديد التسلح أو ضبطه أو التحقق منه). كما قد تكون فرصة لا تعوض لإبلاغ كافة القوى الأخرى في المنطقة برسالة هادئة للغاية لكنها فعالة بأنه حين يدلهم الأمر فإن بيد مصر وحدها أن تعمل قوتها ومكانتها وقدراتها الدولية لموقف يخشون عواقبه. أرسلت تفاصيل هذه المبادرة في برقية رسمية إلى وزارة الخارجية في 6 أبريل/ نيسان  1990

مفاجأة غزو الكويت

في نهاية يوليو/تموز من سنة 1990 حضرت من نيويورك إلى مصر للمشاركة في المؤتمر التاسع عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية في القاهرة الذي انعقد في الفترة من 31 يوليو/ تموز  إلى 5 أغسطس/ آب 1990. كانت الأجواء إيجابية في هذا الاجتماع، وبينما نحن منهمكون في إعداد مشروع البيان الختامي، جاءت الأنباء مع فجر يوم 2 أغسطس / آب  لتؤكد أن القوات العراقية قد دخلت الكويت بالفعل، فهرع وزراء خارجية الدول العربية الذين كانوا يشاركون في المؤتمر الإسلامي، ومعهم الأمين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي لعقد جلسة طارئة لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة، علماً بأن أمانة الجامعة كانت ما تزال في تونس حتى تلك اللحظة. وبالتنسيق بين الخارجية المصرية وأعضاء أمانة الجامعة العربية تم تجهيز قاعة كبيرة في فندق سميراميس إنتركونتننتل لاجتماع وزراء الخارجية العرب في الساعة العاشرة من صباح نفس اليوم، وقد حضرته ـ باعتباري رئيس الوفد المصري لدى الأمم المتحدة ـ ضمن الوفد المصري الذي حضر هذا الاجتماع برئاسة وزير خارجيتنا الدكتور عصمت عبدالمجيد.

انعقد الاجتماع الصباحي، ولم يكن وزير الخارجية العراقي مشاركاً فيه، بل كان يمثله أحد وكلاء الوزارة، ومعه سفير العراق لدى القاهرة، نبيل نجم التكريتي، ولم تصلهما تعليمات من بغداد؛ لأنهما جاءا إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية، بتعليمات محددة. أمّا هذا الاجتماع الطارئ فلا تعليمات لديهما بخصوصه. انتهت الجلسة الصباحية دون أي نتيجة تذكر؛ لأن الأمر كله كان مفاجئاً لهؤلاء الوزراء، ولم تصلهم تعليمات محددة من الرؤساء والملوك، الذين لم يكونوا بدورهم قد استوعبوا ما جرى في ساعات الصباح الباكرة، وانهمكوا في اتصالات سياسية فيما بينهم ومع صدام حسين.. لكن حدث أن تقدم ممثل الكويت الدكتور عبدالرحمن العوضي بمشروع قرار للاجتماع يدين العدوان العراقي على دولة الكويت، ويرفض أي آثار مترتبة عليه، ولا يعترف بتبعاته، ويطالب العراق بالانسحاب الفوري، غير المشروط، للقوات العراقية إلى المواقع التي كانت فيها قبْل الأول من أغسطس/آب  1990. ويرفع الأمر إلى الملوك والرؤساء العرب، للنظر في عقد اجتماع قِمة طارئ، لمناقشة العدوان، وبحث سُبُل التوصل إلى حل عادل لهذه الأزمة، ويرفض رفضاً قاطعاً أي تدخّل، أو محاولة تدخّل أجنبي، في الشؤون العربية.

كان العوضي والحق يقال مدافعاً صلباً عن موقف بلاده وفي مهاجمة العدوان عليها وعلى سيادتها، كان قادراً علي مجابهة الحجج العراقية وتفنيدها، ما أثار إعجاب معظم الحاضرين رغم المأساة وجو الكآبة الذي كان يحيط بالاجتماع، والشعور بالتحسب للنتائج الوخيمة المترتبة علي هذه التطورات. وقد أعجبت شخصياً بأداء العوضي. بعد ذلك قرر العراق إرسال وفد على مستوى عال، برئاسة الدكتور سعدون حمادي بطائرة خاصة ليمثل العراق في الاجتماع الوزاري العربي، وقد لحق هذا الوفد بالجلسة المسائية. قبل بدء هذه الجلسة طلب حمادي عقد لقاء خاص بالدكتور عصمت عبدالمجيد، وقال الوزير العراقي لوزير خارجية مصر إن شمساً جديدة ستشرق على الخليج ومن مصلحة مصر عدم تقديم أو تبني مشروع القرار (الكويتي)، الذي رد عليه بأن مصر لا تقبل مثل هذا الكلام، وعلى العراق أن يتراجع ويسارع إلى الانسحاب.. بعد شد وجذب وعدم حدوث إجماع صدر قرار مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، رقم 5036، المؤرخ في 2 أغسطس 1990، والصادر في 3 أغسطس، في شأن إدانة الغزو العراقي للكويت بالأغلبية البسيطة، والذي استنكر الغزو وطالب العراق بالانسحاب غير المشروط، كما ورد في مشروع القرار الكويتي.
وهنا بدأ التصدع والانقسام يصيب النظام العربي بفعل غزو العراق للكويت، بعد أن انقسم العالم العربي ما بين من أيد مغامرة صدام حسين لأسباب عدة منها أنهم صدقوا أن حصة من ثروات الكويت سوف تأتي إليهم، ومنهم من حلل الموقف بأن صدام ما كان ليقدم على ذلك إلا بعد تنسيق أو ضوء أخضر أو أصفر من الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ ومن ثم لا منطق في الوقوف ضد صدام. باختصار منهم من خاف من صدام وخشي سطوته أو انتقامه، إلا أن دول الخليج برمتها ومصر وسوريا وبعض دول المغرب العربي كانوا من المعارضين لها ومدافعين عن حق الأشقاء الكويتيين، الذين تم الاعتداء عليهم.

بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية العرب صدرت الأوامر من الرئيس مبارك إلى عصمت عبدالمجيد بأن يبقى عمرو موسى في القاهرة؛ لأن الأحداث تتطور بشكل سريع ومتلاحق وتحتاج وجوده معنا. هذا ما ذكره لي أحد مساعدي الرئيس المقربين، إلا أن تطورات الوضع في الأمم المتحدة واحتمالات انعقاد مجلس الأمن أو الجمعية العامة عجلت بعودتي إلى نيويورك. في 8 أغسطس، قرر الرئيس أن يوجِّه حديثاً إلى الأمّة العربية في مؤتمر صحفي عالمي، بدأ في الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم، وتحدث فيه مبارك بإسهاب عن الأزمة والمساعي المصرية لحلها، وأنهاها بالدعوة لعقد قمة عربية طارئة في القاهرة في غضون 24 ساعة، كنا قد بدأنا الإعداد لها بالفعل بالتشاور والتنسيق مع عدد من الدول العربية.. استدعيت من رئاسة الجمهورية للعمل مع الرئيس مباشرة، خلال هذه القمة بالتنسيق مع أسامة الباز مستشاره السياسي، وبالفعل حجزت الرئاسة لي غرفة في فندق ميريديان القريب من الرئاسة، والذي انعقد فيه المؤتمر ويتواجد فيه الرئيس. ورغم مشاركتي زملائي في الخارجية الإعداد لهذا المؤتمر، إلا أن استدعاء الرئاسة المباشر لي تسبب في نوع من علامات الاستفهام بالنسبة لدوري. لاحظت أن فريق الخارجية لم يتعامل معي بنفس حماسة وترحيب فريق الرئاسة، فيما عدا أحمد أبو الغيط الذي ظل على تواصل معي، ربما كي يعرف الأخبار.

عندما انعقدت القمة في الموعد المحدد كان لمصر وفدان: الأول وفد رئيس القمة وهو الرئيس مبارك، ويجلس خلفه اثنان هما: أسامة الباز وأنا. والوفد الثاني ويترأسه وزير الخارجية الدكتور عصمت عبدالمجيد، وخلفه عدد من مساعديه في وزارة الخارجية، وبطبيعة الحال كانت كل الخيوط في يد مبارك، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعمل فيها بشكل مباشر معه؛ ذلك أن اجتماعاتنا ـ الرئيس وأسامة الباز وأناـ قد زادت خلال هذه الفترة للتشاور وتقدير المواقف، وكان عبدالمجيد منهمكاً في إعداد قرارات القمة، والحشد لموقف يدين العراق وينتصر للكويت.

سيطر حسني مبارك بقوة على المؤتمر، خاصة في الجلسة المسائية الختامية، حيث أعطى الكلمة لرئيس الوفد العراقي، طه ياسين رمضان، ثم لرئيس الوفد الكويتي، ولي العهد الشيخ سعد العبدالله الصباح. ثم فتح الباب لمناقشة عامة، حول الأزمة، تلاها بحث مشروع القرار. ساد الهرج والمرج القاعة، والكل يريد الحديث، وهذا مؤيد وذاك معارض، فتدخّل مبارك بمنتهى الحزم باعتباره رئيس الجلسة، وقال: إن لدينا مشروع قرار، وزّعناه، في الصباح، وسوف أطرحه، الآن، للتصويت.

فارتفعت أصوات، تناشده تأجيل طرح القرار للتصويت؛ لأن المناقشة لم تستوفِ حقها، بعدُ، والموضوع فيه خطر والظروف أشد خطراً. وعلق الرئيس مبارك، بأنه لا يسمع مناقشة جادّة، وإنما يسمع مهاترات، وأن قراره، كرئيس للجلسة، هو طرح الموضوع للتصويت. وطلب من الموافقين على مشروع القرار، أن يرفعوا أيديهم. وعدّ الرئيس مبارك الأيدي المرفوعة أمامه، وقال: «حداشر (أحد عشر) (غير مصر) أغلبية موافقة».. وهنا أود للتاريخ أن أقول إنه لولا الحركة المفاجئة والمباغتة التي أقدم عليها الرئيس مبارك بطرح القرار وسط الفوضى السائدة، ثم قيامه هو نفسه بعد الأصوات الموافقة والمعارضة، ثم إعلان النتيجة ورفع الجلسة، ما كان القرار قد صدر، ولنَظم أنصار الغزو العراقي أنفسهم ومنعوا صدور القرار.

راجيف غاندي
بعد اغتيال أنديرا في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1984 تابعت بشغف واهتمام شديدين سياسة خلفها راجيف غاندي، وهو ابنها الشاب الذي تولى السلطة بعدها بعد أن نجح في قيادة حزب المؤتمر ليفوز بأغلبية مريحة في الانتخابات البرلمانية، التي أجريت سنة 1984. كان مبعث شغفي بمتابعة راجيف غاندي، ذلك الطيار المدني ذي الأربعين ربيعاً، الذي درس في جامعة كامبردج البريطانية، والمتزوج من سونيا غاندي الإيطالية، هو معرفتي بميوله ناحية الغرب، وبالتالي رصد التحول الذي قد يحدث للهند في علاقتها مع القوتين العظميين من اتجاه نحو الولايات المتحدة، والابتعاد عن الاتحاد السوفييتي، الذي كانت والدته شديدة الحرص على علاقات قوية معه مقارنة بالولايات المتحدة.

من دون الدخول في تفاصيل الفترة التي عاصرت فيها حكم راجيف غاندي حتى غادرت الهند في 31 ديسمبر/كانون الأول 1986 – والتي رصدت فيها بدقة شديدة تحوله الملموس نحو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يرجع إلى برقياتي التي أرسلتها إلى وزارة الخارجية من نيودلهي سيجد هذا الرصد الدقيق يوماً بيوم.

نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]