كولن: أردوغان خان تركيا وأغرقها في الاستبداد

نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالًا للمفكر التركى فتح الله كولن، مؤسس حركة «خدمة» أبرز معارضى رجب طيب أردوغان، تحدث فيه عن تدمير الرئيس التركى القيم الديمقراطية، وتعطيله الدستور، وتغييبه سلطة القانون فى ظل نظام حكم الفرد الواحد الذى يتزعمه.

ورغم ذلك، فإن «كولن» يرى أنه ليس من الإنصاف تحميل الإسلام فشل تركيا فى بناء ديمقراطية تحترم دولة القانون، لأن مبادئ الإسلام لا تتعارض مع الديمقراطية، معتبرًا أن ما حدث فى تركيا إنما هو انقلاب على القيم الإسلامية والمبادئ الدينية.

فى وقت ما كانت تركيا تعتبر نموذجًا للديمقراطية المسلمة الحديثة. صحيح أنه وفى بدايات الألفية الجديدة، كان حزب العدالة والتنمية AKP بعد تسلم الحكم، قد أطلق بعض الإصلاحات التى تتطابق والمعايير الديمقراطية للاتحاد الأوروبى، وحسّن من حصيلة البلد فيما يخص وضعية حقوق الإنسان، لكن، وللأسف، لم تدم تلك الإصلاحات طويلًا، وتم تعليق المسار الإصلاحى بعد العام ٢٠١١، فى الوقت الذى فاز فيه الرئيس الحالى للبلاد رجب طيب أردوغان، برئاسة الحكومة للمرة الثالثة وانعطف بالبلاد للوراء بشكل تام.

لقد كان لهذا الانزلاق نحو الاستبداد أثر سلبى على تركيا، بحيث نزع عنها ثوب «النموذج المثالى» الذى كانت تطمح إليه معظم الدول الإسلامية فى المنطقة. إن الديمقراطية نظام حكم يتطابق بشكل كبير والمبادئ الإسلامية التى تعنى بمسألة الحكم والحكامة. لكن هناك من قد يحتجّ بالمثال السيئ لتركيا أردوغان من أجل إثبات عدم تطابق القيم الإسلامية والقيم الديمقراطية، غير أن المتابع من الخارج يلحظ جليًا أن نظام أردوغان يمثل خيانة صارخة للقيم الإسلامية الأساسية. إن القيم الإسلامية لا يمكن اختزالها فى نمط من اللباس أو شعارات دينية معينة. فالقيم الإسلامية أوسع من ذلك، فهى تشمل سيادة القانون، واحترام استقلال السلطة القضائية، ومحاسبة السلطة التنفيذية، وحماية الحقوق والحريات الأساسية لكل مواطن. ولذلك ففشل التجربة الديمقراطية التركية لم يكن نتيجة للتمسك بالقيم الإسلامية، بل نتيجة لخيانتها.

إن المجتمع التركى وإن كان معروفًا بانتمائه للإسلام بنسبة ٩٩٪، فإنه يبقى، وبشكل ملحوظ، مجتمعًا متنوعًا وغير متجانس. فالمواطنون الأتراك ينتمون إلى أيديولوجيات، وفلسفات، ومعتقدات متعددة ومختلفة، ويعرّفون أنفسهم كسُنيين أو علويين، أو أتراك، أو أكراد، أو من إثنيات أخرى، كمسلمين أو غير مسلمين، متدينين أو علمانيين. وفى مجتمع كهذا، تكون محاولات فرض أيدولوجية معينة غير مجدية، بل تعد على الكرامة الإنسانية. وتبقى طريقة الحكم التشاركى التى لا تسمح لأى مجموعة سواء من الأغلبية أو الأقلية أن تسيطر على الآخرين، هى الأصلح لمجتمع متعدد الانتماءات كالمجتمع التركى. وقد ينطبق هذا على سوريا وبعض دول المنطقة.

إن الحيلة التى لجأ إليها القادة السلطويون عبر التاريخ، سواء فى تركيا أو فى بلدان أخرى من أجل الحفاظ على سلطتهم، هى الاستفادة من أشكال التنوع والتعدد بين أطياف مجتمعاتهم والعمل على الإيقاع بينهم وتحريضهم ضد بعض. ومن ثم فإنه على جميع المواطنين الالتفاف حول الحقوق والحريات العالمية والوقوف فى وجه المنتهكين تلك الحقوق باستعمال الطرق والوسائل الديمقراطية، مهما اختلفوا فى معتقداتهم الدينية أو تصوراتهم الفلسفية.

إن التصدى للظلم حق ديمقراطى، وواجب حضارى، وهو كذلك واجب دينى فى حق كل مسلم. فالقرآن الكريم يأمر المؤمنين بعدم السكوت عن الظلم. قال تعالى فى سورة النساء الآية ١٣٥: «يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين».

إن ما يجعل من الشخص كائنًا إنسانيًا، سواء كان مؤمنًا أو غير مؤمن، هو أن يعيش طبقًا لقناعاته وتصوراته شريطة ألا يؤثر سلبًا على الآخرين، وأن يمارس كل حرياته الأساسية، وفى مقدمتها حرية التعبير. فالحرية حق إلهى وهبه الرحمن سبحانه للإنسان، ولا يملك أحد الحق فى نزعه منه.

وعلى خلاف ما يدعيه الإسلاميون السياسيون، فإن الإسلام ليس أيديولوجيا، بل هو دين. صحيح أنه يتضمن بعض المبادئ المتعلقة بالحكم والحكامة، لكنها لا تمثل إلا ٥٪ من مجموع الكتاب والسنة. إن حصر الإسلام فى أيديولوجيا سياسية لهو جرم صارخ ضد روح الإسلام. فكل أولئك الذين فكروا فى اختزال الإسلام فى السياسة والدولة وقعوا فى ثلاثة أخطاء.

أولًا، خلطوا بين الإسلام الذى جاء به الكتاب والسنة، والإسلام الذى نتج عن التجربة التاريخية للمسلمين. إنه من الضرورى إجراء تحليل نقدى لتجربة المسلمين والمبادئ التى انبثقت عن هذه التجربة بالرجوع إلى مصادر الإسلام الأساسية بغية اقتراح أفق جديد لمسلمى العالم المعاصر فى مجالات حقوق الإنسان، والديمقراطية، والمشاركة المجتمعية.

الخطأ الثانى يكمن فى الركوب على تأويلات للقرآن الكريم ولبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إضفاء الشرعية على أيديولوجيا ما وحمل الناس عليها؛ فى الوقت الذى لا يمكن فيه فهم روح القرآن المجيد وفلسفة السيرة النبوية إلا عبر قراءة كلية شاملة وبحث بنية متجردة دءوبة لمعرفة مراد الله تعالى.

وثالث الأخطاء يتمثل فى الزعم بعدم تطابق الدين والديمقراطية، على أساس أن الدين ينص على أن الحاكمية لله، والديمقراطية تقوم على إرادة الشعب. والحق أن المسلم لا يشك أبدًا أن الله تعالى هو الحاكم المطلق فى الكون، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أننا نحن البشر، ليست لدينا الإرادة أو الميول أو القدرة على الاختيار أو أنه لا قيمة لتلك الإرادة عند الله. ثم إن السيادة الشعبية لا تعنى أبدًا أن السيادة المطلقة قد سُلِبت من الله تعالى وأُعطيت للبشر، بل تعنى أنها وديعة منحها الله لكل الناس ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يحتكرها فرد أو أقلية حاكمة «أوليغارشية».

أضف إلى أن ما نسميه نحن «دولة» ليس إلا نظامًا أسسه البشر من أجل الحفاظ على حقوقهم وحرياتهم الأساسية وتحقيق العدالة والسلم فيما بينهم. فالدولة ليست مقصدًا فى حد ذاتها، بل هى وسيلة تساعد البشر على الوصول إلى سعادتى الدنيا والآخرة. كما أن مصطلح «الدولة الإسلامية» متناقض فى حد ذاته. فالإسلام لم يتأسس على أساس كهنوتى ولا يوجد فيه رجال دين، وبالتالى فالثيوقراطية أو نظام الحكم المبنى على الدين يبقى شيئًا غريبًا عن روح الإسلام. أما الدولة، بما أنها مُخرَج وبناء بشرى نتج عن عقد اجتماعى، فلا يمكنها أن توسم بأنها «إسلامية» أو «مقدّسة».

إن الديمقراطية فى عالم اليوم تتعدد فى تجلياتها وتتنوع فى أشكالها. والغاية المثلى التى تصبو إليها كل أشكال الديمقراطية هذه، هى عدم سيطرة مجموعة ما على الآخرين، وهى الغاية نفسها التى يرومها الإسلام. فقد أقر الإسلام مبدأ المساواة بين المواطنين انطلاقًا من الاعتراف بكرامة كل إنسان واحترامه واعتباره خلقًا من خلق الله المكرّم كما هو فى آية «ولقد كرمنا بنى آدم». وبالتالى فطريقة الحكم التشاركية أو الجمهورية تتناغم وروح الإسلام أكثر من أى طرق وأشكال أخرى فى الحكم كالملكيات أو الأوليجارشيات الشمولية.

لقد أفسد أردوغان الديمقراطية التى كانت بمثابة بشرى خير على تركيا، وذلك من خلال إحكام قبضته على جهاز الدولة، ومصادرة شركات كبيرة ومكافأة المتآمرين معه. كما أعلننى عدوًا للدولة، واتهمنى والمتعاطفين معى بأننا السبب وراء كل الشرور والمشاكل التى وقعت فى التاريخ القريب من تركيا، وذلك من أجل إحكام قبضته على السلطة والتأثير على توجهات الرأى العام التركى. وهذا يعد نموذجًا مثاليًا فى استغلال شخص أو جماعة كفزاعة أو ككبش فداء.

لقد اعتقل نظام أردوغان مئات الآلاف من الأشخاص الذين ينتقدون سياسته، وخصوصًا المنتمين إلى حركة «الخدمة» السلمية. لقد تعرض كل من انتقد سياسات أردوغان إلى العديد من الممارسات القمعية، بدءًا من نشطاء احتجوا باسم البيئة، وصحفيين، وباحثين جامعيين، وأكراد، وعلويين، ومواطنين غير مسلمين، وبعض الجماعات الإسلامية. وقد دُمرت أسر وحيوات جراء الاعتقالات العشوائية والطرد التعسفى وحالات ظلم أخرى.

وبسبب هذا الاضطهاد المستمر، اضطر الآلاف من المتطوعين فى حركة «الخدمة» لطلب اللجوء إلى بلدان أوروبية، كفرنسا. وبما أنهم سيصبحون مقيمين جددًا فى هذه البلدان، فبالتأكيد سوف يندمجون فيها ويحترمون قوانينها، ويسهمون فى إيجاد حلول للمشاكل المجتمعية التى تعترضها، وفى مقدمتها مواجهة انتشار التأويلات الراديكالية عن الإسلام فى أوروبا من خلال المشاركة الفعالة والمشاريع الإيجابية البناءة.

ما زالت حملة الاعتقالات الجماعية التى تدين آلافًا من الأبرياء بسبب تعاطفهم مع فرد ما أو جماعة ما مستمرة فى تركيا. فقد فقَد أكثر من ١٥٠.٠٠٠ فرد عملهم، ووضع أكثر من ٢٠٠.٠٠٠ شخص فى السجن الاحتياطى، واعتقل أكثر من ٥٠.٠٠٠ واحد منهم. أما المواطنون الموضوعون تحت المراقبة لأسباب سياسية والذين يريدون مغادرة البلاد فمحرومون من حقوقهم الأساسية، التى نصت عليها الأمم المتحدة، فى حرية التنقل بسبب إلغاء جوازات سفرهم.

إن أردوغان يستغل سمعة تركيا التى اكتسبتها الجمهورية على المستوى الدولى منذ ١٩٢٣، وذلك باستخدام العلاقات الدبلوماسية، وحشد موارد الدولة من أجل مضايقة واختطاف المتعاطفين مع حركة الخدمة فى جميع أنحاء العالم.

أما ما يتعلق بالشأن الداخلى، فإننا نلاحظ فى الآونة الأخيرة تراجعًا ملحوظًا فى مطالبة الأتراك حكامهم بالديمقراطية، ولعل أكبر الأسباب فى ذلك يعود إلى مخاوفهم وقلقهم من تدهور الاستقرار الاقتصادى النسبى الذى ينعمون به.

لكن هناك سببًا تاريخيًا كذلك. لقد وضعت الجمهورية التركية الحكم الديمقراطى مثلًا أعلى تعمل للوصول إليه، لكنها لم تضع برامج تربوية ولم تبذل جهودًا منظمة لترسيخ القيم الديمقراطية فى أوساط القاعدة الشعبية. فالطاعة العمياء للحاكم القوى وللدولة كانت دائمًا موضوعًا متكررًا فى المناهج الدراسية. كما أن الانقلابات العسكرية، والتى كانت تحدث تقريبًا كل عشر سنوات، لم تسمح للديمقراطية بالتجذر أو التطور. ونسى المواطنون أن الدولة موجودة من أجل الشعب، وليس العكس. وقد استفاد أردوغان كثيرًا من هذه النفسية الجمعية.

قد تكون الديمقراطية التركية فى حالة غيبوبة الآن بسبب النظام الحالى، لكننى ما زلت متفائلًا. فالقمع لا يدوم طويلًا. ولذلك فإننى على يقين قوى أنتركيا ستعود أدراجها يومًا ما إلى طريق الديمقراطية مرة أخرى. إلا أنه من الواجب اتخاذ حزمة من التدابير اللازمة إذا أردنا للديمقراطية الاستمرار والتجذر.

علينا أولًا مراجعة المناهج الدراسية. فمواضيع كالمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، والحفاظ على الحقوق والحريات الأساسية للفرد يجب أن تدرس للتلاميذ منذ السنوات الأولى من التعليم، حتى يصبحوا هم من يحافظ عليها عندما يبلغون سن الرشد.

ثم إنه من اللازم إعادة صياغة دستور لا يعطى الفرصة لسيطرة وهيمنة أقلية أو أغلبية على الآخرين، ويحفظ الحقوق الأساسية للإنسان كما هو منصوص عليه فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان للأمم المتحدة. ويجب على المجتمع المدنى والصحافة الحرة أن يحظيا بالحماية من طرف هذا الدستور حتى يتمكنا من لعب دور الرقابة والضبط للسلطة التنفيذية إذا خرجت عن إطار صلاحياتها. وأخيرًا، يجب على قادة الرأى العام ورموز المجتمع أن يعلوا من شأن القيم الديمقراطية فى خطاباتهم وكتاباتهم وممارساتهم.

إن تركيا اليوم قد علّقت العمل بالديمقراطية وحقوق الإنسان ووضعتهما جانبًا. وللأسف، فقد فوتت تركيا، كدولة ذات أغلبية مسلمة، على نفسها فرصة تاريخية للوصول إلى الديمقراطية على النسق الأوروبى. وقد كان ذلك ممكنًا بشكل واقعى قبل عشر سنوات.

إننى أرجو أن تتمخض هذه التجارب المريرة والحزينة التى تعيشها تركياوبعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة عن وعى جماعى بأهمية بث روح الديمقراطية وسيادة القانون وإجراء انتخابات حرة وعادلة واحترام الحريات والحقوق الأساسية للأفراد.

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]