لغز عبقرية «عوالم نجيب محفوظ»
في دراسة استندت إلى منهج نقدي متنوع المداخل والقراءات رصد الدكتور صلاح فضل في كتابه “عوالم نجيب محفوظ” عددا من الظواهر التي تسهم في إنارة دروب حارات شيخ الروائيين العرب، بعنوان تعمد فيه الناقد أن يضمنه “مراوغة بين دلالتين من صلب حارات محفوظ التى تعج بالدراويش وبنات الهوى، بالعلماء وعوالمهم الجادة الصوفية، والعالمات وحيواتهن الصاخبة الشقية” بحسب ما سجل فى مقدمة الكتاب التي جاء فيها:
“بوسعنا أن نقول عن عصر الرواية فى القرن العشرين إنه عصر نجيب محفوظ، عمـَّـره بعوالم متنوعة ومدهشة، وشغله بتجارب فنية وفكرية خصبة، فامتد بظله على الثقافة المصرية والعربية قرنا كاملا، بحيث أصبح ما كان قبله بشارة وإرهاصٌ به، وما رافقه ــ على زحمه وتعدده ــ صار من هوامش متنه، أما ما نبت فى بستانه من مواهب عمرت الحياة الإبداعية فى أجيال متتابعة، فليس منها من لم يشرب من مائه”.
يغوص فضل في صنعة نجيب محفوظ فيقول: “أسس محفوظ بعبقرية النمل الدءوب ديوان الرواية العربية، وانتزع شرعيتها من يد الجيل السابق عليه بإنتاجه المتواصل، ومشروعاته المتراكبة. كان يعرف أنه ابن ثقافة تقدِّس نشوة الشعر وتعشق وجيز الكلمات ومأثور الحكم، وكان هو نفسه يمتلك طاقة شعرية فذة، عرف كيف يوزعها بعدل على مواقفه وتقنياته وكلماته، امتص بجذوره الممتد فى عروق الأدب شعرية الكتابة وفلسفتها منذ الجاحظ حتى طه حسين، والتمس غذاءه المبكر فى أغوار الآثار الفرعونية التى فتنته، فشرع فى احتضانها بوعيه الإنسانى المعاصر ورؤيته المادية العلمية للتاريخ”.
أوجز الدكتور صلاح فضل لغز عبقرية محفوظ فى عدد من النقاط جاءت على النحو التالي:
- إيمانه بأهمية المشروع الروائى للثقافة العربية ولوعى القارئ المصرى والذى لعب دورا جوهريا فى نموه واتصاله وارتفاع مستواه.
- الدأب والمثابرة فى الأداة وطاقته الجبارة فى التجريب والابتكار، الذى انعكس فى إنتاج منظم جعله يتفوق على أقرانه (عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعى وعبد الحميد جودة السحار وإحسان عبد القدوس وغيرهم)، هذ بالإضافة إلى روحه البناءة فى تفادى الصراعات وعدم انهيار الطاقة الخلاقة، ما مكنه من صنع بطانة أخلاقية حفظت له صلابته وجعلته قادرا على حفر مجراه وتدفق عطائه.
- نضج حاسته النقدية فى اختيار الشكل الفنى الذى يكتب به، ومرونته فى الحركة تجاهه.
- عدم افتتانه بذاته وبتجاربه الشخصية مدركا أن حياة الجماعة وخبرتها وتجاربها يجب أن تحتل الأولوية فى مصفاة اختياراته لتمسى محورا للكون، أما نزواته ومواجده الذاتية فضمنها زاوية صغيرة فى لوحاته الكبرى كما يفعل كبار الرسامين الكلاسيكيين.
- وعيه الليبرالى العميق بقيمة الحرية فى الحياة وضرورة العدالة منتقدا فى الوقت ذاته التجارب التاريخية كافة، مضفرا إياها بخلق عوالم ذات طبقات جمالية متراكبة مفعمة بأنواع الدلالات القريبة والبعيدة التى تتواصل مع مستويات القراء كافة.
جدل حول «أولاد حارتنا»
تعرض فضل لثلاثية محفوظ التاريخية (عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة) والتى اختطها محفوظ على أثر ترجمته عن الإنجليزية “مصر القديمة” لمؤلفه جيمس بيكى، والتي تتضمن “مجموعة من الحكايات والأساطير والشعائر الفرعونية”.
بعدها شرع محفوظ فى كتابة رواية «أولاد حارتنا» التي أثارت جدلا حوله، وصل حد تكفير الرجل لسرده قصة النبوات المقدسة بطريقة رمزية، بحسب البعض، لكن تظل المشكلة الرئيسية أن من تصدى “للحكم عليها ومصادرتها قوم لا شأن لهم بالنقد ولا علم لهم بوسائله وأدواته وأخذا بالشبهة والظن وتحرجا فى قضايا الدين وادعاء الفهم والتحليل، بينما أحجم معظم النقاد عن وظيفتهم الحقيقية إيثارا للسلامة وربما عجزا عن إثبات أمر أولى وبديهى: أننا أمام عمل فنى عظيم له قوانينه ونظمه الخاصة المستقلة”، بحسب الناقد.
حسم فضل الجدل الدائر حول أولاد حارتنا بإحصائية جاءت على النحو التالي: إذ قال: إن نسبة ما يتوافق مع التفسير الدينى داخل النص لا يتجاوز الـ26% ويظل الباقي 74% منها ماد روائية بكر ابتدعها خيال الكاتب دون أن تكمن خلفها أية عناصر تراثية، بل تتمتع بحرية قصوى فى التوصيف والتوظيف، وأن هذه النسبة القليلة المشدودة للنموذج الكونى لا بد من تأويلها هى الأخرى فى ضوء البنية الكلية لتتمتع باستقلالها”.
محسن زايد يكتب دراما «حديث الصباح والمساء»
مازح صلاح فضل نجيب محفوظ فى البرنامج الإذاعى الشهير “مع النقاد”، بحسب ما سجل في “عوالم نجيب محفوظ” قائلا: “إننا مازلنا فى انتظار الرواية ذاتها بعد أن دوختنا قائمة شخصياتها المنشورة؛ لأن ما كتب حتى الآن لا يكفى لتخليق الكيان الكلى للرواية”، ذاكرا أسانيد حكمه، التي جاء فيها قوله لنجيب محفوظ: “لقد جهزت مادة دسمة وثرية ورائعة لواحدة من أعظم رواياتك التاريخية الخصبة، وقد أطلعتنا بأمانة على كيفية إعدادك لولائمك الشهية، وكشفت لنا أسرار أسلوبك فى كتابة المطولات بطريقة محكمة .. وعليك الآن أنت تكتب الرواية…إلخ”.
وتابع قوله فى الدراسة “بعد مضى أربعة عشر عاما على نشر هذه الرواية التى لم يقر بها المؤلف، يأتى كاتب السيناريو القدير الأستاذ محسن زايد ليقوم بطرف المهمة نيابة عن محفوظ…. فقد التقط بعض الخيوط الرفيعة التى طرحها محفوظ ونسج منها رقعة حية غنية بالتفاصيل الباذخة فى الصور البصرية والمادة السمعية والروح الإنسانية، أى كسا الهيكل العظمى المتشذر فى الأصل لحما ودما دراميا حقيقيا”.
وفى موضع آخر يقول: “كاتب السيناريو يملأ الفجوات بالمواقف والأفعال والأقوال، بما يربو عشرات المرات على الخطاطة الأولية ويقدم نسيجا دراميا متشابكا متكاملا”.