ماجد كيالي يكتب: استحالة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية مع إسرائيل الديمقراطية الليبرالية
كانت إسرائيل، منذ قيامها، تفوّقت وتغطرست على العالم العربي بفضل تميّزها في مجالي إدارة المجتمع والدولة، أكثر بكثير من تفوّقها عليهم بالوسائل العسكرية وبعوامل تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي وبعلاقتها مع الولايات المتحدة، بل إن نجاحها في استثمار هذه العوامل لم يكن ممكناً لولا تميّزها في المجالين المذكورين.
معلوم أن النظام السياسي في إسرائيل تأسّس منذ البداية على الديمقراطية (طبعا بالنسبة لمواطنيها اليهود) وتداول السلطة، وعلى دولة المواطنين والمؤسسات والقانون، وضمان حقوق الأفراد والحريات الشخصية وتكافؤ الفرص، وحل الخلافات وتعيين التوازنات في المجتمع عبر المؤسسات الشرعية التمثيلية وعبر صناديق الاقتراع؛ وكل ذلك من دون صلة بالفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين (الأغيار بالمفهوم الإسرائيلي).
طبعاً لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن إسرائيل هي تلك الدولة المثالية في هذه المنطقة، فهي ليست كذلك إطلاقاً، إذ إن هذه الدولة اصطنعت بوسائل القوة، وقامت بوسائل الدعم الخارجي، وبجلب المهاجرين اليهود من الخارج.
أيضا فإن هذه الدولة نشأت، منذ البداية، مع تناقضاتها، فهي دولة علمانية في حين أنها تحيل مشروعية قيامها إلى الأساطير الدينية (اليهودية)، وتمنح مواطنيتها على أساس الانتماء الديني، وتصوغ الكثير من تشريعاتها بالاستناد إلى الشريعة اليهودية، ما يثير الشبهات حول علمانيتها، وقد عملت هذه الدولة على «قومنة» الدين و«تديين» القومية، باعتبارها الدين اليهودي بمثابة «قومية» فوق التاريخ وباعتبار اليهود «شعب الله المختار»!
كذلك فقد تأسّست هذه الدولة على تشريد معظم الفلسطينيين، ومصادرة حقوقهم واحتلال أراضيهم، وعملت على تغييبهم أو إزاحتهم من الزمان والمكان، لإضفاء المشروعية التاريخية والأخلاقية على إقامتها، كما قامت بالتمييز ضدهم، ما يثير الشبهات حول صدقيّة تبنيها للديموقراطية الليبرالية.
فوق كل ذلك، لا يمكن إنكار دور هذه الدولة في تعزيز نزعة العسكرة والحرب والاستبداد في هذه المنطقة، وأنها ظلّت بمثابة ذريعة، بالنسبة إلى أنظمتها لصدّ متطلبات التنمية والحريات ومسارات التكامل الاقتصادي.
الآن يبدو أن إسرائيل تشهد مساراً مختلفاً عما شهدته في طور صعودها في الخمسينات والستينات، وربما في السبعينات، إذ ثمة عوامل عديدة أدت إلى إحداث تحولات نوعية فيها أثّرت على مكانتها وعلى طبيعتها وتعريفها لذاتها.
فقد تعرضت إسرائيل في عقد التسعينات إلى تغيير ديموغرافي كبير نجم عن هجرة حوالى مليون يهودي من روسيا (وبلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً) إليها، ومع أن هؤلاء أغنوها بجيش من الكفاءات إلا أن أنهم لم يأتوا من بيئة تشرّبت القيم الديمقراطية الليبرالية، وجاءوا لأسباب نفعية استعمارية، ما جعلهم يصطفون على يمين خريطتها السياسية، وهؤلاء يشكلون اليوم قاعدة حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني المتطرف، بزعامة افيغدور ليبرمان، الذي هدّد مرة بتدمير السد العالي!
أيضاً، فإن إسرائيل لم تسلم من موجة صعود التيار الديني في المنطقة، ما يمكن ملاحظته بازدياد مظاهر التديّن فيها (58 من سكانها اليهود يعتبرون أنفسهم متدينين)، وكذلك بصعود نفوذ الحاخامات المتطرفين، وبتزايد مكانة الأحزاب الأصولية المتطرفة والتي باتت تتحكّم بالائتلافات الحكومية وتفرض شروطها عليها، لا سيما بخصوص موازنات المعاهد الدينية والتشريعات ونظم التعليم، على نحو ما نشهد في حكومة نتنياهو الحالية، التي تضم إضافة إلى حزبه ليكود، أحزاب شاس (لليهود الشرقيين) ويهوديت هاتوراه (لليهود الغربيين)، والصهيونية الدينية لسموريتش (الذي يريد محو حوارة والذي نفى وجود الشعب الفلسطيني)، وبن غفير المتطرف سليل حركة كاهانا، والمدافع عن باروخ غولدشتاين (مرتكب مجزرة الخليل) إيغال عامير (الذي اغتال رابين).
وقد تأثرت إسرائيل بمسارات العولمة، وبسياسات الليبرالية الجديدة، ما جعلها تذهب نحو تقليص التقديمات الاجتماعية، وانتهاج الخصخصة، والتخلّي عن المؤسسات العامة التي شكلت يوماً العمود الفقري للمشروع «الاشتراكي» الصهيوني (الكيبوتزات والهستدروت)، ما أدى إلى تزايد الفجوات في المجتمع، وارتفاع نسبة الفقر، وهو ما أطلق الثورة الاجتماعية التي شهدتها إسرائيل مؤخراً.
نستنتج من ذلك أن إسرائيل لم تعد ذاتها وأنها جنت على نفسها، فهذه الدولة التي حاولت تأسيس ذاتها كمشروع حداثي ديمقراطي وليبرالي يحرص على تأمين الرفاه لمواطنيها اليهود، كي تجعل من نفسها نموذجاً جاذباً لتشجيع يهود العالم على الهجرة إليها وكي تميّز نفسها عن الدول المحيطة بها، لم تنجح تماماً، بدليل اصطدامها بتناقضاتها الداخلية، التي حاولت إخفاءها، بقصة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتهديد الخارجي لوجود إسرائيل.
كل ذلك يفسر أن إسرائيل اليوم باتت تتكشف على شكل دولة شرق أوسطية بدون أقنعة الحداثة والديمقراطية والليبرالية، أي على شكل دولة ثيوقراطية يسيطر على توجهاتها الحاخامات والأحزاب الدينية، فها هي إسرائيل، وعبر الكنيست (الذي من المفترض انه معقل الديمقراطية) تقوم بالانقضاض على نمط الحياة الديمقراطية الليبرالية فيها عبر سنّ تشريعات تمسّ حرية الإعلام وتضيّق على منظمات المجتمع المدني، والتدخّل في تعيين القضاة والحد من صلاحيات محكمة العدل العليا، والتوجه إلى إدخال تغييرات في المناهج التربوية، ما يعني أن التمييز ضد الآخرين بات يطال مواطنيها اليهود أيضاً، وها هي إسرائيل فوق كل ما تقدم تصرّ على كونها دولة يهودية حصراً، ودولة شريعة، في دلالات عنصرية، تعلي من شأن القومية على حساب المواطنة.
الفكرة ليست أننا إزاء إسرائيل جديدة، هي ذاتها إسرائيل الاستعمارية العنصرية الدينية، لكنها اليوم تظهر بدون تلك الغلافات التي تحجبت بها طويلا، وهذا الواقع يوضح أنه لا يمكن لدولة أن تكون كذلك، وبنفس الوقت ديمقراطية وليبرالية وحداثية، أي أن طابعها الداخلي مرتبط تماما بطابعها الخارجي، وبالعكس.