ماجد كيالي يكتب: تحوّلات الفكر السياسي لـ “فتح” في الذكرى الـ 56 لانطلاقتها

ماجد كيالي

ربما من المفيد، في الذكرى الـ 56 لانطلاقة حركة فتح، إجراء قراءة أولية في التحولات الحاصلة في الفكر السياسي للحركة، في مرحلة صعودها وهبوطها، التي امتدت لأكثر من نصف قرن، في مسيرة كفاحية طويلة ومضنية ومعقّدة، لملاحظة أين كانت هذه الحركة وأين أضحت، وكيف بدأت وكيف انتهت، وكيف شبّت وكيف هرمت؟.. أولاً: من مدخل الأهداف والطموحات. وثانياً: من مدخل الوسائل أو الأشكال النضالية التي اعتمدتها لتحقيق تلك الأهداف.

وكانت حركة “فتح” عرّفت الأفكار السياسة المؤسّسة لها في مجموعة “المنطلقات والأهداف والأسلوب”، التي أصدرتها في أواخر الستينيات، وباتت تتكرر كلازمة في مجمل أدبياتها وخطاباتها، ولاسيما في مقدمة وثيقة النظام الأساسي الذي تقرّه مؤتمراتها (على الأقل حتى المؤتمر الخامس). وقد انطلقت تلك الأفكار من اعتبار “فلسطين جزءًا من الوطن العربي” (المادة 1) وأن شعبها هو “صاحب الحقّ في تقرير مصيره والسيادة على جميع أراضيه» (المادة 2)، وأن “القرارات التي صدرت أو تصدر عن هيئة الأمم المتحدة، أو مجموعة من الدول.. والتي تهدر حق الشعب الفلسطيني في وطنه باطلة ومرفوضة” (المادة 6) لأن «الوجود الإسرائيلي في فلسطين هو غزو صهيوني عدواني وقاعدته استعمارية توسعية…» (المادة 8). أما الأهداف، كما حددتها “فتح”، فتتمثل في “تحرير فلسطين تحريراً كاملاً وتصفية الكيان الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً” (المادة 12). وهذا طبيعي لأن هذه الحركة انطلقت قبل حرب (1967)، أي أن تعريفها لفلسطين كان كاملاً ولم يكن يقتصر على الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع.

اللافت في هذه الأهداف تبني “فتح” في فترة مبكّرة من تاريخها لهدف الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية، في النص الذي تضمن “إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية.. على كامل التراب الفلسطيني تحفظ للمواطنين حقوقهم.. على أساس العدل والمساواة من دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة» (المادة 13). ومعنى ذلك وقتها حل المشكلة اليهودية أو مستقبل اليهود في فلسطين، بما يتضمنه ذلك من التمييز بين الصهيونية واليهودية، وتحرير اليهود من الصهيونية، وكانت هذه فكرة لافتة ورائدة آنذاك.

أما من جهة الوسائل وأشكال النضال فقد أكدت “فتح” أن “الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين.” (المادة 17)، وأن “الكفاح المسلح.. لن يتوقف… إلا بالقضاء على الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين” (المادة 19). اللافت، أيضاً، أن هذه المبادئ تضمّنت، أيضاً، «مقاومة الحلول السياسية المطروحة كبديل عن تصفية الكيان الصهيوني» (المادة 22).

الآن، وبصرف النظر عن رأينا، أو تقييمنا، لهذه الأفكار، ومدى نضجها، أو مقاربتها للواقع، ولإمكانيات الفلسطينيين، فإنها هي التي شكّلت هوية “فتح”، وميّزتها عن غيرها، وساهمت في تعزيز شعبيتها، في بيئة كانت تعجّ بالأيديولوجيات والأطروحات القومية واليسارية والإسلامية.

بيد أن تلك الحركة لم تصمد على مواقفها تلك، كما هو معروف، إذ مع الزمن، أدخلت عليها تغييرات نوعية عديدة، بفعل التحولات والتطورات والضغوطات، الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية والإسرائيلية، حتى أن ثمة أفكار ومنطلقات وأهداف تم شطبها نهائياً، لكن ذلك حصل بعد انتهاء ظاهرة المقاومة المسلحة في الخارج، وتحول مركز ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، بعد الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993)، ولاسيما بعد عقد اتفاق أوسلو (1993) وإقامة كيان السلطة، وعلى وجه الخصوص بعد رحيل قائدها ياسر عرفات.

في هذا السياق قد يجدر بنا التنبيه إلى ثلاثة مسائل. الأولى، أن المبادئ المذكورة تم تضمينها في الوثائق الصادرة عن مؤتمري “فتح” الرابع (دمشق 1980) والخامس (تونس 1989)، على رغم التغييرات النوعية الحاصلة في السياسة الفلسطينية، والتي انتهجتها قيادة هذه الحركة بالذات، منذ ذلك الوقت، من موقعها في قيادة منظمة التحرير، والتي تجسّدت في التحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة سلطة أو دولة في أي جزء يجري تحريره، منذ أقرّ ما بات يعرف بـ “البرنامج المرحلي”، في الدورة (12) للمجلس الوطني الفلسطيني (1974). ولعل ذلك يكشف حقيقة روح المناورة عند هذه القيادة، ولا مبالاتها بالإنشاءات السياسية مقابل تركيزها على السياسات العملية، واستخفافها بالفجوة بين الشعارات والممارسات، وتمييزها بين القرارات والخيارات؛ وهذه واحدة من أهم سمات عمل القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح في آن واحد). والمعنى أن قيادة “فتح” ظلّت تتعمد التورية، والحديث بلغة مزدوجة، حتى ذلك التاريخ، بل إن مقررات المؤتمر السادس الذي عقد في بيت لحم، وبعد إقامة السلطة، بموجب اتفاق أوسلو، وبعد رحيل ياسر عرفات، تضمنت انتهاج “فتح” لكل أشكال النضال وضمنها الكفاح المسلح! وبديهي أن هذاً مجرد كلام إنشائي الغرض منه ترضية قواعد الحركة وجمهورها، أكثر من أي شيء آخر، بدليل أن أبو مازن (رئيس فتح والسلطة والمنظمة) يعتبر أن التنسيق الأمني مع إسرائيل أمر مقدس، أو لا يجوز المسّ به، كما شهدنا في حدث توقف التنسيق الأمني لعدة أشهر بين مايو ونوفمبر من هذا العام.

أما المسألة الثانية، فتتمثل في أن قيادة “فتح” تجاوزت الأفكار الأساسية لحركتها، بتحولها من مشروع تحرير فلسطين، وإقامة دولة واحدة ديمقراطية، إلى مشروع إقامة دولة في جزء من فلسطين (الضفة والقطاع)، كما تحولت من انتهاج الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير فلسطين إلى انتهاج العمل الدبلوماسي، والمفاوضة، من دون أن تسعى إلى شرعنة كل ذلك بقرار جماعي يصدر عن تنظيمها، والأصحّ أنها لم تشعر بضرورة ذلك، بحكم هيمنتها على الحركة، والمنظمة، بدليل أن الأمور سارت كما سارت عليه، رغم ظهور خط معارض في “فتح” لهذا التوجّه، في حينه، مع ملاحظة أنها فعلت ذلك فيما بعد، أي بعد انهيار ظاهرة الكفاح المسلح في الخارج (في المؤتمر الخامس ثم السادس ثم السابع)، أي بعد أن أحكمت قبضتها على الحركة.

المسألة الثالثة التي ينبغي الانتباه إليها، في هذا المجال، مفادها أنه إذا كان المؤتمر العام الخامس لهذه الحركة أدخل تعديلات على بعض منطلقات الحركة وأهدافها ووسائل نضالها، انسجاما مع “البرنامج المرحلي” المتعلق بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ومع برنامج “الحرية والاستقلال” المقر في المجلس الوطني الفلسطيني (الجزائر 1988)، فإن المؤتمرين العامين السادس والسابع للحركة كانا حذفا نهائياً الأفكار المؤسسة لحركة “فتح”، والتي ذكرناها سابقاً، كأننا بتنا إزاء “فتح” أخرى؛ وإن مع نفس الأشخاص تقريباً!

مثلاً، فقد لخّص المؤتمر السادس، في عبارة واحدة، مراحل مهمة عديدة من التجربة الوطنية الفلسطينية، دون أن يصدر أي دلالات سياسية بشأنها، وبدون أي نظرة تقييمية أو نقدية، في قوله: “في 9 ديسمبر 1987.. انطلقت انتفاضة الحجارة.. ليعلن بعدها المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 15 نوفمبر 1988 قيام دولة فلسطين.. وجاءت حرب الخليج (1990) وانهيار الاتحاد السوفيتي وخسارتنا لصديق كان دائماً إلى جانبنا، وخسارتنا العربية في العراق والخليج، وبروز القطب الأمريكي الأوحد في العالم، فكان لزاماً علينا إعادة النظر في إستراتيجيتنا المرحلية واغتنام فرصة التحرك بالسلام، فكانت عملية السلام وقيام السلطة الوطنية”؛ علماً بأن هذا الكلام جاء عام 2009، أي بعد إخفاق مفاوضات كامب ديفيد2 (2000) وتجربة الانتفاضة الثانية، وخسارة فتح في الانتخابات التشريعية (2006) سيطرة حماس على غزة، والحرب الإسرائيلية على غزة، وبعد تبيّن الأغراض الإسرائيلية من اتفاق أوسلو، على ضوء تجربة عمرها 16 عاماً!

وعليه، فقد صدر عن هذا المؤتمر عبارات عامة لا تتناسب مع حركة سياسية قادت كفاح شعب، قدم كل تلك التضحيات، من مثل أن أهدافها “تحرير الوطن وإنهاء استيطانه”، وفي حين أن “الوطن” بات مختزلاً في الضفة والقطاع (على الأكثر) فإن كلمة “تحرير” لا دلالة لها. أما قضية اللاجئين فجرى الحديث عنها بعبارات تتضمن تأكيد حقهم “في العودة والتعويض، استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة، وقرار الجمعية العامة رقم 194″، و”ضرورة تفعيل وتعزيز دور الجاليات الفلسطينية”، و”إشراك الفلسطينيين في الشتات في أنشطة الحركة والمنظمة”، و”التصدي لمساعدة أبنائنا في الشتات عند تعرضهم للأخطار، كما حدث لأبناء شعبنا المقيمين في العراق”.

هذا يفيد بأن تحول “فتح” نحو التسوية في مطلع السبعينات لم يحدث نتيجة تطور في الثقافة السياسية لـ “فتح” كحركة، ولم يشرّع في مؤتمراتها، وإنما اتخذ هكذا خيار في إطار اللجنة المركزية فقط، وهو ما حدث مع اتفاق أوسلو (1993). يستنتج من كل ذلك أن الحركة الفلسطينية لم تكن تولي اهتماماً مناسباً لفكرها السياسي، وأن الطبقة القيادية فيها هي التي تتحكّم بتقرير الخيارات الكبرى، وأن الديموقراطية لا تشتغل جيداً في الحقل السياسي لفصائل الفلسطينيين، وضمنها “فتح”.

طبعاً، ليس القصد هنا نفي شرعية التغيير في التفكير السياسي للحركات والأحزاب، فهذا أمر محمود، على أن يأتي نتيجة لتفاعل داخلي، وكمحصلة عملية ديمقراطية، وفي سياق الإغناء والتطوير، مع المحافظة على الهدف الأساس، أو الروح التي شكّلت هذه الحركة أو الحزب، وهي بالنسبة لـ «فتح» تتحدد في تعزيزها هوية الفلسطينيين وكيانيتهم السياسية، واستمرار كفاحهم لتقويض المشروع الصهيوني الاستعماري والعنصري، الذي تمثله إسرائيل.

 

[covid19-ultimate-card region=”EG” region-name=”مصر” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”AE” region-name=”الإمارات العربية المتحدة” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region=”PS” region-name=”فلسطين” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]

[covid19-ultimate-card region-name=”العالم” confirmed-label=”اجمالي الحالات” confirmed-24h=”true” confirmed-24h-label=”الحالات الجديدة” deaths-label=”اجمالي الوفيات” deaths-24h=”true” deaths-24h-label=”الوفيات الجديدة” deaths-rate=”true” deaths-rate-label=”نسبة الوفيات” recovered-label=”المتعافون” active-label=”حالات تحت العلاج” font-color=”#ffffff” bg-color=”#0c3278″ bg-position=”right” rtl=”true” last-update=”Y-m-d H:i” last-update-label=”تم تحديث البيانات في :”]